روّاس مراكب القدرة “ضو البيت”: وداعا أيها الزين (2)
26 May, 2009
الجزء الثاني
(دبي :مايو 2009)
المدارج والعتبات:
رواس مراكب القدرة:
يقول الطاهر ود الروّاس إن الاسم الوحيد الذي ورثه عن أبيه كان لقبا لم يناده به إلا الكاشف ود رحمة الله، كان ود رحمة الله يقول إن بلال روّاس ويسألونه روّاس ماذا؟ فيجيب:"بلال روّاس مراكب القدرة". ويقسم أنه رآه عدة مرات بين العشاء والفجر وهو قائم وحده في مركب ينقل قوما غريبي الهيئة إلى الشاطئ الآخر. ويقول الطاهر إن أباه حين مات أخذ أسماءه جميعًا معه. كأنه كان بالفعل روحًا مفردًا ليس من أرواح هذا الزمان ولا هذه الأرض".
(مريود : طبعة دار العودة: الصفحة 48)
العشق:
"وملْ إلي البان من شرقّي كاظمة فلي إلى البان من شرقيِّها أربُ
وكلما لاح معنى من جمالهم لباه شوقٌ إلى معناه منتسبُ
أظلُّ دهري ولي من حبهم طربٌ ومن أليم إشتياقي نحوهم حَرَبُ""
(إبن الخيمي)
المحبة :
"الإنسان يا محيميد ... الحياة يا محيميد ما فيها غير حاجتين اتنين... الصداقة والمحبة. ما تقولي حسب ونسب، لا جاه ولا مال.. ابن آدم إذا كان ترك الدنيا وعنده ثقة إنسان واحد.. يكون كسبان".
(الطاهر ود الرواس : مريود الصفحة 432، الأعمال الكاملة ، طبعة دار العودة)
الإنتماء:
"السَمكةُ،
حتَّى وهي في شباكِ الصيادين
تَظلُ تحملُ
رائِحة البَحر"
(مريد البرغوثي: رأيت رام الله، الصفحة 181)
إهداء وعزاء خاص:
إلى أستاذيَّ وشيخيَّ:
إبراهيم حسن عبد الجليل ومهدي أمين التوم
في رحيل الطيب صالح خسارة كبيرة لقيم إنسانية رفيعة، موروثة ومكتسبة، تربيا وعاشا عليها وكانا، وما زالا، مهمومين بإشاعتها وترسيخها في وجدان وسلوكيات من أحبوهم:
الأطر والضوابط الأخلاقية غير المساومة نبراسها
والتعفف ممزوجاً بالتواضع الحقيقي رمانة ميزانها
وزجر النفس ولجمها عن وعند الهوى صمام أمانها
وإلى روح أخينا وأستاذنا العميد حقوقي "م" عبد المنعم حسين عبد الله:
آمن بما رأى أنه الحق فكان عقله وقلبه حيث آمن..
ثبت على عمله والتزم الجماعة..
كما الطيب ...كان إنسانا نادرا على طريقته..
اتخذ من المحبة "جلابية" ومن النقاء والبراءة "عِمة" و"شال"...
داراه بحي النسيم بمدينة الرياض السعودية وبحلفاية الملوك بالخرطوم البحرية كانتا واحة إنسانية وقبلة وطنية...
رحل موفور الإباء ليختال بإذن ربه زاهياً في بساتين البهاء..
رحمة الله تغشاك يا أبا محمد
اللؤلؤ في خبر استواء ظل الزاوية مع جيب تمامها: الطيب صالح مراوحا بين الطاهر ود بلال الروّاس ومصطفى سعيد:
"الناسُ في بلادي جارحون كالصقورْ
غِناؤُهم كرجفةِ الشتاءِ في ذؤابةِ الشجر
وضَحكهم يئزُ كاللهيبِ في الحطب
خطاهمو تريدٌ أن تسوخَ في الترابِ
ويقتلون، يسرقون، يشربون، يجشأون
لكنهم بشر
وطيبون حين يملكون قبضتي نقود
ومؤمنون بالقدر".
(صلاح عبد الصبور : الناس في بلادي)
"وجْهُ مهيار نارْ
تحرقُ أرض النجوم الأليفه،
هوذا يتخطّى تخومَ الخليفه
رافعًا بَيْرَق الأفولْ
هادمًا كلّ دارْ ،
هوذا يرفُض الإمامَهْ
تاركًا يأسَه علامهْ
فوق وجه الفصولْ"
(أدونيس: وجه مهيار)
قبل الغوص:
قد يكون مهما بل واجبا توضيح ان ما يرد في هذا الجزء ليس (ولا ينبغي له أن يكون) قراءة نقدية لأعمال الطيب فما لهذا نهدنا ولسنا من أهل الاختصاص في أي من جهاته، مجالاته أو درجاته. ما تستهدفه هذه الجزئية من العمل هي محض مقاربة إنسانية لبعض شخوص رواياته توسلا وحيلة من جانبنا للإقتراب، بصنعة لطافة كما يقول خيري شلبي، من بورتريه الرجل...أهمية ووجوب هذا التنويه، في تقديري، تنبع من رغبتنا في إستباق ما قد ينشأ من إتهام بالتهجم على فضاءات لسنا من روادها وكذلك في فتح أبواب ومخارج للطواريء قد نحتاجها إذا تعثرت منا الخطى خاصة ونحن بين يدي أعمال رجل عالي الجناب وافر القيمة الأدبية والإنسانية ..وليغفر لنا المولى إن رأى أهل التخصص أننا بفعلنا المتهور هذا إنما نكون قد دسنا بنعال الجهل على أبسطة العلم.
محارة اللؤلؤ:
النقاد المتخصصون سعوا جهدهم للبحث في خصائص وسمات شخصية الطيب صالح والربط بينها وبعض مقومات شخصية مصطفي سعيد في "موسم الهجرة إلى الشمال"... يقول طلحة جبريل :"كثيرون يعتقدون أن مصطفى سعيد بطل "موسم الهجرة إلى الشمال" فيه بعض ملامح الطيب صالح نفسه.. وفي هذا السياق يقول الطيب:"الذي يطرح أفكاره على الناس علناً عليه أن يتحمل تبعات ذلك، لذلك لا يزعجني أحياناً حين يسألني بعض الناس هل مصطفى سعيد يشكل جزءاًً من سيرتي الذاتية"...ويضيف الطيب:"يبدو لي أحياناً أن البشرية تائهة وأنا تائه معها، لذلك لا أطالب الناس بأن تفهمني كما أريد، الكاتب نفسه لا يعرف ماذا يقول وماذا يكتب".
