روّاس مراكب القدرة .. “ضو البيت”: وداعا أيها الزين .. د. محمد عثمان الجعلي
20 May, 2009
روّاس مراكب القدرة
"ضو البيت": وداعا أيها الزين
د. محمد عثمان الجعلي
الجزء الأول
(دبي :مايو 2009)
المدارج والعتبات:
رواس مراكب القدرة:
يقول الطاهر ود الروّاس إن الاسم الوحيد الذي ورثه عن أبيه كان لقبا لم يناده به إلا الكاشف ود رحمة الله، كان ود رحمة الله يقول إن بلال روّاس ويسألونه روّاس ماذا؟ فيجيب:"بلال روّاس مراكب القدرة". ويقسم أنه رآه عدة مرات بين العشاء والفجر وهو قائم وحده في مركب ينقل قوما غريبي الهيئة إلى الشاطئ الآخر. ويقول الطاهر إن أباه حين مات أخذ أسماءه جميعًا معه. كأنه كان بالفعل روحًا مفردًا ليس من أرواح هذا الزمان ولا هذه الأرض".
(مريود : طبعة دار العودة: الصفحة 48)
العشق:
"وملْ إلي البان من شرقّي كاظمة فلي إلى البان من شرقيِّها أربُ
وكلما لاح معنى من جمالهم لباه شوقٌ إلى معناه منتسبُ
أظلُّ دهري ولي من حبهم طربٌ ومن أليم إشتياقي نحوهم حَرَبُ""
(إبن الخيمي)
المحبة :
"الإنسان يا محيميد ... الحياة يا محيميد ما فيها غير حاجتين اتنين... الصداقة والمحبة. ما تقولي حسب ونسب، لا جاه ولا مال.. ابن آدم إذا كان ترك الدنيا وعنده ثقة إنسان واحد.. يكون كسبان".
(الطاهر ود الرواس : مريود الصفحة 432، الأعمال الكاملة ، طبعة دار العودة)
الإنتماء:
"السَمكةُ،
حتَّى وهي في شباكِ الصيادين
تَظلُ تحملُ
رائِحة البَحر"
(مريد البرغوثي: رأيت رام الله، الصفحة 181)
إهداء وعزاء خاص:
إلى أستاذيَّ وشيخيَّ:
إبراهيم حسن عبد الجليل ومهدي أمين التوم
في رحيل الطيب صالح خسارة كبيرة لقيم إنسانية رفيعة، موروثة ومكتسبة، تربيا وعاشا عليها وكانا، وما زالا، مهمومين بإشاعتها وترسيخها في وجدان وسلوكيات من أحبوهم:
الأطر والضوابط الأخلاقية غير المساومة نبراسها
والتعفف ممزوجاً بالتواضع الحقيقي رمانة ميزانها
وزجر النفس ولجمها عن وعند الهوى صمام أمانها
وإلى روح أخينا وأستاذنا العميد حقوقي "م" عبد المنعم حسين عبد الله:
آمن بما رأى أنه الحق فكان عقله وقلبه حيث آمن..
ثبت على عمله والتزم الجماعة..
كما الطيب ...كان إنسانا نادرا على طريقته..
اتخذ من المحبة "جلابية" ومن النقاء والبراءة "عِمة" و"شال"...
داراه بحي النسيم بمدينة الرياض السعودية وبحلفاية الملوك بالخرطوم البحرية كانتا واحة إنسانية وقبلة وطنية...
رحل موفور الإباء ليختال بإذن ربه زاهياً في بساتين البهاء..
رحمة الله تغشاك يا أبا محمد
المناداة: مرجانة في تماهي الذات في الوطن
"كثيرون من العشاق يأتون حيّك
والدم في قلوبهم يسَّرب من عيونهم، ثم يرحلون
وحدي، عند أعتابك أبقى كالغبار
فيما الآخرون يأتون كالريح ويمضون"
(مولانا جلال الدين الرومي: "حين أناديك يا أنت، فندائي بيني وبينك حجاب")
"إن أي مسعى يبدأ دائما بحظ المبتدئ وينتهي دائما باختبار المقتحم"
(باولو كويلو : الخيميائي)
"ليلنا أسودَّ وطال
نَهارُنا بالكدحِ والإملاقِ
داج
هيئوا أنفسكم ..
مُلكنا من دونِ مُلكٍ
مُلكنا من غيرِ تاج
افتحوا أعينكم..
شوّش الرؤية في أرواحكم
هذا السناج..
وأنا قد بِتُّ أُدركُ مَنْ أنا
وأنا قد بتُّ أفهم
ما الذي يعنيه كنهُ الوردةِ..
النبضِ .. السنا
وأنا قد بتُّ أفهمُ
ما الذي يمليه.. قيدُ
القٍبلةِ .. الوطنِ .. الزجاجْ"
(إيمان آدم خالد: من قصيدة "وطن زجاج" :ديوان "تجاوز بغابة الخيزران")
هادئا كطبعه أناخ شيخنا الطيب الركاب....لطيفا كالنسيم عبر إلى الشاطئ الآخر ..كالطيف انسرب من بين أعين قراء أدمنوا حرفه اليانع ولغته الجزلة الحية وآذان مستمعين سكنت وجدانهم كلماته المضيئة الحكيمة.. ذهب الرجل مخلفا الباقيات الصالحات الطيبات من أعماله والذكر الحسن ...غادر الفانية بعد أن بقي احدوثة حسنة بعده.
