زواج الدود

 


 

 

 

alshiglini@gmail.com

1980
التقيت صديقي " عبد القادر" قبل ثلاثة أيام من حفل زواج " الدود هارون". حدثني أن حفل زواج صديقنا المشترك سيكون مساء الخميس في منطقة" الجميعاب"، شمال أم بدة. وأن العريس سوف يسير مع أهله من منطقة "زقلونة "التي تبدأ غرب حارات مدينة" الثورة" إلى منطقة " الجميعاب". يفصل " زقلونة" عن مدينة"الثورة "شارع "الشنقيطي" قبل سفلتته. كانت منطقة "زقلونة" مباني عشوائية في ذلك الزمان.

منطقة " الحميعاب" لم تكن المنطقة التي نعرفها اليوم. كانت منطقة سكن عشوائي لم تدخلها خدمات مياه الشرب أو الكهرباء، وهي الخدمات التي تقدمها الدولة بثمنها، ولا شيء من الخدمات الأخرى. البيوت عبارة عن غرف متفرقة مصنوعة من الطين اللبن. للغرفة باب ونافذتان، أحداهما تفتح شمالاً والأخرى تفتح جنوباً. وتصبح الغرفة بيتاً. في أحد أركان الغرفة توجد ثلاثة حجارة هي أثاث موقد الطبخ. يوجد عادة سريرين بلديين" عنقريبين" ومرتبة قطنية " لحاف" وملاءة ومسند وغطاء للنوم.


(2)
اتفقت مع " عبدالقادر" على الذهاب سوياً بتاكسي من شارع الأربعين، على أن نصل قبل انطلاق مسيرة العريس، الذي كانت تجهيزاته اللوجستية ،هي عدد ثلاثة " بكاسي" بصناديق خلفية لنقل الضيوف عبر الطريق الترابي غرباً، وهو الأقصر الى منزل أسرة العروس في منطقة " الجميعاب".

استأجرنا تاكسي عند الثامنة مساء، تقديراً لنصل في وقت مناسب، ولكننا وصلنا متأخرين. ولم نجد العريس ولم نجد مسيرته. وتتبعنا أثر المسير بالسؤال. وغزلنا منطقة " الجميعاب" بكل أحيائها الافتراضية ونحن بالسيارة. كنا ننظر في أي مكان فيه تجمّع من البشر، ومُضاء بواسطة موقد الإضاءة "رتينة " لعلنا نجد مرادنا. ومضى الوقت، وأخيراً وصلنا مكان الحفل متأخرين في المساء. نقدنا سائق التاكسي أجرته. كان الحفل يضم مائة شخص، النساء والأطفال، أما الرجال أثناء الحفل يجلسون منفصلين عن بعضهما، ويتوسطهما برش مصنوع من سعف النخيل ملون عريض، مربع ضلعه حوالي ثلاثة أمتار. تقف العروس ترقص بفستان الرقص على أنغام إيقاع" الدلّوكة" وأغنيات " السباتة" الشعبية، والعريس يرتدي قميص أبيض وسروال وطاقية، ويضع " الفركة " الملونة على كتفه. بعض من الطقوس الأمدرمانية المكتسبة.

كانت العروس قد قاربت الانتهاء من فاصل الرقص، حين حضورنا. وأقاموا فاصلاً من رقص العروس خاصاً تكريماً لحضورنا. وكنا نُعتبر أصدقاء العريس المقرّبين. واستبشر العريس بحضورنا. أحسسنا ونحن نمثل صداقته الأمدرمانية أننا نحمل عبئاً ثقيلاً، إذ ننوب عن بعض معارفنا . تحس أنت سلبية تنوع الهوية والطبقات الاجتماعية، ما كانت لتظهر إذ أن " الدود" رجل طيب وكريم . فالتمييز وإن اختفى شكله وأثره، إلا أنني أحسست بأن طرف من الإحساس السالب قد مسّني، وإن لم أكن قلقاً. كثيرون من معارفه الأمدرمانيين قد غابوا عن فرح زواج " الدود" إلا أنا و " عبدالقادر".