حين ازعجت الكاتب المحاولات المستمرة للربط بينه وبين بطل روايته الأشهر استجار ب"الزين" كشخصية دالة عليه وأقرب...هذا عندي، وأقر بأنني قاريء عادي جدا، يدخل من باب اعتساف واختزال الطيب صالح لسماته كإنسان .."الزين"، على الوجه الذي صوره الطيب صالح في "عرس الزين"، درويش من عامة الناس...لعب فيه الطيب على وتر وسامة الروح ..وهذا باب في الجمال معروف ومتداول وخاصة عند أهل الوجد الصوفي..يوسمون من هم على شاكلة "الزين" بأنه "أب سماحتن جوه"...لا،..لا، الطيب لم يكن "الزين" ولكنه أيضا لم يكن مصطفي سعيد ..عبقرية الطيب أنه نأى بنفسه عن كل هذا الجدال ووقف منه موقف سيده وسيدنا أبي الطيب المتنبي:
أنامُ ملء جِفوني عن شوارِدها ويسهرٌ الخلقٌ جرَّاها ويختصمٌ
رحم الله شيخنا أحمد بن الحسين كان عبقرياً مغروراً ...ورحم الله شيخنا الطيب صالح كان عبقرياً متواضعاً ..جمعتهما عبقرية إبداعية وفرقت بينهما السمات الشخصية ورغم ذلك ظل الطيب أسيراً محباً مدنفاً بعشق أبي الطيب ... لا أظن أن الأدب الحديث عرف مثقفاً محباً لأبي الطيب كالطيب صالح..كان حبا نابعا من دراسة متعمقة دقيقة لشعر الرجل وعصره وسماته الشخصية ..الطيب صالح ونزار قباني بلغ من حبهما وتبجيلهما لأبي الطيب أنهما لا يذكران اسمه إلا مسبوقا بصفات التجلة والاحترام .. هذان الهرمان كانا يقولان "سيدنا" و"الأستاذ"...الطيب صالح كان كحماد في راوية شعر أبي الطيب ..حفظ الديوان بشروحات العكبري والبرقوقي واليازجي والمعري...يستظهر العيون ويعرف مواقع الإعجاز البياني ومكامن النكت البلاغية ... حفظ شعر المتنبي عن وعي وحب فأبدع ومن ثم نام ملء جفونه وترك النقاد في جدل وسؤال سيستمر ما بقي نقاد للأدب وللرواية :أين الطيب صالح من أبطاله؟.
أغلب ظني أن الطيب قد راوغ الدنيا بشخوصه اللامعة...العبقري البائس مصطفى سعيد والسياسي السلطوي غير القابل للتطور محجوب والشاب الطامح للسلطة على حساب العشيرة والقرابة الطريفي ود بكري.. مجموعات الظل عبد الحفيظ، وأحمد إسماعيل أبو البنات وسعيد القانوني، حمد ود الريس وبت مجذوب. الطيب أضاف لشخوص روايته بعدا آخر باستنطاق الرواة ...إبراهيم ود طه حافظ ذاكرة ود حامد وشهود عصر رواياته: محيميد الأفندي العائد للجذور ومن ثم الراوي المجهول في رواية مصطفي سعيد (ولعله محيميد). في تنويع آخر وهام أضاف الطيب حشدا من مجموعة التقلبات: سعيد البوم (عشا البايتات لاحقا) وسيف ود العمدة في تجلياته المختلفة.
في خضم هذه الشخوص المتباينة اجتماعيا واقتصاديا يسترعي الانتباه المحبة البائنة التي أولاها الطيب للطاهر ود الرواس والذي ظل محوريا في أعماله منذ "الرجل القبرصي" ولكنه بلغ بالشخصية قمة بنائها الدرامي والإنساني في "مريود" حيث العشق والصفاء الإنساني يبلغان شأواً بعيداً.
هذا الجزء من العمل يبحث في بناء الشخصيات المحورية في اعمال الطيب صالح بتركيز شديد على مصطفى سعيد والطاهر ود بلال الرواس.. وعلى خلفية ما قدمنا من بورتريه للطيب نبحث في مفاصل العلاقة (إن كانت ثمة واحدة) بين الكاتب وأبطاله.
مخاطر صيد اللؤلؤ: أرخبيل التضاد ومحاولة للتوافق:
ممر الصدق:
"ولكن الطاهر ود الرواس طول حياته لم يقل إلا كما رأى وسمع"
(مريود : طبعة دار العودة : الصفحة 37)
مضيق الكذب:
"أليس صحيحا أنك في الفترة ما بين أكتوبر 1922 وفبراير 1923 ...كنت تعيش مع خمس نساء في آن واحد؟"...بلى..وأنك كنت توهم كلا منهن بالزواج؟"..."بلى.. وانك انتحلت إسما مختلفا مع كل منهن؟..بلى..وانك كنت حسن وتشارلز وأمين ومصطفى ورتشارد؟..بلى"
(سير آرثر هغنز في محاكمة مصطفى سعيد: موسم الهجرة :دار العودة : الصفحة 41)
ما بين الممر والمضيق: باب مندب العبور
"الأولاد أخدتهم الحكومة والبنات أخدوهم الأفندية، حلال عليهم...دخلوا عالم العربيات والتلاجات والدرجات. عاوزين يجوا هنا أهلا وسهلا، عاوزين يقعدوا هناك اعتبرهم مني هدية لزمن الحرية والمدنية والديموقراطية . أما انا يا ود الرواسي ، أفندي بالغلط ، مزارع زي ما قلت، هام على وجهه ورجع لنقطة البدء. رجعت عشان أدفن هنا .أقسمت ما اعطي جثماني أرض غير أرض ود حامد."
(محيميد في بندر شاه: طبعة دار الطليعة: الصفحة 86)
أولاً بالتبادي: الروائيون وأبطالهم:
"الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه"
(جابريل جارثيا ماركيز: عشت لأروي: ترجمة صالح علماني، 2004)
لا أظن كاتبا أو روائيا أضطره النقاد والقراء للإفصاح عن ماهية شخوص رواياته كما الطيب صالح... لقد ظل الرجل في غرفة التشريح الأدبي طيلة حياته الروائية...من مجموع شخوصه وأبطاله وحدها شخصية مصطفى سعيد هي التي قادت الطيب صالح إلى حراسات الأمن الروائي واقفاص الاتهام الأدبي..حوالي نصف قرن من الزمان والقراء والنقاد والمحلفون في المحاكمات الأدبية ينتاشون الطيب بذات السؤال الحارق: من هو مصطفى سعيد وما علاقتك به؟.
ابتداءً وعلى المستوى الكلى هناك ثمة اتفاق على ان "التيمة" الأساسية لرواية "موسم الهجرة" هي الصراع بين الشمال والجنوب...يقول ابراهيم درويش في دراسته "الطيب صالح: ملحمية التجربة والحنين الدائم للطفولة ومواجهة القاتل في قلب الامبراطورية" إن"موسم الهجرة جاءت في ظروف الاستقلال وما بعد الاستعمار ومن هنا يرى فيها إدوارد سعيد رحلة معاكسة لبطل جوزيف كونراد ‘قلب في الظلام" فيما يراها نقاد اخرون رواية عن اللقاء بين الشرق والغرب جاءت في مرحلة انتهت فيها روايات الألق والصدمة التي قدمها روائيون عرب منذ مفتتح القرن العشرين، مع وجود اختلافات بين مصطفى سعيد وابطال روايات سهيل ادريس ويحيى حقي وتوفيق الحكيم".(أهـ).