رحل “ضو البيت” بعد أن سعى جهده لإنجاز مشروعه الوطني الكبير في ترسيخ دعائم عشق الوطن ورفعة شأنه...ذهب بعدما حقق لوطنه ما عجزت عنه حكومات وأحزاب ومنظمات وجيوش وأنظمة.. غادر الفانية وقد نجح في ربط وجوده الكوني الفاعل بالسودان في إيجابية مجيدة بناءة قصرت دونها همة وخيال الرعاة الذين ساسوا الديار فقوضوا قواعدها وهدموا أركانها وأورثوها الدمار.
من رحمة الله على البلاد وأهلها أن هيأ لها من أبنائها مثل الطيب ضواً للبيت ليضيء لها شمعة باهرة في دياجير ظلمة إخفاقاتها ونكساتها السياسية والإنسانية.. “ضو البيت” كان، ضمن كوكبة نيرة خيرة من أبناء البلاد، ترياق أهل السودان لمتلازمات الفشل وعناوين التقصير...كان حالة استثنائية نادرة لمن سعى فرداً مفرداً لرتق ما تهتك من جسد وروح بلاد لم يبدع أبناؤها في شيء كإبداعهم في تطوير آليات تدميرها والفتك بها...سعى “ضو البيت” فرداً مفرداً لنصرة بلاده، عِدَّتُه مواهب ربانية في العقل والروح فأحبه الخلق من مشارق الأرض ومغاربها ..عجمهم وعربهم..أحبه الناس وأحبوا من وراءه بلادا تنجب مثل “ضو البيت” :
"في مطلع الثمانينات من القرن الماضي وأنا أجلس بمقهى في مدينة الدار البيضاء المغربية اقترب مني شاب مغربي..قال لي :"أنت من السودان؟" قلت نعم"..قال لي:"السودان لا بد أن يكون بلدًا رائعًا لينجب الطيب صالح"..ملأني حديثه زهواً فدعوته للجلوس..قال لي :" قرأت أعمال الطيب صالح كلها وهو عندي أعظم روائي عربي" .. جالسته قرابة الساعة وكان أعجب ما سمعت منه :"إن شخوص الطيب صالح – وعدَّد بعضًا منها – موجودة في الريف المغربي"..حينها فقط أدركت معنى أن يكون الكاتب عالمياً والأدب إنسانياً ...حينها استوعبت معنى أن تتناسل طنجة من مروي وأن تندغم ود حامد في مراكش وان تتواصل الشكينيبة و"الزريبة" مع فاس ومكناس وأن يتآخي في الله أبو هاشم سيدي علي وسيدي أبو الحسن الشاذلي، ومعنى أن ينشد العارف بالله سيدي عبد الرحيم وقيع الله البرعي:
القوم بتجيك من بلاد بلجيك لبنان ومصر ومراكش ديك
ذاك كان حديث شاب مغربي مثقف أكدت عليه بعد رحيل الطيب كلمات الأستاذ مأمون فندي في بكائيته وهو ينعي الطيب: "في يوم الخميس الفائت، وفي مكالمة هاتفية مع أبي القابع عند جبال الأقصر، قال لي: «لقد حزنت على صاحبك». صمتُّ وهمهمتُ بشيء من القرآن، فعرف ما في القلب من وجع وغيَّر الموضوع. كنت أقرأ له من روايات الطيب، وهو الرجل الذي لا يقرأ ولا يكتب ولا يعرف معنى الرواية الحديثة، فكان يحبها لما فيها من روح ورائحة مكان وناس يشبهونه. حكايات فيها رائحتنا، وفيها من نفسنا ونفوسنا".
ذات النقطة ركز عليها الأديب سعيد الكفراوي في رسالته الدامعة في نعى الطيب صالح..يقول:"رحل السوداني الطيب.. يرحل الأحبة فتغيب برحيلهم ألفة الوطن.. رحل أحد المؤسسين الكبار لفن الرواية العربية الحديثة.. أذكر في أواخر الستينات حين نشر الراحل رجاء النقاش ـ كلهم رحلوا ـ رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، في القاهرة، كنا في ذلك الوقت نحاول الإسهام في كتابة جديدة، فصدرت الرواية ونبهتنا للقيمة الحقيقية للكتابة، وكشفت عن ثراء الواقع باعتباره المادة الأولى للفن. صحبني «مصطفى سعيد، وبت مجذوب وضو البيت ، وبندر شاه، ومريود»، أهم شخصيات رواياته، وقادوني إلى اكتشاف ما يوازيهم في واقعي المصري الذي لا يختلف كثيرا عن الواقع السوداني".
