روح الشعب 

 


 

 

ثمة سؤال يتبادر إلى ذهن المتابع للشأن السوداني فيما يخص طبيعة الانقسام الحالي: هل هو انقسام بين مبدئين وانتهازيين، كما يود لنا البعض أن نعتقد، أم إنه صراع بين قوى حديثة وقوى تقليدية، أم إنه صراع بين ثوريين واقعين وثوريين حالمين؟ تحتمل الإجابة كلا ما هو أعلاه، بل يجوز أن يكون الانقسام بين مجموعتين انتهازيتين ظنتا أن الشعب قد خفضت ثوريته فأرادتا أن تمتحنا صبره وذكاءه باللجوء مباشرة إلى الشارع مُتَجَاوزْين الاروقة السياسية والمؤسسات السيادية والتنفيذية التي من المفترض أن تناقش بداخلها وتعالج فيما القضايا العالقة.

خطورة مثل هذه الأساليب أنها تؤجيج المشاعر وتلهب العواطف فتعلى وتخفض من حجم التوقعات دون أن يكون هنالك وسيلة لترشيد الحوار والدفع به نحو تحقيق المصلحة الوطنية العليا. بل إنّها تفتح المجال للمغامرين ليستولوا على السلطة متعذرين بضعف أداء المدنيين. لقد خرج الشعب في 21 أكتوبر وهو عازم على ألا يعطى أيّاً من المجموعتين المتخاصمتين تفويضاً، إنما تحذيراً وتنبيهاً، يبينان قدرته على تولى زمام المبادرة وتفويض من يراه مناسباً حال فشلهما في التواصل بطريقة تضمن الاستقرار وتدفع به نحو تحقيق الانتقال السلمي للسلطة.

لا أدري حقيقة ما الغاية التي كان يرجى تحقيقها من حل الحكومة علماً بأنه لم يمض عاماً على تكوينها. هل كانوا يبيتون النية للإطاحة برئيس الوزراء ولماذا أم إنهم يريدون تحسين أداء الحكومة وما هي وسيلتهم لذلك؟ إن شرعية حمدوك قد تآكلت نسبياً بيد أنه لم يزل يحتفظ بنسبة عالية من القبول المحلي والإقليمي والدولي، كما إن أداء الوزراء يعتبر جيداً (مقارنة بأداء الحكومة الأولى) وقد انضمت لها مجموعة من شباب الريف الحادبين، بعد أن كانت ممثلة لقطاع صغير من قطاعات الشعب السوداني. لم نكن في حوجة لإرباك المشهد السياسي بتغيير الحكومة، كل ما كنا نحتاجه هو ممارسة ضغوطاً على الحاضنة السياسية كي تلتزم بالمؤسسية وأن تعنى بالشفافية في كآفة أنشطتها. وإذا كان ثمة إصلاح منشود فللمنظومة كلها.

كان يجب على الحاضنة السياسية أن تتوحد وأن تنأى بنفسها عن نهج التنميط الذي أكسبها عداء قطاعات كان يمكن أن تكون عضداً للثورة، لا أن تكون خصماً لها، تحديداً الريف بعمقه القبلي والصوفي، الشباب والنسوة، وكبار الشخصيات الوطنية والعسكرية، الخبراء والعلماء وكثير ممن لزم أن يتم تمثيلهم في المجلس التشريعي المزمع تكوينه. الأمر الذي كان يتطلب أن تعدل الوثيقة الدستورية بحيث لا تحوز (قحط) أكثر من الثلث، إذ لا بد من مراعاة الاوزان الاجتماعية والسياسية، كما الثقافية الفكرية. هذا إن أردنا تكوين جبهة وطنية عريضة، أمّا إذا آثرنا حبل الاستحواذ، فإننا سنقع ضحية الاستقطاب الذي يضعف من قدرة الشعوب على الصمود، هذه المرة في وجه العسكر الذين لن يدخروا جهداً يبذلونه لترويض المجتمع مستخدمين حيل الترهيب والترغيب. أنا هنا أتكلم تحديداً عن اللجنة الأمنية التي أصبحت تطاردها أشباح الضحايا في الهامش والمغدور بهم في الخرطوم في ساحة الاعتصام (29 رمضان).