هذا حديث حسن لا غبار عليه أما الغبار، وما يعلوه من "هبباي" و"كتاحة" فيبقى معلقا في سماء واشجة لا تنفصم عند النقاد بين شخصية مصطفى سعيد والكاتب...البحث، بل الحفر والتنقيب، المستمر في سمات شخصية مصطفي سعيد ومحاولات الربط بينها والسيرة الذاتية للطيب صالح تلخص مدلول السؤال المركزي حول مسئولية الكاتب عن المكونات الأخلاقية والإنسانية لأبطاله...ورغم سرمدية السؤال وترحاله في تاريخ الفن الروائي العالمي إلا أن قصة ارتباط الطيب بالمستر مصطفى سعيد تبدو مخالفة نوعا ما... إن التطابق الجزئي (مكانا وزمانا) بين بعض مراحل حياة الكاتب وترحاله بين الجنوب (شمال السودان) والشمال (إنجلترا) وبعض مراحل حياة بطله الأشهر مصطفى سعيد المنتقل ما بين ذات الأتجاهين والموقعين الجغرافيين قد أدى إلى إجتراح حالة قبول رائجة لفكرة "الرواية داخل الرواية" وهو ما أفضى، في تقديرنا، إلى التساؤل الدائم عن العلاقة بين الكاتب وبطله.
كأرضية عامة لبحث هكذا علاقة قد يكون مهما ان نستدعى أسئلة موازية أخرى كمدخل للتأسيس لما نود بحثه وتوضيحه... الأسئلة تتمحور حول علاقة الكٌتاب بأبطال رواياتهم..وللتدليل والتمثيل نسوق أمثلة من جنس: ما هي علاقة نجيب محفوظ بالقيم الاخلاقية والسلوكية للسيد أحمد عبد الجواد "سي السيد" في "الثلاثية"؟ أو محجوب عبد الدائم في "القاهرة الجديدة"؟..إلى أي مدى رشحت السمات السلوكية والخيارات السياسية والاجتماعية لخيري شلبي في تصرفات "حسن أبو ضب" في "ثلاثية الأمالي"؟.. ماذا يريد واسيني الاعرج ان يقول على لسان بطله مقطوع اللسان "حسيسن" في "حارسة الظلال" وهو يصور جزائر العنف والدم والموت؟ ...ويمكن على ذات النول غزل تساؤل أشمل حول علاقة روائيين من طبقة ماركيز وباولو كوليو وشينوا أشيبي ونقوقي ثينقو وولي سوينكا وجمال محجوب ونور الدين فارح والطاهر وطار ويوسف القعيد وجمال الغيطاني واحلام مستغانمي وأمين معلوف بالمكون الثقافي والسلوكي لأبطال رواياتهم وقصصهم؟.
بكلام آخر فإن ذات السؤال السابق يمكن إعادة صياغته ليدور حول علاقة الروائي (كمبدع) بمجتمعه الذي يتعامل مع قضاياه...هل هو محض شاهد على العصر يقتصر دوره على التدوين التاريخي وعلى رصد وتصوير ديناميات الحراك الاجتماعي؟ ..هل المطلوب من هؤلاء الروائيين أن يكونوا شهودا عدولا ينهضون باستخدام ملكاتهم وقدراتهم الإبداعية في تصوير عصورهم ومجتمعاهم؟ أم أن لهم الحق (في نطاق هذه الإمكانات الإبداعية) في إعادة صياغة واقع افتراضي موازي لهم ان يحشدوا له مواقفهم ورؤاهم واخلاقياتهم وسلوكهم؟؟.
بعيدا عن السؤال الفلسفي حول الإبداع والإلتزام (كما عند سارتر وكامو) ومع تقريرنا وتقديرنا أن المبدع الروائي ليس مطلوبا منه، بالضرورة، أن يكون راوية للتاريخ أو داعية لأخلاقيات وسلوكيات معينة إلا أننا نرى أن الرؤية الإبداعية لا تخلو من الأيديولوجية والحمولة التاريخية والأطر الأخلاقية الجمالية...في هذا السياق يبدو مشروعا جدا أن يراجع الناس أعمالاً مفصلية ذات توجهات ومواقف واضحة من مجتمعاتها ونظمها والأيدولوجيات السائدة في تلك المجتمعات وآثارها...في هذا الخصوص تبرز أمثلة من لدن "مزرعة الحيوان" و"1984" لجورج اورويل وبعض أعمال "النوبليين" من طبقة الكسندر سولسنجتين ("أرخبيل الغولاق" و"الدائرة الأولى") وباسترناك ("دكتور زيفاجو") ونجيب محفوظ ("ثرثرة فوق النيل") وغير "النوبليين" :الطاهر وطار ("اللاز" و"العشق والموت في الزمن الحراشي") والطاهر بن جلون ("تلك العتمة الباهرة")، أمثلة لا حصرا بالقطع.
مستصحبين ما تقدم ندعي أن حياة الطيب صالح القادم من التخوم الأستوائية في عاصمة الضباب لنصف قرن من الزمان ربما أوحت للقراء أن جوانبا من شخصية مصطفى سعيد لها علاقة ما بسيرة الكاتب بذات القدر الذي نرى فيه لسيرة توفيق الحكيم الذاتية ظلالا وآثارا على بطله "محسن" في "عصفور من الشرق" ونلمح فيه تقاطعا لبعض سمات وسلوكيات يحي حقي مع سمات وسلوكيات "إسماعيل" بطل روايته المهمة "قنديل ام هاشم" ونقترح فيه أن "مارلو" قد حمل بعض رؤى جوزيف كونراد وامانيه وتصوراته للعالم وهو يخوض مغامراته الكونغولية في "قلب في الظلام"؟...دعونا نحتقب كل ذلك ونحن نبحث في حفريات العلاقة بين الكاتب وأبطاله وخاصة مستر مصطفى سعيد.
