زمن التفاهة والتافهين !!

 


 

 

manazzeer@yahoo.com

* بينما البلد على حافة الانهيار، غارقة في السيول والاوحال والنفايات والازمات الاقتصادية والضائقة المعيشية والانحلال الأمني والإجرام وانتشار العصابات، لم تجد الشرطة ما تفعله سوى حملات الحلاقة وتراخيص الغناء تمهيدا لعودة (النظام العام) ومطاردة النساء والفتيات في الاسواق والشوارع وهو العمل الوحيد الذي تجيده بالإضافة الى قتل المتظاهرين السلميين وترويع المواطنين، أما مكافحة الجريمة وضبط المجرمين وإشاعة الأمن فلا تسأل عنهم ولا تلام على عدم القيام بهم، فمن أين لها أن تعطي شيئا لا تملكه ؟!

* سأل أحد الصحفيين الاديب والكاتب الكبير (ﻋﺒﺎﺱ ﺍﻟﻌﻘﺎﺩ) ذات مرة: "من منكما أكثر شهرة، أنت أم محمود ﺷﻜﻮﻛﻮ؟!" ( شكوكو مونولوجست هزلي مشهور، كان يرتدي ثياب المهرجين لإضحاك الناس)، ﺭﺩ (العقاد) ﺑﺎﺳﺘﻐﺮﺍﺏ: "ﻣين ﺷﻜﻮﻛﻮ؟".. وﻠﻤﺎ وصلت القصة ﻟﺸﻜﻮﻛﻮ قال للصحفي: "قول لصاحبك العقاد ﻳﻨﺰﻝ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ، ويقف على أحد الأرصفة وسأقف على ﺭﺻﻴﻒ مقابل، ﻭﻧﺸﻮﻑ ﺍﻟﻨﺎﺱ (هتتجمع) ﻋﻠﻰ ﻣﻴﻦ؟!". هنا رد العقاد: "قولوا ﻟﺸﻜﻮﻛﻮ ﻳﻨﺰﻝ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻭﻳﻘﻒ ﻋﻠﻰ ﺭﺻﻴﻒ ﻭﻳﺨﻠﻲ ﺭﻗّﺎﺻﺔ ﺗﻘﻒ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﺻﻴﻒ ﺍﻟثاﻧﻲ ﻭﻳﺸﻮﻑ ﺍﻟﻨﺎﺱ (حتتلم) على مين أﻛﺘﺮ" !

* عبارة العقاد الأخيرة رغم قسوتها إلا أنها تحمل رسالة بليغة، مفادها أن القيمة لا تُقاس بالشهرة، بل إنك – وفي أحيان كثيرة- تجد أنه كلما تعمق الإنسان في الإسفاف والابتذال، كلما ازداد جماهيرية وشهرة، وربما حفاوة لدى الناس ــ كما تقول الاستاذة رشا عوض !

* "وميل الناس إلى الاحتفاء بالهشاشة والسطحية ليس جديداً، فثمة انتقادات لهذا الميل منذ زمن سقراط.. لكنه للأمانة لم يحقق انتصاراً ساحقاً وواضحاً إلا في عصرنا الحالي، خصوصاً بعد اتحاد وسائل التواصل مع الرأسمالية، التي دفعت بالتافهين إلى أن يمسكوا بخطام المشهد الثقافي والسياسي في واقعنا المعاش"

* ينقل الصحافي (جان عزيز) فصولاً مهمة من كتاب (نظام التفاهة) للكندي (ألان دونو)، والذي يخلص فيه إلى أن التافهين قد حسموا المعركة لصالحهم، ويعطي أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية نصيحة محبطة في بداية كتابه يقول فيها: "لا لزوم لهذه الكتب المعقدة.. لا تكن فخوراً ولا روحانياً فهذا يظهرك متكبراً.. لا تقدم أي فكرة جيدة، فستكون عرضة للنقد.. لا تحمل نظرة ثاقبة، عليك أن تكون قابلاً للتعليب.. لقد تغير الزمن.. فالتافهون أمسكوا بكل شئ"!

* يعزو (دونو) ذلك إلى عدة أسباب، منها تغيُّر المفاهيم في المجتمعات.. يقول: (لقد صار الشأن العام تقنية استهلاكية، لا منظومة قيم ومبادئ ومفاهيم عليا، واختلط مفهوم المصلحة العامة مع المصالح الخاصة للأفراد.. جامعات اليوم التي تموّلها الشركات، صارت مصنعاً للأجراء لا للمثقفين! حتى أن رئيس جامعة كبرى قال مرة: إن على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات! لا مكان للعقل النقدي، وقال رئيس إحدى الشبكات الإعلامية الضخمة إن وظيفته هي أن يبيع للمعلن الجزء المتوفر من عقول مشاهديه المستهلكين!

 

* الأسوأ أن التفاهة غيّرت مفاهيم ومقاييس النجاح في حياتنا، فالنجاح أصبح يعني الشذوذ لا التميز، وصارت قاعدته الأولى هي أن تجيد (اللعبة). لم يعد النجاح شأناً إنسانياً تحكمه الأخلاقيات بل هو مجرد (لعبة).. وقد راجت العبارة في كل لغات العالم حتى أصبحت قانوناً يقول: (اللي تغلب به إلعب به).

* غدا سنشهد مطاردة النساء والفتيات في الشوارع والميادين والاسواق مرة أخرى بحجة ارتداء البنطلون وعدم لبس الطرحة، ، بينما تنشط العصابات وتنتشر الجريمة وينعدم الامن ويقتل الابرياء في المظاهرات السلمية بالرصاص الحى .. انه فعلاً زمن التفاهة والتافهين !

 

آراء