إن العسكر يضيعون وقتاً كان يمكن أن يوظفوه في تنفيذ متطلبات الشعب السوداني والسعي نحو تطلعاته، علّ ذلك يشفع لهم عندما تأتي ساعة المسآلة. لقد ذهبت الطغمة العسكرية في اتجاهات لم تكن من اختصاصهم، كما إنها لم تكن من أولويات الثوار مثل التطبيع مع إسرائيل، خلق مسارات في أماكن لم تكن بها حروب وإن كان لديها ظلامات، إلى آخره. أمّا المدنييون فقد عنوا بتطبيق سياسات اقتصادية على نهج ليبرالي يتعارض مع توجهات المؤتمر الاقتصادي، الأمر الذي تسبب في الضنك الذي تعيشه البلاد وما صحب ذلك من معانات. بل إنهم استغلوا فرصة غياب المجلس التشريعي وصادقوا على اتفاقيات – مثل إتفاقية سيداو – لم تشكل هاجساً يوماً للسودانيين الذي ثاروا ضد الطغيان، فإذا بهم يعانوا من طغيان اقتصادي واجتماعي وثقافي، وحتى سياسي تجلى في شكل الاستبداد الذي تمارسه قحط باقتصارها المشورة على فئة قليلة – غير مدركة وغير واعية – من الناشطين.

لقد باءت محاولة العسكر للمرة الثانية في خلق شارع موازي للشارع الثوري (المرة الأولى كانت عندما استقدم رجالات الإدارة الأهلية لدعم العسكر في محاولتهم لتسيّد المشهد السياسي والرجوع بالبلاد إلى خانة الاستبداد الإنقاذي)، وهاهم يغامرون بالإستيلاء على السلطة رغم إنّهم يتربعون على قمتها. لا أخالهم سيبلغوا غايتهم في الوصول إلى سلطة مطلقة، فالشعب سيقاومهم مقاومة باسلة وسيكون هناك تضحيات علها تحدث إنشقاقاً يدفع الضباط الوطنيين للتحرك لتجنيب البلاد حمامات دماء.

أخطر ما في هذه المرحلة هو التحالف الجهوي والمناطقي بين الدعم والسريع وبعض قادة الحركات، والتحالف الإيديولوجي بين الكيزان وأحد قادة الحركات. ألم يكن من الأولى لقادة الحركات الإهتمام بالترتيبات الإدارية والمؤسسية التي تتطلبها مواقعهم التي استحقوها بموجب إتفاقية جوبا أم إنهم افتقروا إلى الإلتزام الأخلاقي الذي يتطلب المثابرة والمصابرة للتعامل مع الشق المدني وعدم التنسيق مع الشق العسكري مهما كانت المشقة النفسية؟ لقد ظلت هذه المتلازمة تلاحق السياسة السودانية والتي دفعت المدينيين للتعامل مع العسكريين في كل مرة عندما يضيقون ذرعاً ببعضهم البعض.

لقد تزرع بعض قادة الحركات بأن "أربعة طويلة" أقلية أيديولوجية استحوذت على المشهد السياسي، رغم إننا في دارفور لم نتبرم من هيمنة أقلية عرقية على مقاليد الأمور في الإقليم الغربي، وما ذلك استهواناً منّا بالشأن العام، إنّما تغليباً للمصلحة الوطنية التي تقتضي إعطاء أولوية للإستقرار وتدعيم المؤسسات وتقويتها كي تقوم بدورها في التنمية الإجتماعية والإقتصادية والسياسية.

كان من المفترض ومن البديهي أن تدرك قحط، كما العسكر، أن الشعب لم يعط أحداً شيكاً على بياض، وأن تفويضه مقيدٌ بالالتزام ببنود الوثيقة الدستورية التي لا يمكن أن يتم تعديلها إلا من خلال الجهاز التشريعي أو إجماع مجلس الشركاء.