ثنينا بالصلاة على النبي: الطيب صالح وأبطاله: مصطفى سعيد وودالرواس وبينهما محيميد:
"لا تبح لـ(لسانك) بمكنون صدرك
ولا تعجل بتنفيذ رأي لم يتم نضجه
كن متوددا إلى الناس، ولكن إياك أن تكون مبتذلا
وإن كان لك أصدقاء وبلوّتهم وخبِرتهم
فضمهم إلى نفسك بأطواق الفولاذ
أما الرفيق الغر الذي لم تهذبه السنون
فلا تتعب كفك بمصاحبته والاحتفاء به
حاذر أن تشتبك في عراك، ولكن قدر إن اشتبكت
فاحتمله، حتى يتقيك الخصم ويخشاك
أعر سمعك لكل الناس ولكن لا تسمع صوتك إلا للقليل منهم
أنصت إلى دعوى كل إنسان ولكن لا تتسرع في الحكم"
(نصائح بولونيوس إلى يا لايرتس: مسرحية هامليت،شكسبير)
داخل ما سبق طرحه من أطر لعلاقة الكاتب بأبطاله، ننظر في علاقة الطيب صالح بمصطفى سعيد لنقول ربما كان الكاتب مسئولا في بعض الجوانب عن هذه العلاقة الملتبسة او "الغميسة" (كما يقول حسن موسى) .. في دراسته الموسومة :"مصطفى سعيد بين الواقع والفن" يقول عبد المنعم عجب الفيا :"لقد عبر الطيب صالح في كتاب "على الدرب .. ملامح من سيرة ذاتية" عن فلسفته في الكتابة الروائية بقوله : "تجدني دائما أقول أنني أعتمد على أنصاف الحقائق والأحداث التي يكون جزء منها صحيحا والآخر مبهمـا.. هـذا يلائمنـي تمامـا.. بمعنى آخر يكفيني جملة سمعتها عرضا في الشارع لأستوحي منها فكرة للكتابة، ليس بالضرورة أن أجلس مع صاحب الجملة لأستمع إلى قصة كاملة … تكفي جملة واحدة أسمعها وأنا في الطريق ، فقد تثيـر فـي نفسـي أصـداء لا حـدود لها"....ولكن ما مدى هذه الأصداء؟ ...يواصل عجب الفيا فيقول :"خلصت (...) إلى أن الطيب أضفى بعض من ميوله الفكرية والأدبية على شخصية بطله مصطفى سعيد مثل ميوله إلى الاشتراكية الفابية ودراسته الاقتصاد بالمدرسة التي أنشأها حزب العمال وانضمامه إلى أحد أندية الكويكرز وحبه لشعر أبي نواس ومسرح شكسبير. فإذا كان الطيب صالح قد استمد بعض ميول مصطفى سعيد الفكرية والأدبية من تجاربه وميوله الشخصية فهل استمد مغامراته وغزواته النسائية من حكايات ومغامرات "علي أبو سن" التي كان يلح في الاستماع إليها؟ هل كانت هذه الحكايات والمغامرات تمثل أنصاف الحقائق والأحداث التي صاغ منها جزءاً من شخصية مصطفى سعيد؟"(انتهى حديث عجب الفيا).
جيرزلدا الطيب من جانبها برأت الطيب صالح من تهمة "الصلة والقرابة" من شخصية مصطفى سعيد مؤكدة إن "موسم الهجرة" ليس ولا يمكن أن يكون سيرة ذاتية للكاتب....جريزلدا ترى" ان مصطفى سعيد بطل متخيّل على عدة مستويات في ذهن المؤلف وانه قد ُصنع من مزج عدة شخصيات التقاهم بالتأكيد الطيب صالح أو سمع بهم عندما ذهب لأول مرة إلى لندن عام 1952" ..وتواصل جيرزلدا تحليلها لتقول:"ولكن قبل أن نمعن أو ننطلق في هذه الفرضية علينا أن ننظر الى شخصية البطل ونقسمها الى ثلاثة محاور:
مصطفى سعيد- الأكاديمي السوداني الذي يعيش في لندن.
مصطفى سعيد- "دون جوان لندن".
مصطفى سعيد – "وعودته الى موطنه الأول".
وترجح الكاتبة ان مصطفى سعيد الأكاديمي هو شخصية «متكوّنة» من ثلاثة أعضاء في دفعة السودانيين النخبة الذين اختيروا بعناية، وأرسلوا بواسطة الحكومة السودانية عام 1945 لجامعات المملكة المتحدة ....، وكلهم يمثلون شخصيات بطولية في الوعي الوطني الباكر للسودانيين، أحدهم هو د. سعد الدين فوزي وهو أول سوداني يتخصص في الاقتصاد بجامعة أكسفورد ...عبدالله الطيب الحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة لندن في اللغة العربية والذي عيّن بعدها محاضرا في كلية الدراسات الأفريقية والشرقية بالجامعة نفسها...الثالث الذي اقتبس الطيب صالح جزءاً من شخصيته لتمثل الصفة الثالثة عند مصطفى سعيد وهي "الدون جوان"، الى حد ما، فهو الدكتور أحمد الطيب. هذا الرجل كان جذابا وشخصية معقدة ومفكرا رومانسيا".(انتهى حديث جريزلدا).
وسواء كان مصطفى سعيد قد اكتسب بعض الجينات الثقافية من الطيب صالح كما في رأي عجب الفيا أو وهبه الطيب صالح بعض الجينات السلوكية من سودانيين آخرين كما اقترحت جيرزلدا الطيب إلا انه بقي شخصية محيرة تماما ..ولعل هذا ما دعا عادل الباز ليطرح إشكالية "الجلاد –الضحية" كحالة معبرة عن واقع مصطفي سعيد ..يقول الباز في مقالته "مصطفى سعيد ...لعنة الله عليك": عاش مصطفى سعيد حياة مليئة بالتناقضات والصراعات والغموض...ينتابنى احياناً احساس ان مصطفى سعيد ليس اكثر من مجرم ذكى بل هو افاك عظيم...ليس اكثر من داعر فى حانات ومقاهى لندن.. مصطفى سعيد شخصية تافهة لا يستحق ان يُكتب عنها سطر. وهب الله مصطفى سعيد عقلا عظيما ولكنه حوّله إلى آلة حادة لقتل وتدمير عشرات الشخصيات"....من ناحية ثانية يتراجع الباز ليقول :"مصطفى سعيد ضحية لظروف واقدار لا يد له فيها . مصطفى سعيد ضحية لليتم وضحية للاستعمار وضحية للحضارة الغربية. مصطفى سعيد لم يذهب للغرب غازيا لم يكن «عطيل»، عطيل كان اكذوبة كما قال هو نفسه . مصطفى سعيد حينما ادرك ان الحضارة الغربية دمرته حاول الانتقام فاستخدم اداته التى استخدمها للانتقام من جين مورس ومسز روبنسون وغيرهما"(انتهى كلام الباز).
