افتتاح محطة توليد الكهرباء بسدي ستيت وعطبرة في شرق السودان مؤخرا يعتبر أهم اشارة على عودة رؤوس الاموال العربية الاستثمارية الحكومية الى السودان بعد الانفصال وان كانت سبقتها بعض رؤوس الاموال الخاصة. وبهذا يدخل السودان الى المرحلة الرابعة من جهوده لتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية. المراحل الثلاث السابقة لم تحقق أنجازا يذكر لسبب رئيسي وهو عدم الاستقرار السياسي الذي جعل من العسير استمرار خطط التنمية الموضوعة فهل ستلقى المرحلة الرابعة نفس المصير؟ تمثلت الفرصة الاولى عقب الاستقلال مباشرة عندما كانت الامال عريضة وتتمتع البلاد بخدمة مدنية قوية وفائض مالي معقول. أما المرحلة الثانية فجاءت في عقد السبعينات بعد زيادة أسعار النفط وبروز معادلة مزاوجة ثروات السودان الطبيعية مع التقنية الغربية ورؤوس الاموال العربية التي تمثلت في مشروع كنانة ولخصها شعار "السودان سلة خبز العالم العربي" الذي لم يجد مكانه الى التحقيق رغم تدفق ما يزيد على 800 مليون دولار في تلك الفترة. الفرصة الثالثة المهدرة تمثلت في عقد الفورة النفطية التي وفرت دخلا للخزينة العامة بالعملة الصعبة هو الاكبر في تاريخ السودان مهما كان حجمه اضافة الى ان النفط وفر تغطية للحصول على قروض. هذه المرة يبدو تدفق الاستثمارات مختلفا لتركزه بصورة رئيسية في الاموال الخليجية حيث تكتسب استثماراتها بعدا استراتيجيا كما ان القطاع الخاص الخليجي يلعب فيها دورا أكبر من السابق وكمثال المستثمر السعودي سليمان الراجحي الذي فاقت استثماراته في السودان حتى الان المليار دولار وعلى راسها مصنع للآسمنت ومشروع لزراعة القمح بدأت بستين ألف فدان، وكذلك مشروع "أمطار" الاماراتي للشيخ محمد العتيبة غرب الدبة على مساحة 130 ألف فدان وأستثمرت فيه 95 مليون دولار، وأيضا شركة "نادك" التي تقيم مشروعا في محلية جبرة في شمال كردفان على مساحة 15 ألف فدان، أو أعادة تحديث وتشغيل مصنع كريمة لتعليب الفواكه والخضار وآنتاج 400 طن يوميا بشراكة مع مجموعة القحطاني السعودية. فالدول الخليجية تفتقر الى الاراضي الزراعية والمياه ولهذا فهي في حالة سعي الى توفيرأحتياجاتها الغذائية من خارجها. فرؤية السعودية المعروفة 2030 تتحدث عن تأمين الموارد الغذائية عبر بناء مخزونات استراتيجية وشراكات زراعية مع الدول التي حباها الله بالموارد الطبيعية من تربة خصبة ومياه وفيرة. ولهذا فأن مشروع خزاني أعالي عطبرة وستيت يتضمن ري مليون فدان انسيابيا. ووفرت السعودية 1.7 مليار دولار لهذا المشروع اضافة الى اقامة سدين أخرين في الشريك وكجبار اضافة الى سد مروي. وهذا ما يجعل الاقليم الشمالي موعودا بأن يصبح أكبر حاضن للتوليد المائي والتوسع الزراعي كما يقول دكتور محمد الامين النور في ورقة له عن المشروع اذ يمكن زراعة ثلاثة ملايين فدان عبر ترعتي سد مروي الشرقية والغربية بأمتداداتها بالتكامل مع المياه الجوفية في حوض دنقلا. المشروع يقوم على انشاء قناتين كبيرتين على مسافة 400 كيلومترا حتى مشارف الشلال الثالث وبعرض 40 كيلومترا، ويمكن للقناة الشرقية ري 400 ألف فدان والغربية 600 ألفا وبما يحقق زراعة مليون فدان بنسبة 100 في المائة في الموسم الشتوي و نصفها في العروة الصيفية. ويمكن للمشروع أن يستهدف 100 ألف أسرة من اجمالي 115 ألف أسرة هم سكان الاقليم وتستفيد منه خمس محليات هي مروي، الدبة، القولد، دنقلا والبرقيق. وكان قد تم أعتماده في مؤتمر نهضة الاقليم الشمالي في مايو من العام الماضي و يبدو ان قضية التمويل هذه قطعت شوطا مقدرا وان لم تحسم بعد. وعند أكتمال هذه الاضافة فأنها ستمثل ثلاثة أضعاف أكبر توسعة زراعية عبر الري المنتظم منذ استكمال تلك التي شهدها مشروع الجزيرة بأضافة امتداد المناقل في ستينات القرن الماضي وتتيح بالتالي فرصا أستثمارية ضخمة. وهذا ما يمكن أن يشكل نقلة نوعية في