وإذا كانت بيئة الطيب السودانية قريبة من البيئة المصرية فإنها كانت أيضا قريبة من البيئة الموريتانية...يقول الكاتب والدبلوماسي الموريتاني محمد محمود ودادي: "بعد قراءتي لـ"موسم الهجرة إلى الشمال" و"عرس الزين" شعرت وكأني قرأت في سفر حياتي في الحي البدوي الذي عشت فيه، وفي قرية وادي الرشيد، بشخوصها وهمومها وتفاصيل العلاقات اليومية بين البشر والأشياء، وصراعهم الدءوب...وكان "الزين" بالذات في رواية "عرس الزين" تجسيدا لشخصية عشت معها في القرية، جعلتني كلما حننت إلى صبوتي، أعيد قراءة هذه الرائعة".
عظمة الطيب وقيمته الحقيقية أنه بذل نفسه للسودان وأهله من باب فرض العين الذاتي الواجب...مهامه الوطنية لم تندرج –كما عند غيره- ضمن منظومة المندوبات والكفائيات بل فرضت نفسها وقد جاءت تلقائية خالصة متحررة من ربقة الالتزامات السياسية وإسار الانتماءات الأيدولوجية وتعقيدات الارتباطات الجهوية كما لم تحركها الطموحات الذاتية..جاءت تلبيته لنداء الوطن من باب قناعة داخلية راسخة بأولوية المسئولية الوطنية، وهذا باب من البذل وجهاد النفس أسقطه المثقفون من أجندتهم مع رحيل المستعمر وهم يتهافتون، وما فتئوا ،على خيرات بلادهم ومقدراتها حتى أتلفوها إتلاف وارثٍ سفيهٍ أحمق.. الطيب كان من تركيبة أخرى ولعل هذا من أسرار تعلق الناس به وحبهم لسعيه وتقديرهم لعطائه. لقد تماهى الرجل في وطنه إذ تبتل في محرابه حباً وعشقاً.
الطيب طاف العالم حاملاً معه السودان تراثاً وثقافة وأدبا وطبعاً وأخلاقاً ..في أعماله المتعددة جمع طيب الكلم السوداني فأوعى..حفظ ديوان الشعر السوداني الفصيح والشعبي ..عرف المأثور وسبر غور المثل السائر ...أوغل في البيئة السودانية ممتطياً صهوة المحلية المنفتحة فقادته، والأدب السوداني، إلى العالمية ... في رواياته - كما في مقالاته التي فتحت آفاقا جديدة للكتابة الراتبة - ذات المضامين الأدبية والفنية الراقية عرض الطيب للمكون السوداني المحلي فرأى الناس عجباً... قدم الطيب للثقافة السودانية والأدب الشعبي السوداني خدمات قصرت عنها وزارات وأجهزة ..عبْر الطيب ألمَّ الناس بتضاريس السودان الشمالي وبشره وعاداته وطقوسه ...الطيب أو "سيدي الطيب" كما يقول محمد بن عيسى وزير خارجية المغرب وصديق الطيب وصفيه :"هو ذاكرة السودان المتنقلة، يحفظ لكتابه وشعرائه، زجاليه بالخصوص، ويحن إلى وطنه الأم ويحس بأحشائه تتمزق وهو يتحدث عن السودان. مجالسه التي يستحليها هي مجالسه مع السودانيين، من خيرة مفكريها وعلمائها ممن عرفت، ولكن الطيب صالح هو إنسان كل الدنيا، يستسيغ الثقافات ويقرأ لكل الكبار وفي مقدمتهم الإنجليز".
ولعل من جوانب فرادة الطيب أنه ظل منافحاً عن رؤى إنسانية عميقة في الحريات والحقوق العامة وطرائق الحكم وأساليب السياسة ..هذه الرؤى كانت ثمرة وجوده الطويل والفاعل والأصيل (ولا أقول اغترابه) في المهاجر، لا سيما الغربية منها...ظل الطيب ينادي بذات القيم الداعية لاحترام الشعوب والنزول عند إرادتها...الطيب لم تستطع قوى سياسية حاكمة أو معارضة أن تستميله إليها لا بذهب المعز ولا بسيفه .. حين القطاف، ولات ساعة قطاف، هرولت الصفوة ميمنة وميسرة فيما بقي هو "كالسيف وحده" يتغزل في "فينوسه" على طريقته...وفي حين راح شيخه أحمد محمد صالح يستحث جماعة المثقفين على القيام بواجب التنوير :
يا وارث المجد التليد وباني الأدب الأجد
علم شباب الواديين خلائق الرجل الأشد
علمهم أن الخنوع مذلة والجبن يردي
مضى الطيب يقدم ذلك صحائف ناصعة من البيان بالعمل .