ما يستفاد مما سبق من حديث أن الطيب صالح قد أضفى بعضا من مكونه العقلي وأفقه المعرفي ورؤاه السياسية على بطله مصطفى سعيد ..أما المكون الأخلاقي والسلوكي والعاطفي لذات البطل فلا علاقة له بسمات الكاتب ومنظومة سلوكياته والتي أشرنا إلي بعضها في الجزء الاول من هذا العمل..بهذا الفهم فإن الطيب صالح كان فاعلا في شق من تكوين مصطفى سعيد وشاهدا عليه في شق آخر...الطيب صالح المتواضع الصوفي كان شاهدا على عبقرية مصطفى سعيد واعتزازه بعقله الجبار ..ذلك الاعتزاز الذي جعله يوقن أن الحق والباطل شقيقان نختلف في رؤيتنا لما يمثلانه ...أليس هو القائل"ورغم ادراكى اننى اكذب فقد كنت احس اننى بطريقة ما اعنى ما اقول، وانها ايضاً رغم كذبها فان ما قالته هو الحقيقة. كانت لحظة من لحظات النشوة النادرة التى ابيع عمرى بها كله. لحظة تتحول فيها الاكاذيب امام عينيك الى حقائق، ويصير التاريخ قواداً، ويتحول المهرج الى سلطان" (145)....هذا رجل منبت سلوكيا ...كل وسيلة توصله لمآربه فهي قمينة بالتجريب ومن ثم المباهاة بالنجاح في استخدامها:""الطائر يا مستر سعيد قد وقع في الشرك، النيل، ذلك الاله الافعى، قد فاز بضحية جديدة، المدينة قد تحولت إلى إمرأة" (صفحة 49)....مصطفى سعيد اللندني عاش حياة شعارها:"أنا لست عطيلا..عطيل كان أكذوبة"..لا ..لا ..لا .. المكون الأخلاقي للطيب صالح صاغ ملامح مصطفى سعيد السلوكية بكل قسوتها العاطفية وعدم انتمائها ليبلغ بالبناء الدرامي لبطله على ذلك البعد مداه.
وفي حين عاش مصطفى سعيد حياته الروائية منذ صدور موسم الهجرة إلى الشمال في قلب الأضواء انزوت شخصيات أكثر تعبيرا عن سلوكيات الطيب المشتهاة (المتخيلة) والحقيقية (الواقعية) ..ونستدعي اثنتين من هذه الشخصيات للمماثلة ولتبيان المساواة والتوازن بين ظل الزاوية وجيب تمامها في هندسة بناء الشخصية عند الطيب...أول هذه الشخصيات هي الطاهر ود الرواس وثانيتهما شخصية محيميد.العلاقة بين مصطفى سعيد (خاصة في إطاره السلوكي) والطاهر ود الرواس علاقة تضاد مباشر... كلاهما كان كالراعي الاندلسي "سانتياغو" في الخيميائي عند كويليو ..هما بطلا قضية الاستقرار والترحال ولب قضية "الأسطورة الشخصية"... في ثنايا كلمة الروائية والكاتبة السعودية ثريا العريض عند رحيل الطيب صالح إضاءة لما بين هاتين الشخصيتين من تناقض أساسي .. تقول العريض :""برحيله فقدنا أديبا متميزا. وتميزه ليس فقط في لغته وأسلوبه بل أيضا في عمق تواصله بانفعالات الشاب العربي الذي يقف بين شفيرين: إدراكه أن معتقدات مجتمعه لا تسمح أن يكون هناك تقبل متبادل مع من يتجاوز وعيه تلك المعتادات البسيطة بما في ذلك الخزعبلات المتوارثة، والشفير الثاني هو إدراكه أن المجتمعات البعيدة التي يجذبه إليها تطورها المعرفي لا تراه إلا مختزلا في إطار الرومانسية الاستشراقية التي تنجذب إلى تفاصيل سطحية ينفر منها هو ولا يتقبلها في ما يراه ذاته الفردية. وهنا تأتي إشكالية العبور إلى الشمال حيث هو عبور لا يتم أبدا"....وتتساءل العريض: «هل عبر الطيب صالح بعد ذلك الهوة التي فصلته في برزخ بين المجتمعين؟ هل حقق الهدنة والتصالح مع ذاته ومجتمعه ومجتمع الآخر؟» وتجيب: لا أعرف، ولكنه الآن ارتاح من مواجهة الصراع في تلك المساحة الضيقة بين الشفيرين والكتابة عنه".
على حد أحد شفيري د. العريض يقف مصطفي سعيد الراحل إلى "المجتمعات البعيدة" ذات التطور المعرفي التي لا يرى الجنوبي نفسه فيها "إلا مختزلا في إطار الرومانسية الاستشراقية".. ولكن مصطفى سعيد، بما فيه من غربة روحية وخلو من العاطفة لم يكن يهمه حتى التطور المعرفي في الشمال....يقول عن غربته تلك" "ثلاثون عاما كان شجر الصفصاف يبيض ويخضر ويصفر في الحدائق، وطير الوقواق يغني للربيع كل عام. ثلاثون عاما وقاعة "ألبرت" تغص كل ليلة بعشاق "بيتهوفن وباخ" والمطابع تخرج آلاف الكتب في الفن والفكر.. مسرحيات برنارد شو تمثل في الرويال كورت "الهيماركت". كانت "إيدت ستول" تغرد بالشعر، ومسرح "البرنس أف ويلز" يفيض بالشباب والألق. البحر في مده وجزره في "بورنمث و براتين" ومنطقة البحيرات تزدهي عاما بعد عام. الجزيرة مثل لحن عذب سعيد حزين في تحول سرابي مع الفصول. ثلاثون عاما وأنا جزء من كل هذا، أعيش فيه ولا أحس جماله الحقيقي"...ثلاثون عاما قضاها مصطفى سعيد لخصها أثناء محاكمته بروفيسور "ماكسول فستركين" أستاذه في الجامعة :"أنت يا مستر سعيد خير مثال على أن مهمتنا الحضارية في إفريقيا عديمة الجدوى، فأنت بعد كل المجهودات التي بذلناها في تثقيفك كأنك تخرج من الغابة لأول مرة"... مصطفى سعيد كان يعرف كل ذلك واكثر:" كنت في الخامسة عشرة، يظنني من يراني في العشرين، متماسكا على نفسي كأنني قربه منفوخة. ورائي قصة نجاح فذ في المدرسة. كل سلاحي هذه المدية الحادة في جمجمتي، وفي صدري إحساس بارد جامد كأن جوف صدري مصبوب بالصخر". هذا هو مستر سعيد بعقله الجبار وقلبه الخالى عن كل جمال وعن كل حب وعن كل إنسانية.
على الطرف الآخر تماما يقف الطاهر ود الرواس صاحب "معتقدات المجتمع" بكل احتشادها ب "المعتادات البسيطة" و"الخزعبلات المتوارثة".... ما بين الشفيرين حاول الطيب حل "شفرة دافنشي" صراع الحضارات مستخدما رموزا وأرثا مشرقيا كبيرا موكلا المهمة إلى الطاهر ود الرواس.
إذا كانت حياة مصطفى سعيد الإنسانية قد نشأت على الفطرة ووسمتها تصاريف القدر وتشكلت بإمرة نفس أنانية مادية ذات خواء روحي محض...فإن الطيب، في سعيه لإيجاد المعادل الموضوعي (سلوكيا على الأقل) استطاع بناء شخصية موازية نشأت كذلك على الفطرة ووسمتها تصاريف القدر ولكنها امتلأت بروح إنسانية وحكمة ربانية...الطاهر ود الرواس خلافا لمصطفى سعيد بقي ملتصقا بالأرض ..يعتاش من النهر صائداً للأسماك ..اكتفي من فرض الصلاة بصلاة زوجه فاطمة بت جبر الدار..كان صادقاً محباً محبوباً ..خلق منه الطيب صالح مرآة للذين هاجروا والذين تعلموا والذين أدمنوا السلطة فاسكرتهم خمرها نشوة وظفراً واحرقتهم نارها خسراناً وهزائم.