علاقة السودان بالدول الخليجية التي تتهيأ الى أن تتجه الى مرتبة الشراكة بعد أن ظلت ولعقود عديدة محكومة بوضعية السودان مصدرا للعمالة ومتلق للمعونات والقروض، وهو ما يحتاج الى وضع سياسي أكثر استقرارا ووحدة في الجبهة الداخلية لتحقيق فوائد أكثر وقدرة على المنافسة العالمية. و لا يقتصر الامر على استغلال موارد البلاد الطبيعية خاصة الاراضي القابلة للزراعة وتقدر بحوالي 200 مليون فدان لم تتأثر بأنفصال الجنوب، وأنما أصبح للوضع الجيوستراتيجي أهميته الاقتصادية كذلك. فالسودان يجاور أربع دول تعتبر مغلقة وتحتاج الى منافذ بحرية لتصلها بالعالم وهي: جنوب السودان، وتشاد وأفريقيا الوسطى وأثيوبيا. واذا كان السودان قد أصبح المنفذ الوحيد لنفط جنوب السودان الى الاسواق العالمية، فأن الدول الثلاث الباقية دخلت في مناقشات لآنشاء موانيء خاصة بها على ساحل البحر الاحمر وهي نقاشات فيما يبدو وصلت الى مرحلة متقدمة كأن يسمح لهذه الدول بأدارة هذه الموانيء بطريقتها. اطلاق يد هذه الدول في ادارة الموانيء التي ستقيمها يقتدي بسابقة منح السعودية المليون فدان لمدة 99 عاما في شرق السودان. والفكرة ليست جديدة و لا قاصرة على أروقة الحكومة فقط. فقبل أكثر من عامين تقريبا طرح الدكتور عمر محمد علي الذي عمل من قبل في الصناديق العربية فكرة أطلق عليها السيادة المستعارة وذلك في أطار دراسة جامعة من 379 صفحة مستعيدا تجربة الصين مع هونغ كونغ التي وفرت لها منفذا للعالم الخارجي وذلك للوصول الى شراكة ذكية مع الدول الخليجية لتأمين الغذاء عبر مشروعات كبرى مع تناول لمختلف الجوانب القانونية وكيفية القبول الشعبي بالفكرة وتحديد للمناطق المقترحة منطلقا من قضية تغيير المناخ وكيفية تحقيق التنمية في أقاليم الهامش. ومع انه ليس واضحا الى أي مدى أسهمت ورقة دكتور عمر هذه في ابراز التوجه نحو كسب المستثمرين من خلال أعطاءهم حق الامتياز والانتفاع لفترة طويلة، الا انه من الواضح ان هناك قناعة متنامية بأهمية التفكير خارج الصندوق كما يقال وأيجاد وسيلة أكثر جذبا لتمويل التنمية مع أستحالة ايجاد الفائض المالي المحلي والقيود التي تحيط بأمكانية تدفق القروض الخارجية من مؤسسات التمويل الدولية. على ان التحدي الكبير الذي يواجه هذا التوجه الضعف العام في جهاز الدولة وقدرته على التعامل مع القضايا التنموية من تصميم للمشروعات ومراقبة تنفيذها والتعامل مع المستثمرين بسبب الانغلاق واعتماد الولاء على حساب الكفاءة في اطار سياسة التمكين والخروج من ذهنية الحصار التي عشعشت طويلا وبناء القدرات المهنية في الولايات ومحاربة الفساد. هذا الى جانب عدم وجودالاحصائيات الموثوقة التي لا يمكن تناول قضية التنمية بصورة جادة في غيابها وأيضا ضعف ثقافة الانتاج وأهمية زيادة الانتاجية وكيفية مواجهة التاريخ النقابي التليد في الاستبسال في سبيل الحقوق وعلى حساب الواجبات مما أسهم مع عوامل أخرى في الاطاحة بالتجربة البرلمانية الثالثة. هذا التوجه يضع العلاقات السودانية-الخليجية في مرتبة جديدة ويجعل من استقرار السودان قضية ذات أهمية اضافية بالنسبة لهذه الدول وفي نفس الوقت فأن مشروعات التنمية بأبعادها الاجتماعية والبيئية والاقتصادية تقع في قلب النشاط السياسي، ويمكن أن توفر مجالا خصبا للحركة التي تنداح على أمتداد البلاد لتربط العمل السياسي الحركي بقضايا الناس وهمومهم المعاشة يوميا من علاقات الانتاج الى الجوانب البيئية وغيرها حتى يمكن بلورة معادلة التنمية مع الحرية والممارسة الديمقراطية ولو عن طريق التجربة والخطأ من خلال قيام المجتمعات المحلية بلعب أدوار أكثر نشاطا وفعالية بدلا من انتظار التوجيهات من العواصم والرئاسات الحزبية والرسمية خاصة وكل الافكار التي شكلت الذخيرة الفكرية للنخبة السودانية على امتداد أكثر من نصف قرن منذ استقلال السودان قد باءت بالبوار. (غدا: الحلقة الاخيرة)