الطيب من فئة قليلة حافظت على احترامها لنفسها ولموقفها من الدنيا وأحوالها وتقلباتها فاحترمها الناس ...كم من مثقف نادي بطيب الكلم وسامق الشعار فلما نادته ساحرات السلطة الغانيات أتاهن مهرولا ...أتاهن مهرولا وقد تأبط الخبائث فعلاً والمتدني من الحديث قولاً..عند الاختبار سقطت منارات كثيرة ولم تقوى على نار التجمر فتبين للشعب خيط النقاء الأبيض من رصيفه كالح الملمح ...حين ورود ساحات المجد وعند أوان الزحف تولت جماعات عديدة ولم يقف على سداد الثغور سوى العصبة ومنهم ““ضو البيت” ” ....كم من أسفار سودت وصحائف دونت رفعها الطيبون الآملون مكاناً علياًً فلما أقبلت الدنيا فجع الناس في مدونيها ورواتها الذين تهاووا كأعجاز نخل خاوية إذ صرعتهم خسة الأنفس وهوانها وإمرة النفس بالسوء ..تقلب أهل العلم والثقافة وتأرجحوا مع إيقاعات ودف السلاطين إلا من رحم ربك ولكن "ضو بيتنا" هذا غير...قال لا في ميقاتها.. وقال نعم في أوانها.. لم يحركه مطمع ولم يمنعه مغرم وتلك وأيم الله شنشنة لم نألفها في أخزم السوداني المتعلم.
كتابات الطيب صالح تعكس صورة السودان على شكل عبقري ...ولعل كلمة الأستاذ معاوية البلال كانت أكثر دقة وهي تشير إلى أن الطيب:
"اختزل تاريخنا في خمسة روايات ترجمت إلى أكثر من 20 لغة سكب فيها ملامحنا وشهواتنا وأشواقنا وعذاباتنا وتصوراتنا وأحزاننا ومراراتنا وأحلامنا وتجلياتنا في مرآة كلماته الروائية، كأرواح في التاريخ وكبشر عصفت بنا الصراعات مع أنفسنا ومع الغرباء ومع العالم."
تماهي الذات المفردة في الوطن يستدعي صوراً وتصورات متعددة للوطن ...ورغم تعدد هذه الصور إلا أن أجلها وأعظمها وأكثرها إنسانية هي صورة الأم بكل عشقها وجنونها وولهها ببنيها ..وككل أم لها مراتب متفاوتة ودرجات متراوحة لبنيها حباً واشتياقاً ..حب مضمر وسر مكنون لا يعرفه سواها ومن ترغب وتريد من بنيها...أمثال الطيب لا تني الأوطان تناجيهم عند الخطوب..تناجيهم معددة شمائلهم وقيمهم وقيمتهم عندها ...هموم الأوطان تجري على السنة الموهوبين من بناتها وأبنائها .. ومَن أكثر موهبة من فاطمة بت حمد خير لمناجاة الطيب:
"انت يا سيد البسوق ارقوق موازين
انت يا سيد الجزيرة تكاكي وزين
انت يا سيد الحصص صمد النمرتين
انت يا سيد الشتيل التكه العراجين
انت ماك عارف قليبن لي مجينين
ما بترسل لي جوابا فيه سطرين
وما بتقول لي نعيم صباح امو اشتغل وين"
لقد كان كل ذلك وأكثر لقد "ساق أرقوق" وله جزائر وليست جزيرة واحدة صادحة بكل جمال وكان "صمدا" على قرى الرواية العالمية ودساكر الثقافة الإنسانية ونجوع الفكر الحر ...لقد أثمرت شتلات غرسه، بإذن ربه، فاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة....كان يعرف قلب الوطن الأم وكان باراًً بوطنه محباً للسودان وأهله ....واظب على إرسال الرسائل ...رسائل العشق والمحبة للوطن والإنسان..ولعل القضية الأسمى التي انتظمت رواياته وأعماله كلها تمحورت حول المحبة .. وعلى كثرة وتنوع شخوص أعمال الطيب وأبطاله إلا انه رمى بكامل ثقل المحبة وكلكلها على واحد من أقل الناس شأنا بموازين أهل الدنيا...الطيب قال على لسان الطاهر ود الرواس أجمل قصائد العشق والمحبة بإنسانية شفيفة نابعة من وجدان حقيقي لا قصصي روائي...لا أدري ولكني ظللت أتصور الطيب قد عاش في جلباب الطاهر ود الرواس حياته كلها:
"ويوم الحساب، يوم يقف الناس بين يدي ذي العزة والجلال، شايلين صلاتهم وزكاتهم وحجهم وصيامهم وهجودهم وسجودهم، سوف أقول: يا صاحب الجلال والجبروت ، عبدك المسكين، الطاهر ود بلال، ولد حواء بت العريبي، يقف بين يديك خالي الجراب مقطع الأسباب، ما عنده شيء يضعه في ميزان عدلك سوى المحبة".
زمردة في شأن ملامح بندر شاه أو :البورتريه المستحيل:
"وأصيلة وهي تكرم سيدي الطيب إنما ترد للرجل بعضاً مما أعطى للعرب أولاً، وللفكر والإبداع العالميين ثانيًا. في أصيلة تنوب ثلة من المفكرين والأدباء والباحثين من الوطن العربي ومن خارج الوطن العربي عن كل من قرأ للطيب صالح وقدره وأحبه، تماما كما كرمت أصيلة قبله الشاعر محمد الحلوي، والشيخ المكي الناصري، والشاعر الرئيس السنغالي السابق ليوبولد سيدار سنغور، وغيرهم ممن أعطوا من أنفسهم للإنسانية وللفكر والإبداع.. مثل سيدي الطيب صالح".