الطاهر ود الرواس هو حالة الثبات واليقين عند الطيب ...استمد قوته من المحبة الإنسانية لا غيرها ..يقول عن أمه حواء بنت العريبي "ما رأيـت حباً مثل حب تلك الام. وما شفت حنان مثل حنان تلك الأم. ملأت قلبي بالمحبة حتى صرت مثل نبع لا ينضب"..هذه العبارة على إيجازها حملت كل مضامين ورؤى الطيب صالح التي بشر بها : الأم والانتماء، الحب، الحنان والمحبة.
بدأ الطيب يبني معمار هذه الشخصية منذ "الرجل القبرصي" التي يقول فيها : "جاء صديقي الطاهر "ود الرواسي" وجلس إلى جانبي على الكنبة أمام متجر سعيد كان متهلل الوجه نشطاً ممتلئاً عافية قلت له: "صحيح ليش ما كبرت أو عجزت مع أنك أكبر منهم كلهم؟". قال: "من وعيت على الدنيا وأنا متحرك ما أذكر أني وقفت من الحركة أشتغل مثل الحصان وإذا كان مافي شغل أخلق أي حاجة أشغل نفسي بيها. أنوم وقت ما أنوم بدري أو وخري، شرط أصحي على المؤذن أول ما يقول "الله أكبر الله أكبر" لصلاة الفجر".
- لكنك لا تصلي؟. قال:"أتشهد وأستغفر بعد ما المؤذن يخلص الأذان، وقلبي يتطمن أن الدنيا ماشية زي ما كانت. آخذ غفوة مثل نص ساعة، العجيب غفوة ما بعد الأذان تساوي عندي نوم الليل كله. بعدها أصحي كأنه صحاني منبه".
أقوال وحكم الطاهر ود الرواسي بشأن الدنيا وبشرها وعلاقاتهم الاقتصادية والاجتماعية تؤسس لمنظومة متكاملة من القيم الاخلاقية التي هي أكثر تعبيرا عن الكاتب بسماته وسلوكه المعروف...هذه الأقوال والحكم تمثل دليل الطيب صالح الذكي و"كاتلوجه" لبناء عالم من المحبة الواقعية القائمة على الإنسانية في أسمى معانيها.
إذا كانت شخصية مصطفى سعيد قد بهرت الناس ببنائها المحكم فإن الطيب قد أجاد في تكوين خلفية وملامح وسمات الطاهر ود الرواس بالقدر والوجه الذي جعل الحكم والمقولات الصادرة عنه عنوانا لنمط سلوكي مختلف تماما وقد استطاع الطيب صالح ببنائه الدرامي الشامخ أن يهييء ود الرواس للعب دور الضمير الإنساني بصدق كبير وشفافية آسرة جميلة.
الطاهر ود الرواس القابع في قرية في شمال السودان استطاع ان يؤسس لعلاقة إنسانية مختلفة عن السائد والمالوف ..علاقاته مع نفسه وزوجه وأصدقائه ومع من يحب من الناس ..مع الدنيا واحوالها... موقفه من السلطة ومن الدين ...هذه كلها علاقات قائمة على وحدة الرؤية لما نريد من أنفسنا ومن الدنيا ...عن طريق قناع الطاهر ود الرواسي مرر الطيب رؤاه ومواقفه الأخلاقية والإنسانية والسياسية...في الحالات التي أراد فيها الطيب تعزيز رؤاه استعان ببعض البرازخ والجسور في عمليات إكمال بناء وتصدير هذه الرؤى... هذه الجسور والبرازخ اتخذت شكل أقرب شخوص روايات الطيب إلى سيرته الذاتية ..الراوي في "موسم الهجرة إلى الشمال" ومحيميد في "ضو البيت" و"مريود" ...في مواقف أخرى استعان الطيب بشخوصه الأخرى للعب أدوار مساندة محددة لبطله الكبير الطاهر ود الرواس لمساعدته على تطوير الرؤى وإعلان المواقف.
إن مهنة "الحواتي" كسبيل معاش للطاهر ود الرواس تم اختيارها بعناية كبيرة من قبل الطيب صالح..هذه ليست مهنة حرة فقط بل مهنة ذات حرية مطلقة ..مهنة تاريخية ..لا علاقة لها بعلاقات وعوامل ووسائل الإنتاج التقليدية وخاصة المرتبطة مباشرة بالأرض والتي تمثل القيمة الأساسية الحقيقية للإنسان في تلك المجتمعات ..يقول الطاهر عن عمله اليومي "أعمل الشاي واصحي فاطمة. هي تصلي صلاة الصبح.. نشرب الشاي. أنا أنزل أقابل الشمس فوق صفحة النيل وأقول لصباح الله حبابك ومرحبابك. أغيب ذي ما أغيب أرجع ألقى الفطور حاضر نقعد أنا وفاطمة وأي إنسان من عباد الله تجئ به لينا القسمة أكثر من خمسين سنة على هذي الحالة".
الطاهر منبت قبليا..والده بلال روّاس مراكب القدرة ..بلال "العبد" كما يقول عن نفسه..."الحكاية مو الطاهر ود الرواس...الحكاية الجد حكاية الطاهر ود بلال ..ولد حواء ..العبد".. الطاهر واعٍ تماما بموقعه في منظومة التراتيب الإجتماعية ..يدرك تماما أين يقف من مجتمعه ذاك وماذا يريد منه... لقد تحرر من ربقة علاقات الانتاج السائدة في ذلك المجتمع :"ما دام الواحد ضامن عشا ليلته، عليك أمان الله ما يهمه حكمدار ولا سردار ..الكلام انت يا محيميد . ضيعت عمرك في التعليم ولفيت ورجعت لي ود حامد السجم دي بخفي حنين. كانك بقيت أفندي بالغلط ،من زمان وأنت نفسك في زراعة الرماد دي"...تحرر من علاقات الإنتاج كما تحرر أيضا من إحساس العبودية الذي قايضه –في إطار تصالحه مع ذاته ومحيطه- بالمحبة فربح ونال النعمة مزدوجة :"أنا المولى عز وجل أكرمني بالحيل ..انعم علي بدل النعمة نعمتين..أداني صداقة محجوب وحب فاطمة بت جبر الدار".