إن الصداقة تمس الجسد والروح حتى تتماهى فيهما ،لأن الصديق أنت تختاره، لا تختاره لك الصدفة. لم أزر موطن ميلاد " الدود" ، فقد خرج هو من " عِد الغنم " في دارفور منذ ستينات القرن العشرين. وحين زار الرئيس " جعفر نميري " في بداية حكمه السودان تلك القرية النائية، وأطلق عليها اسم " عِد الفرسان". كانت زياراته لقرى في بلاد السودان الغربي، تصطدم بتراثه الثقافي العربي الإسلامي المتميز، ومن ثم جاءت التسمية. لم يكن يعرف " النميري" تاريخ المسميات ذات العلاقة الثقافية بجذور المنطقة.


(3)
فرح الجميع بحضورنا، وأصرّ أحد أقرباء العريس على أن تعلو الزغاريد في مساء فرِح ببساطته، ولكنه فرح حقيقي بوجود الأحباب وعمّت سعادتهم.
قضينا ما شاء لنا الوقت أن نقضي . استمتعنا بوجبة عشاء العُرس كاملة بتقليديتها، شاملة اللحم المطبوخ بأنواعه والخُضر الطازجة. في الختام جاءت عربة " الكارو" لنقل الكراسي و" رتائن "الإضاءة.
قررنا في الختام العودة. فضحك " الدود" قائلاً:
ـ عربة الكارو وقد حملت الكراسي، والتاكسي الذي أحضركم قد ذهب. وليس لديكم من وسيلة إلا أن تقضوا معنا الليلة والمبيت عندنا. وهي فرصة لي للبقاء قربكم.
قال " عبدالقادر":
ـ إذا اقتنعنا بأن المبيت الليلة عندكم، فكيف أحصل أنا على السجائر؟
قال الدود:
ـ يوجد محل بقالة قريب من هنا، يمكن أن تجد عنده كل أنواع السيجائر، ولكن العقبة الموجودة بعد العاشرة مساء، يجب أن تتدرعوا لآفات الطريق . أن تلبسوا لكل واحد منكما جلابية ، ويحمل أحدكما عصا، والآخر سيف جاهز بجفيره وحزامه يلبس في الكتف.

نظرنا لبعضنا نتفكر قليلاً. يبدو أنه ليس من المبيت بد. عملنا بمشورة "الدود". ولبس كل منا جلباباً. وحملتُ حزام السيف وجفيره ولبسته في الكتف. وحمل " عبدالقادر" العصا وانطلقنا.


(4)
منطقة "الجميعاب" كما أسلفنا في ذلك الزمان كانت منطقة سكن عشوائي. والبيوت مجسمات مكعبات سوداء متشابهة، نراها متفرقة بلا أسوار، تتناثر فوق سهل منبسط. لا توجد طرقات أو معالم تهدي. لو لا القمر لكان الليل أسوداً، و الرؤية محجوبة.

غادرنا ونحن نرقب ضوء بعيد لعله لبقالة التي نقصد. تبادلنا أطراف الحديث، نقصص ما ساقتنا له يد الأقدار. ونتذكر الطرائف التي مرّت بنا. مرّ زمان قبل نلمح بصيص ضوء من بعيد. واقتربنا فكانت مرادنا البقالة. ذات شكل البقالات التي نعرف : طاولة خشبية مستطيلة تقف بين البائع والمشتري. سراج يضوي على الجانب. ولمحنا صاحب البقالة، رجل خمسيني يرتدي قميصاً وسروال من الدبلان، وطاقية بيضاء في رأسه. كان مظهرنا لافت وغريب، لأن عينا صاحب البقالة جحظتا من أثر الخوف والدهشة. وأدركنا كيف صور لنا " الدود" عِظم المخاطر، وهي ليست بذاك القدر.
وقفنا أمام الطاولة وطلبنا علبة سيجائر بنسون، فئة عشرة سيجارات. أحضرها الرجل بسرعة ووضعانا له ثمنها على الطاولة. وفاجأنا الرجل قائلاً:
ـ معيش ... المرة الجاية.
فقلت :
ـ نحن نشتري ولا ننهب، ويجب أن تقبل الثمن.

حينها تقبل الرجل الثمن مرغماً ومذعورا، وخرجنا إلى الطرقات الافتراضية نبحث عن طريق العودة. حالما غادرنا البقالة، أغلق صاحبها الأبواب، وقام بتركيب المزلاج وأحكم الاغلاق، واختفى.