(محمد بن عيسى في تكريم الطيب صالح بمهرجان أصيلة)
"كادت سرائر سري لا تبوح به | وكاد خوفي عليه لا يسميه
| |
ينأى ويقرب مجلواً ومستتراً | كالغيب أجمل ما في الغيب ما فيه
| |
من ذا هو الرجل العالي ولست أرى | إلا بريــق نجــوم في أعاليـه
| |
يلقي على السهل ظلاً من عباءته | فينبت العشب في أقصى حواشيه
| |
يكاد يلمس قلب الماء مبسمه | ويهطل الغيث إن صلى على التيه"
|
(محمد علي شمس الدين: دموع الحلاج)
"من لزم العبودية لزمه أثنان: يأخذه الخوف من ذنبه، ويفارقه العجب من عمله"
(أبو يزيد البسطامي: "العبودية" كتاب الشذرات)
إن رسم بورتريه ل"ضو البيت" يبدو أمراً أقرب للمستحيل...الناس أنماط ونماذج ولكن تنميط الطيب صالح ونمذجته في إطار السائد من قوالب التصنيفات أمر صعب في أدنى درجاته، مستحيل في أقصاها..إن قوافي الشعر قد تتباين ولكنها، في نهاية الأمر، تظل خاضعة لأطر علم العروض للخليل بن أحمد الفراهيدي وتابعه الأخفش ..وقد تأتي الألحان متنوعة ولكنها تظل ترتبط بوتد المقامات والسلالم الموسيقية ..وقد تتباين السلوكيات البشرية ولكنها غالباًً ما تؤطر في قوالب مدارس علم النفس المعروفة من بنائية ووظيفية وسلوكية بافلوفية ..ولكن "ضو البيت" عصي على القوالب الجاهزة ...الطيب روائي من الطبقة الأولى عالمياً وكاتب مقالة من طراز رفيع ومثقف كوني يأخذ من الثقافتين العربية والأوربية (الإنجليزية) بذات المقدار والاقتدار..مثقف مهموم بقضايا وطنه ..وإنسان نادر على طريقته...قلَّ أن تجد مثقفاً يجمع عليه نقاد الأدب وأهل الثفافة والمعرفة كما هو الحال عند "ضو البيت" ...هو من قلائل المثقفين السودانيين (بل نكاد نقول الوحيد) المعروفين في كافة منتديات الثقافة والمعرفة العربية..ولكن ما هي ملامح وسمات بورتريه هذا الطيب الصالح؟.
عقب رحيل الطيب سال مداد كثير ناعياً الفقيد معدداً مآثره مبيناً شمائله.. وفي خضم هذا الدمع المدرار توقفت عند صورتين للطيب تركزان على احدي السمات الأساسية لشخصيته ...الصورة الأولى صورة عرفانية رسمها مامون فندي في مقالته عالية القيمة "الطيب مر من هنا" ..يقول فندي : ""كان وجوده يومها شفافًا، وكأنه يقف على الحد الفاصل بين الحضور والغياب، كان ضيفًا عابراً أشبه بذلك الغريب الأبيض أخضر العينين الذي يطلع من النهر في روايته «“ضو البيت” »، بندر شاه مضى كالحلم وكأنه ما كان.. “ضو البيت” اختفى، لا خبر ولا أثر، ذهب من حيث أتى، من الماء إلى الماء.. كأن المولى ـ عز وجل ـ أرسله إلينا ليحرك حياتنا ويمضي في حال سبيله. الطيب صالح لم يكن أبيض البشرة ولا أخضر العينين، بل كان روحًا عالية تسكن ملامح رجل سوداني أسمر، روح مرت من هنا بعد أن علمتها «فاطمة بنت جبر الدار» آيات من سورة الضحى. كان الطيب صالح كبطل قصته «“ضو البيت” » يقدر على الحركة في الزمان والمكان، «كأن الطفل ولد عند الشروق، وتم ختانه وقت الضحى، وصار للزواج بعد صلاة العصر».. الطيب ولد روائيا في صباحنا، وغدا قامة كبرى في الضحى، واختفى في المساء".
أما الصورة الثانية فرسم ملامحها الوزير محمد بن عيسى إذ يقول عن لقائه الأول به :"ذهبت إليه بروح الصوفي الذي يقصد شيخه ليستشفّه وليتبرك بمكرُماته، وينهل من صنيعه الفكري والروحي.... يا الله ما أبدع هذا الرجل بتواضعه وبساطته وقناعته ...وليّ صالح حتى دون عمامته...أاسميه سيدي الطيب كما نسمي في المغرب الأولياء والصالحين".