إذا كان الطاهر سليل بلال "العبد" أقل شأنا بمكاييل أهل الدنيا المطففين فإن الطيب صالح قد جعل له الرجحان بموازيين أعدل وأكثر عرفانا..الحوار بين الشيخ نصر الله ود حبيب وبلال والد الطاهر في "مريود" يضيء الامر برمته: "يابلال، أنت عبد الله كما انا عبدالله نحن أخوة في شأن الله . أنا وأنت مثل ذرات الغبار في ملكوت الله عزوجل . ويوم لا يجزي والد عن ولده يمكن أنت كفتك ترجح كفتي في ميزان الحق جل جلاله . كفتي أنا أرجح من كفتك في موازين أهل الدنيا ولكن كفتك يا بلال سوف ترجح كفتي في ميزان العدل. أنا أجري جري الابل العطاش يا بلال لكي أحظى بقطرة من كأس الحضرة، وأنت شربت إلى أن أرتويت يا بلال.. أنت سمعت ورأيت، أنت عبرت وعديت، ولما ناداك الصوت قلت نعم، قلت نعم، قلت نعم".
صفاء النفس والروح وخلوها من الغرض والمرض وهبت الطاهر تلك الرؤية الثاقبة والبصيرة النافذة التي ترى ما وراء الأشياء ... آراؤه في البشر وقدرية المصائر:"تعرفوا يا جماعة الدنيا دى ماشيه بالعكس انت يا محيمد كنت عاوز تبقى مزارع بقيت افندى ومحجوب كان عاوز يبقى افندى بقى مزارع"...مقولاته النابعة عن معرفة أخرى كانت مطية الطيب صالح وزاملته في رحلة مراجعة الذات ...وجود الطاهر ود الرواس كان محفزا للطيب صالح( مرتديا قناع محيميد) لمراجعة ما فات من زمان وما انطوت من سيرة ماضوية اتسمت بقلة الحيلة امام الخيارات الحياتية والمسارات المهنية...هل يا ترى كان المتكلم محيميد أم الطيب صالح في "ضو البيت"(الصفحة 83):"وبعد داك كل شيء مشى بالعكس، الإنسان لازم يقول لا من أول مرة ...كنت فرحان في ود حامد..أزرع بالنهار وأغنى للبنات بالليل..أشرك للطير وأبلبط في النيل زي القرنتي..القلب فاضي وراضي.. بقيت أفندي لان جدي أراد, ووقتين بقيت أفندي كنت عاوز أبقى حكيم، بقيت معلم، وفي التعليم قلت ليهم: اشتغل في مروي قالوا: تشتغل في الخرطوم. وفي الخرطوم قلت لهم ادرس الأولاد قالوا تدرس البنات. وفي مدرسة البنات قلت ليهم ادرس تاريخ، قالو تدرس جغرافيا، وفي الجغرافيا قلت ليهم ادرس أفريقيا، قالوا تدرس أوروبا وهلمجرا".
هذه لوحة سيريالية أكثر وأدق تعبيرا عن واقعية مسارات أجيال كاملة من اهل السودان...حين أطالع هذه اللوحة اتذكر شيخنا ابراهام ماسلو وأركان المدرسة السلوكية في علوم الإدارة... هذه سيرة تخرج لسانها طويلا هازئة بنظريات وقواعد واسس تؤكد على إختيارات المسارات المهنية والرضا الوظيفي وسلم الحاجات الإنسانية...أطالع حديث محيميد فترتد إلىّ حسيرة اجتهادات فريدريك هرزبرج حول نظرية العاملين وأوليات هاكمان واولدمان بشأن نظرية سمات الوظيفة...ومن على البعد يترنح سلم شيخنا ماسلو ... على يد الطاهر ود الرواس تعلمنا، يتقدمنا محيميد والطيب صالح، أن سبل كسب العيش في السودان تخضع لكل شيء إلا ما خططنا له.
من إشراقات حوارات الطاهر ود الرواس التي تستوقف القاريء تلك المتعلقة بالسلطة مصدرا واستغلالاً وتلك المتعلقة بممارسات السلطة الوطنية ومقارنتها بممارسات الإدارة البريطانية ..كل تلك الآراء الخطيرة عمل الطيب صالح على تمريرها بمهارة شديدة من خلال الديالوج البديع بين ود الرواس ومحيميد العائد إلى المنبع في ود حامد بعد ان نال معاشه:"وشن قالولك يا محيميد؟ قالوا الحكام ألاد البلد صعبين اجارك الله. زمان الإنجليزي كان ينهرك ويقول لك أتلا باره (أطلع بره)..هسع قالوا أولاد البلد يضربو بالشلوت"!.
لم يكتف الطيب بسوء استغلال السلطة بل عمد إلى إكمال رسم صورة الممارسات اللامسئولة من قبل السلطة الوطنية في تقسيم غنائم السلطة حيث أورد الطيب على لسان الطاهر ود الرواس رؤاه الثاقبة التي تلخص عبث أهل السياسة بالسلطة في سودان ما بعد الإستقلال حتى اليوم ..حين استفسر محيميد (المتعلم والموظف الكبير المحال للمعاش) عن إمكانية إيجاد وزارة للطريفي ود بكري قائلا:"من وين يجيبوا ليه وزارة البلد ما فضل فيها جنس وزارة؟؟" كان رد الطاهر ( وقد ارتدى قناع الطيب صالح) :"ما بيغلبوا حيلة يعملوه وزير الجمعيات الخيرية أو وزير الإجزخانات او وزير الوابورات اى شئ من جنس اللغاويص البنسمع بيها".
لم يكتف الطيب صالح (على لسان بطله ود الرواس) بالسخرية من عبث السياسيين بالسلطة بل ذهب أبعد ليسبر غور معايير وأسس التعيينات السلطوية ...قال محجوب:"الطريفى ولد بكرى الجمعية التعاونية ما هو قادر عليها عاوز تعمله وزير؟"...كان رد الطاهر باهرا وقاطعاً:" إنت تفتكر الحكاية بالكفاءة الموضوع كله اونطة فى اونطة المهم تبقى فصيح لسان وقليل احسان بس كتر من يحيا ويعيش شوف الحزب القوى أدخل فيه شئ خطب وشئ عوازيم وشئ براطيل شويتين شويتين تلقى نفسك بقيت نائب فى البرلمان وبعد داك ارقد قفا"...مأساة السلطة في السودان منذ استقلاله وحتى يوم الناس هذا ونحن نسود هذه الصفحات أوجزها الطاهر ود الرواس في عبارته البليغة الدالة.
بعد ان شرح كيفية الوصول للسلطة استمر الطاهر في إضاءة كيفية تعامل المسؤولين معها...قال له محيميد :"واذا كان ما دخلت البرلمان ما عملوك وزير تعمل شنو؟ قال ود الرواسى:"إذا ما عملونى وزير جملة الايمان اعمل فيهم انقلاب... قال محيميد:"وبعدين؟".. قال الطاهر:"وبعدين كمان شنو ..أرقد قفا اى حاجة عاوزها اضرب الجرس.. ادخل يا فلان وامرق يا علان.. فلان عينتك حكمدار فلان سويتك باشمفتش ..فلان حكايتك بايظة معاى دخلتك السجن.. فلان ما تورينى خلقتك، فلان حبابك عشرة ..وقتين امرق بالعربية الشفرولية وسط البلد الناس تهتف: يعيش ود الرواس يحيا الطاهر ود الرواس خلاص بقيت حاكم عام".