أتفهم جداً استياء مجموعة الميثاق (قحت ب) من المجلس المركزي (قحت أ)، لكنني لا أجد ذلك مبرراً كافيا للوقوع في أحضان اللجنة الأمنية لعمر البشير، فهؤلاء كانوا سيغدرون بهم في أول منعطف رغم العبارة الفضلي لرئيس الوزراء من أنهم "يعملون في تناغم تام مع العسكر." هل هذه هي النتيجة "التناغم التام"؟

لعل ذلك ما كنّا نحتاجه بالضبط للتخلص من الناشطين السياسيين والمغامرين العسكريين ومن ثم الإتيان برجال دولة من المدنيين يعاونهم – ولا يقودهم – ضباط محترفين لقيادة المرحلة القادمة. فهذا الإنقلاب ستدحره لا محالة الإرادة الشعبية مهما بلغ الثمن، كما إن غربال الثورة قد محص الإنتهازيين وفضح حبائل المتواطئين كافة. لا غنى عن التعامل بين المدنيين والعسكريين بالنظر إلى ظرف السودان الأمني والعسكري، لكنهم يجب أن يكونوا من فصيل محترف.

لا مستقبل للطغمة العسكرية في ظل الضغوط الشعبية، والضغوط الإقليمية التي قد تطالهم في شكل عقوبات شخصية وجماعية وها هم قد سولت لهم أنفسهم يوماً الاستيلاء على السلطة، والحال هكذا فإن الجيش لن يقف مكتوفي الأيدي وهو يناظر قيادته تتردد في الاستجابة لنداءات الشعب، بل التآمر عليها. كما إن الشعب لم يكن ليصبر على تلكؤ الجهاز التنفيذي وتباطئه عن الامتثال لموجهات الثورة برغم التأييد الذي حازه وها هو قد أعطاهم فرصة أخيرة للإمساك بالعصا من طرفها الذي فيه روح الشعب التواق للحرية والسلام والعدالة. لكنهم ببساطة أخفقوا في حماية الديمقراطية كما أخفقوا في الإضطلاع بمهامهم الدستورية.

ختاماً، إن الشعب قد أعطى كلاً من المكونيين المدني والعسكري فرصتين ولا أظنه يجود عليهما بفرصة ثلاثة وها هي الجموع تتأهب في غياب القيادة لمواجهة مرحلة فيها شديد من التعقيدات؛ إنها تؤجل معركتها مع المدنيين لكنها لا تغفل عن تواطؤهم، بل وتماهيهم غير المفهوم مع اللجنة الأمنية. وإذا ما حانت لحظة التصدي للشق المدني فإنها ستكون مواجهة دون أي مواربة أو تزرع يضعف الأداء، إنما الاستئصال الذي يتبعه الاستعانة بجيل قادر على حمل الأمانة.

عوض عن التعويل على الشعب اتخذ العسكر جهالات قحط  الأولى وتظلمات قحط الثانية مبرراً للتخلي عن الإيفاء العهود. بتصرفاتهم الهوجاء وانقضاضهم على المدنية فقد عسكر اللجنة الأمنية ما تبقى لهم من شرعية ولن يستطيعوا بعد الأن أن يستمروا في آداهم المسرحي، فمن الأحرى لهم أن يستقيلوا قبل أن يقالوا، أو أن يقادوا إلى سجن كوبر كي ينعموا بصحبة رئيسهم المخلوع.

إن أي مماحكة من الآن فصاعداً ستدخل الشعب في مواجهة دموية مع هذه الفئة الباغية. إن الشعب، وإن هزل جسده وأنهك، فإن روحه ما زالت يقظة وذهنيته ما زالت متقدة، فليحذر الساسة والعسكر من محاولتهم التلاعب به أو الاستهزاء بشعارته التي رددها داويه ظهيرة 21 أكتوبر المجيدة. إذا كانت ثمن انقسام فهو في أوساط النخب السياسية، التي اختارت الاندغام (وليس التناغم) مع العسكر، أما الشعب فإن موقفه موحد ووجهته واضحة لا يسعنا غير الإلتزام  بها والعناية بقصدها.


الوليد آدم مادبو


auwaab@gmail.com

 

آراء