الصوفي سمة اتفق عليها فندي ومحمد بن عيسى كعلامة دالة في بورتريه الطيب صالح الذي جمع فأوعى.. سره الأعظم كان في مخبره كما كان في مظهره ...من عرفوه عن قرب لمسوا فيه الإنسانية في أسمى معانيها الصوفية ..ذلك التواضع الحقيقي وتلك الإلفة المعدية لا بد أنها تجذرت في صوفية الطيب ...الغالبية أحبت فيه الخفر الرباني والوداعة التي لا تخطئها العين ..فيه حنو غريب ...يحدث الناس على استحياء وهو العارف ويخاطبهم بصوت خفيض وبصر غضيض وهو العالم ..يمجد إنجازات الناس ويتعمد إغفال منجزه ..مَن قال إن الأفاضل من الناس لا يربحون شيئاً؟ ..كذبوا ورب محمد ...هذا رجل ضو بيت ..ضو بلاد بحالها ..كان فاضلاً جميلاً وكسب كل ما يتمناه البشر الأسوياء..حب الناس لوجه الله تعالى.
مواهب كبيرة وقدرات فذة وروح سمحة جمعت له قلوب العالمين وأفئدتهم ومآقيهم التي سح دمعها مدراراً من ضفاف الخليج إلى شواطئ نواذيبو في بلاد شنقيط ومن الدنيا القديمة في اللندرة وحتى أقاصي الدنيوات الجديدة في كاليفورنيا ونيوزيلندا واستراليا وما والاها من جزر كوك وهاواي ...بكت الطيب أصيلة والدوحة ونهنهت بالبكاء الراعش أديبات الرياض وبيروت والقاهرة .. بكاه الحكام والوزراء والمسؤولون والمثقفون وعامة الناس.
حدثني عن مثقف شامخ وطود معرفة أشم فتحت له صدور مجالس وديوانيات السلاطين ودهاليزهم فعافاها ولاذ بمجالس غمار الناس؟...أحكِ لي عن روائي نادر الصنو قالت له جوائز الدنيا هيت لك فقال معاذ الله لست أهلا لك؟..خبرني عن عالم إعلامي خبر دروب الإعلام وهالاته وأضوائه فإزوّر عنها وأشاح دونها يختلق المعاذير ليخلف مواعيدها قائلا :غري غيري؟..الطيب كان ذلك المثقف الروائي الإعلامي...يقول محمد بن عيسى:"لم يستسغ قط فكرة تكريمه: «لا يا راجل، والله لا أستحق التكريم، هناك غيري ممن يستحقونه»، كان يردد لي ذلك كلما فتحت الموضوع معه حتى أحسست أنه فعلا لا يرغب في أن يكرم وأنه فعلا غير قادر على الرفض، وصارحته بذلك، واعترف، وأخيرا قبل". في ذات السياق تأتي إفادة الأديبة اللبنانية رشا الأمير:"مشكلة الطيب صالح وسره في خجله وخفره. رجل لا يحب الضوء، لا، بل يهرب منه ويتحاشاه. ومن البديع أن الناس كرموه دون أن يطلب أو حتى يبحث عن ذلك، لا، بل كان زاهداً ومتعففًا. هذا جيل آخر، غير جيل الأدباء الجديد الذي يستجدي الشهرة ويطاردها، الطيب صالح كانت النجومية هي التي تطارده". تواضع الطيب صالح حقيقة بارزة في حياته ومسيرته المهنية والإبداعية. يقول طلحة جبريل :"وعلى الرغم من أن روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» اختيرت ضمن أفضل مائة عمل في تاريخ الإنسانية، يقول الطيب بتواضعه الجم «أقول لك صادقاًًً ليس لديّ أي إحساس بأهمية ما كتبت، ولا أحس أنني مهم، هذا ليس تواضعاً لكنها الحقيقة، إذا اعتقد الناس أن ما كتبته مهم فهذا شأنهم لكنني قطرة في بحر، قصيدة واحدة للمتنبي تساوي كل ما كتبته وأكثر".
تواضع الطيب ميسم آخر ومفتاحي لشخصيته الآسرة ورغم محاولته نفي الميسم إلا أنه يفضحه في كل حال وعند كل مجلس...في يقيني إن شيمة التواضع عند الطيب من الموروثات التي عالجها وثقفها بالتجربة والترحال والإطلاع ...في رواياته وكتاباته ميل واضح لرفعة قيم التواضع والتسامح ..انحيازه لهذه القيم النبيلة لا تخطئه عين القارئ ولا أذن المستمع لأحاديثه ...الطيب قارئ متدبر لسيرة السلف الصالح ..أوقف فصلاً رائعاً في "مختاراته" الموسومة "المضيئون كالنجوم" لفيوض العارفين..كشف الفصل عن حب جارف لآل البيت وللأئمة العارفين...في هذا الفصل تحديداً تتبدى دون غطاء جذور صوفية شفيفة للطيب..يحدث القارئ عن الإمام جعفر الصادق وسفيان الثوري والإمامين مالك وأبي حنيفة النعمان ..يحدثه عن أخبار بشر بن الحارث الحافي وسري السقطي وأبي حازم الأعرج ومالك بن دينار وأبي القاسم الجنيد وأبي بكر الشبلي..قرأ نهج البلاغة بشروحات الشريف الرضي والإمام محمد عبده فانتبه ...من بديع كلام أبي الحسنين الأمام علي كرم الله وجه أخذ الطيب في مدونته نبراسه للتواضع :"بكثرة الصمت تكون الهيبة. وبالنصفة يكثر المواصلون. وبالأفضال تعظم الأقدار. وبالتواضع تتم النعمة. وبأحتمال المؤن يجب السؤدد وبالسيرة العادلة يقهر المناوئ، وبالحلم عن السفيه تكثر الأنصار عليه".