الطيب صالح بعبقريته المسرحية قال على لسان الطاهر ود الرواس الكثير من وجهات نظره بشأن الشعارات السياسية ..سخريته تبلغ أوجها في حوار شديد الذكاء بين الطاهر وحاج سعيد (القانوني):"قلت لى يا حاج سعيد انت ياحاج العمال والفلاحين ديل بلدهم وين؟ قال لى:"يا مغفل العمال والفلاحين مو ياهن نحن"..أنا اخوك هسع نحنا اسمنا العمال والفلاحين؟.. قال لى:"ايوه"..."اها وزيادة الانتاج يعنى شنو؟".. قال لى:"الانتاج مو ياهو السجم البنسوى فيه ده وزيادة الانتاج يعنى تخت السجم فوق الرماد"...هذا مسرح كوميدي ساخر لخص رؤية قطاعات كبيرة من الناس بشان الشعارات الساسية الضخمة التي تقول كثيرا ولا تنجز شيئاً.
ولعل أقرب مقولات ود الرواس ورؤاه التي اقترب بها كثيرا من الطيب صالح هي تلك المتصلة بالعودة للجذور..حوار ود الرواس مع محيميد العائد للإستقرار في ود حامد بعد رحلة العلم والعمل بعيدا عنها ربما تعبر بصورة أقرب لأشواق الطيب وحنينه الدائم للإستقرار في السودان...نعم محيميد لم يغادر السودان كالطيب ولكن قضية الغربة والابتعاد عن المنبع واحدة بكل حسابات أرباحها وخسائرها...ما ردده ود الرواس في مقام العائدين للأصول والجذور (الراوي في "موسم الهجرة إلى الشمال" ومحيميد في "ضو البيت") تمثل محاولات الطيب لبناء وتمديد الجسور بين المرتع والمنبع... عبر هذا الحوار استطاع الطيب توظيف تلقائية وبساطة ود الرواس لردم الهوة بين الشفيرين.. حديث ود الرواس المتسم بالمباشرة يكشف الغطاء عن ذرائع الطيب لسد باب التناقض بين المحلي والعالمي ..بين موقع القدم ومحط الآمال .. مناداة الطاهر ود الرواس لمحيميد الراغب في العودة للجذور ضربت على وتر استعادة الزمان لإعمار المكان..."أنت يا محيميد أما شاعر أو مجنون"..محيميد كان الصنو المحلي لمصطفي سعيد ..كان رمزا للهجرة الداخلية جنوبا..كان يحكي لود الرواس مسببات العودة للجذور: "وقتين طفح الكيل، مشيت لاصحاب الشأن قلت ليهم خلاص. مش عاوز.. رافض.. ادوني حقوقي عاوز اروح لي اهلي، دار جدي وابوي.. ازرع واحرث زي بقية خلق الله، اشرب الموية من القلة وآكل الكسرة بالويكة الخضرا من الجروف، وارقد على قفاي بالليل في حوش الديوان.. أعاين السما فوق صافية زي العجب والقمر يلهلج زي صحن الفضة".. محيميد يريد العودة للماضي لأوقات ولت ولن تعود "عاوز اعود للماضي ايام كان الناس ناس، والزمان زمان"...هل كان الطيب يكتب عن امانيه التي لم تغادره ... رد الطاهر ود الرواسي كان موجعا ليس لمحيميد ولكن لكل من غادر موطنه وقايض شبابه وعمره بأوطار وأماني ...فلما قضى وطره وحقق مطلوبه (أو لم يقضه ولم يحققها) وأزفت المواعيد نشد الجذور على هواه ...يريدها في انتظاره على وعدها القديم وأمكنتها التي درست وأزمنتها التي ولت:
"انت يا محيميد اما شاعر أو مجنون او خرف الشيخوخة، لكن اهلاً بيك ومرحباً. ودحامد مسجمة ومرمدة. في الصيف حرها ما بينقعد، وفي الشتا بردها اجارك الله، النمتي وقت لقوح التمر، والضبان وقت طلوع المريق، فيها الدبايب والعقارب ومرض الملاريا والدسنتاريا، حياتها كد ونكد، ومشاكلها قدر سبيب الرأس، اسألنا نحن خابرنها زين .. الولادة بي كواريك، والموت بي كواريك، جنابك قضيت حياتك كلها منجعص في مكتب تحت المروحة، الموية بالحنفية والنور بالكهرباء والسفر درجة أولى....هلا ..هلا ! ما وقفت قَرَّاع عز الشتا، ما ركبت الحمير لامن جعباتك ورسن ...ما قعدت تعاين للتمر لا من ينجض.. يا الله السلامة، تصب عليه مطره واللا تحته هبوب، ما حرست القمح وايدك فوق قلبك يصيبه طير واللا دانقيل، وهسع وقت الصعيد جاب الهبوب مقلوبة، جيت تكوس رقدة الديوان تعاين للقمر يلالي في سابع سما، مرحبتين حباك وألف أهلاً وسهلاً".
رسالة الطاهر ود الرواس ليست رسالة مخصوصة لمحيميد بل هي رسالة لكل منا ..لكل من اقتنص فرصة في زمن ما واختار الغربة ...عند منحنى العمر نقبض على مكامن الوجع ..نريد إرجاع الزمان والعودة لأزمنة وأمكنة وعلاقات اندثرت وطوتها تراكمات السنين ... نجاهد لنستعيد ومض بروق لمعت في سالف الأوان وترجيع رنين ضحكات جلجلت في خالي الاوان..أقاصيص واحلام طواها الزمان كما يطوي ملاح مرهق اشرعته في نهاية الرحلة... نتأمل وصايا مصطفى سعيد للراوي بشأن مستقبل ابنيه بعد تجربته المريرة في الاغتراب المهلك "أن تجنبهما ما استطعت مشقة السفر" ...قضي الأمر مستر سعيد ...ورحم الله سيدنا الشريف الرضي وهو يردد من "وَلَقَدْ مَرَرْتُ عَلى دِيَارِهِمُ":
وَلَقَدْ مَرَرْتُ عَلى دِيَارِهِمُ وطلولها بيد البلى نهب
فوقفت حتى ضج من لغب نضوي ولج بعذلي الركب
وَتَلَفّتَتْ عَيني، فَمُذْ خَفِيَتْ عنها الطلول تلفت القلب
غفر الله لنا ورحم الله الطيب وسيدي الشريف وآله والعترة الشريفة الطاهرة.
انتهى بحمد الله الجز الثاني ويليه الجزء الثالث: "الياقوت في فصوص منظومة "ضو البيت": المتنبيء واللورد بتلر يترنمان مع التاج مصطفى في حضرة حاج الماحي والحاردلو وود الرضي"