صوفية الطيب وتواضعه منحته إهاب وروح أهل الله ...تنضح كتاباته ببهاء وحلل الأنوار الشعشعانية التي تجذب أرباب العقائد وأصحاب المواجد العرفانية ...يتقلب على إرث صوفي عميق وتحس في بعض فيوض كتاباته وكأنه يتأرجح مع دفوف أهل الذكر وترجيع إنشاد الذاكرين..كلما قرأت للطيب شيئاً في الأدب الصوفي وأحاديث العارفين تراءت لي صورة "ود طمبل" خليفة خلفاء السادة الختمية الأشراف بالخرطوم البحرية..كالطيب كان الخليفة محمد احمد وجيهاً وسمحاً سمتاً ومعنى ..كلاهما شرب من سلسبيل ماء الحضرة وورد حياض الصالحين فدقَّ أسلوباً ورقَّ سلوكاً وتحضراً..تجيئني صورة خليفة الخلفاء وأنا أطالع "مريود" أعظم ما خطه يراع الطيب صالح ..هذا السفر العظيم ينوء بحمولة من العشق والمحبة تكفي لتليين جلاميد القلوب وغلاظها وتكفي لتلطيف جوامد الحواس وإحياء ميت الشعور.. يكتب الطيب (مريود:طبعة دار العودة :الصفحة 88 ):
"لقد أحب بلا ملل، وأعطى بلا أمل، وحسا كما يحسو الطائر، وأقام على سفر، وفارق على عجل، حلم أحلام الضعفاء، وتزود من زاد الفقراء، وراودته نفسه على المجد فزجرها"....
أقرأ مريود فتحضرني صورة ود طمبل كاملة رونق البهاء إذ المنشد المجود يملأ فضاء الحضرة بأناشيد العرفان وترانيم "الهاء" البهية فالنون نصف دائرة الأكوان:
صلّوا على بَحَرَ الصّفا المُصْطَفَى
صلّوا عليه
وآلهِ والصّحبِ أهلِ الوَفَاَ
مدائح السادة الختمية تشنف آذان الحضرة وتشجي أفئدة الحاضرين بشجن أزلي وسمو عرفاني يجعل من الروح كائناً أثيرياً طائفاً سابحاً في ملكوت ودنيوات آخرى إذ الشيخ الخليفة يزلزل النفوس بصوته الريان المضمخ ببديع النفحات المدنية في المداِئح المصطفوية:
صلّوا عليه
ما لاحَ بَرقُُ أو أُزيلَ الجفََا
وما سَرى السّاري لدَى المُقْتَفَى
باللهِ يا ريحَ الصّبَا هل نبـا
عَن الحبيبِ الّذْ لنا قد سَبَا
حُلوَ اللما معسُولَه الطيّبَا
من حلّ في وسطِ الجوَى طنّبَا
حاوي الجمالِ نعمَ الجمالُ يا فتَى
مَنْ حُسْنُهُ لم يأتِ أي ما أتى
فاقَ البدرْ قد صَحَّ ذا مُثْبَتَا
والشّمسُ مِن نُورهِ تُضيئ ثابِتا
صلّوا على بَحَرَ الصّفا المُصْطَفَى
صلّوا عليه
وآلهِ والصّحبِ أهلِ الوَفَا
صوفية الطيب عبر كتاباته لا شك استوقفت الكثيرين ...يقول مأمون فندي "ذات يوم حكى لنا عجوز من قريتنا في صعيد مصر، أنه رأى سيدنا الخدر (البعض يكتبها الخضر) ماراً في القرية، رآه سارحًا على حصان أبيض تفوح منه رائحة الطيب والمسك، كان العجوز لتوه قد فرغ من صلاة الفجر، وفي محاولة منه لمعرفة سر هذا الرجل الغريب، اقترب منه وسأله: أين صليت الفجر؟، فأجاب الرجل بأنه قد صلاه للتو في الكوفة، فبان للعجوز أنه أمام رجل من أهل الخطوة ممن تُطْوَى لهم البيد طيًا، وكان العجوز يقول لنا بأنه تأكد وقتئذ من أن هذا الرجل القادر على قطع المسافات بسرعة الضوء، يحضر ويغيب برمشة عين، هو سيدنا الخدر عليه السلام...هكذا كنت أتخيل الطيب"....ليس الأستاذ فندي وحده وكذلك كنت أتخيل الطيب ..منشداً في حضرة محضورة ...تستنيمه عن الخلق أبيات عرفانية وتوقظه على الحق كلمات جادت بها قرائح شيوخ جافت جنوبهم المضاجع قياماً لناشئة الليل التي هي أشد وطأ وأقوم قيلا:
يا ليلي ليلك جن معشوقك اوه وانّ
ام مرحى فوق جبلنا اصلو الاكسير معدنا
الشرب بالكوب والدنه وكل الغشاهو تهنا
بندر شاه نهل من النبع العرفاني فجرت كلمات الحق وصفات الاستقامة والزهد والتعفف على لسان أبطاله ...يقول محمود ل”ضو البيت” في بندر شاه : "يا عبدالله نحن كما ترى نعيش تحت ستر المهيمن الديان، حياتنا كد وشظف، لكن قلوبنا عامرة بالرضا، قابلين بقسمتنا التي قسمها الله لنا، نصلي فروضنا، ونحفظ عروضنا، متحزمين ومتلزمين على نوائب الزمان وصروف الدهر، الكثير لا يبطرنا، والقليل لا يقلقنا، حياتنا طريقها مرسوم ومعلوم من المهد إلى اللحد، القليل العندنا عملناه بسواعدنا، ما تعدينا على حقوق إنسان، ولا أكلنا ربا ولا سحت، ناس سلام وقت سلام، وناس غضب وقت الغضب الما يعرفنا يظن إننا ضعاف إذا نفخنا الهوا يرمينا لكننا في الحقيقة مثل شجر الحراز النابت في الحقول".... هذه صفات عبيد الله الذين تحسبهم أغنياء من التعفف...هذه صفات الرضا في أعلى درجاته والوسطية في أسمى معانيها ..يعرفون حدود الله وواجبات المسلم وأخلاقياته ..الطيب جاء ابناً صالحاً من صلب مثل هذه القيم ومن ترائب تلك الشيم والصفات.
ملامح ومكونات بورتريه الطيب تشي بوقوفه المدرك على الموروث الصوفي الإنساني حيث عب منه وملأ جراب التجربة والحياة...عرف كلمات البسطامي والحلاج وسيدي محمد بن عبد الجبار النفري الذي يقول في المواقف والمخاطبات (موقف قلوب العارفين) : "وقال لي: إلتقط الحكمة من أفواه الغافلين عنها كما تلتقطها من أفواه العامدين لها ..إنك تراني وحدي في حكمة الغافلين لا في حكمة العامدين...وقال لي: اكتب حكمة الجاهل كما تكتب حكمة العالم."
عملا بنصيحة بن عبد الجبار التقط الطيب حكمة الغافلين ودونها كما التقط حكمة العامدين لها ودونها ...حكم نصر الله ود حبيب والشيخ الحنين من عباد الله الصالحين استذكرها الطيب كما استذكر حكم ومقولات الطاهر ود الرواس وسعيد عشا البايتات القوى ومحيميد ومحجوب وأحمد إسماعيل وعبد الحفيظ وسعيد القانوني وبت مجذوب وحمد ود الريس وحسنة بت محمود... استوعب نصائح وحكم العارفين فأجراها على السنة أبطاله بخيرهم وشرهم فرسم لوحات إنسانية سامية ستبقي قوية نابضة بالحياة في ذاكرة الرواية العربية والعالمية...يقول الكاتب الأديب الروائي الدكتور سليمان الشطي : "إن الأدباء مثل الطيب صالح ضمائر متوثبة تنفض فينا الجذور فتدب الحياة من حولنا...أذكر تلك الظهيرة الساخنة، فيها كانت الرحلة المذهلة معه في موسم رحلته الشمالية، رحلت مع بطله مصطفى سعيد، وجين موريس إلى الشمال البارد، تجولت في خلايا أرض السودان...وبدا لي، بل رسخ في فكري، وتغلغل في ثنايا وجداني تصور لقيمة هذا المبدع الذي كان يتفرد سلوكًا وأدبًا. فيه تلازمت مجتمعة رؤى متعددة، كما بدا من روايته موسم الهجرة إلى الشمال، حيث معضلة اللقاء مع الآخر، وهو لقاء متجدد دائمًا قديمًا وحديثًا، التقط عن معاناة ما سبقه آخرون قريبون منه، الحكيم ويحيى حقي وسهيل إدريس، عالج كل واحد منهم طرفاً من الأطراف أما هو فقدم اللقاء فالصدام فالانكماش. كانت معالجته موغلة ضاربة في أعماق النفس، لذلك يمد يده، أو مدها من قبل، ليقبض قبضة من طين أرضه فتستوي شخصية (الزين) في روايته (عرس الزين) لتقدم كمال الصورة.. ويستمر التكوين والصقل في أعماله المعروفة، مركزة، مشيرة، مستوعبة،
ناضجة...كان الطيب صالح تراثياً موغلاً في التراث، شعبيًا متذوقًا للحس الشعبي البارز الظاهر، وفي الوقت نفسه لا تراه إلا ويقربك من روح الصوفي الهائم.... هكذا كان الطيب صالح، أديبًا وإنساناً وللناس في أسمائها دلالة"( انتهى). ..نعم سيدي الدكتور للناس في أسمائها دلالة ولها في أسماء وعناوين أعمالها نصيب وأي نصيب.."مريود".."ضو البت" .."بندر شاه".
انتهى الجزء الاول ويليه الجزء الثاني: "اللؤلؤة في خبر استواء ظل تمام الزاوية مع جيب تمامها: الطيب صالح مراوحا بين الطاهر ود بلال الروّاس ومصطفى سعيد"