(5)
عاودنا مسيرنا بحثاً عن الرجوع، ونحن نستعرض أحداث اليوم وغرائبها.راقبنا من البعيد أشباح سوداء تُفسح لنا الطريق، كأننا شراً يتعين تجنبه. أخرج " عبدالقادر " سيجارة وبدأ يدخنها، ويكاد الضحك أن يتملكنا، فقد تحولنا من شابين وادعين يرغبوب في مجاملة صديق ،و أصبحنا قطاع طريق لدي كل من يرى أشباحنا في الليل. كان شعوراً مختلطاً: شجاعة صنعتها الظروف ودهشة خلقتها الصدفة، وطرب داخلي حملناه في نفوسنا. وتبادلنا أنخاب زهوٍ ما كنا نحلم به.
وفي عودتنا شغلتنا الموضوعات الطريفة التي مرت بنا، ونسينا طريق العودة. فليس هنالك من طرق أو أشجار أو معالم ، فمن حولنا مُجسمات مكعبة سوداء ، متشابهة إلى أقصى حدود التشابه. يبدو أننا قد ضللنا طريق العودة ، فمسيرنا إن حسبت زمنه لوجدته أطول. وصررنا نتلصص إن كان ثمة ضوء من البيوت المتناثرة أمامنا. إن اقتربنا من بيت ، نظرنا ما حوله، لم تكن فسحة آثار الحفل بادية، فصرفنا النظر. فقدنا معالم الطريق، فلا بوصلة تدلنا الطريق و لا ثوابت تهدينا طريق العودة.


(6)
من اتجاه النوافذ عرفنا اتجاه الشمال أو الجنوب ، لأن اتجاه الريح للتهوية شمال جنوب ، ولكننا لا نعرف أيهما اتجاه الشمال أو اتجاه الجنوب. أخيراً توقفنا أمام غرفة، ينطلق من شقوق حول بابها أثر ضوء. وتبينا الباحة حول الغرفة، ودققنا على الآثار. هتفنا:
ـ " الدود"؟

وفُتح الباب، فعرفنا أننا اهتدينا، من بعد مرور أكثر من ثلاث ساعات على خروجنا. دخلنا الغرفة وخلدنا لنوم هانئ.
عند الصباح صحونا، كان الحمام بعيداً، وسطل ماء ا لاستحمام بارداً، ولكن ميزته أنه هام لاستعادة النشاط. كان في الغرفة العريس " الدود" وقريبه وشخصي وعبدالقادر. ذهب قريب الدود ثم عاد يحمل "ثيرموس" شاي أحمر وأكواب الشاي. وصببنا الشاي وشربنا كوبين لكل شخص. وكنا نظنه كافياً، ولكن جاءت حافظة أخرى" ثيرموس" حاوية الشاي بالحليب. وكان نظامهم أن الشاي الأحمر هو مقدمة، والشاي بالحليب هو الأصل، يشرب صباحاً.
سردنا ما مر علينا بالأمس ونحن نتضاحك. فجأة قال الدود :
ـ ما رأيك يا باشمهندس أن يكون لك بيتاً معنا في " الجميعاب"؟
قلت:
ـ أهو مسكن قانوني؟

لم يجب .
واستطردت أنا:
ـ في ستينات القرن العشرين، عندما تنازل السيد إسماعيل الأزهري عن مقعده في البرلمان عن دائرة أم درمان جنوب، تم إجراء انتخابات عامة للدائرة. وكان أكثر المرشحين تنافساً : السيد "عبدالخالق محجوب " عن الحزب الشيوعي وكان رمزه الشجرة، والسيد "أحمد زين العابدين " عن الحزب الوطني الاتحادي. عندما احتدمت المنافسة، حضر مرشح الحزب الوطني الاتحادي في المساحة أمام مسجد الشيخ " أحمد نور الجليل" في حي أبوكدوك . وحاضرنا المرشح مع وعوده الانتخابية، ولكني أذكر منها أنه في حالة فوزه بالدائرة سيسعى لتخطيط منطقة غرب أبي كدوك لتكون توسعة وامتداداً لقاطني المنطقة وأسرهم الممتدة ، وكان المنطقة التي يعني هي غرب مقابر "الشيخ حمد النيل ". وكان حسب معرفتي في ذلك الحين أنه وعداً كذوب، وليس من الواقع في شيء. فليس للنائب البرلماني سلطة تنفيذية تمكّنه من تحقيق وعوده. تذكرت كل ذلك وأنا أتوجس من السكن غير المشروع، فأنا موظف خدمة مدنية أعرف حدود القانون وألتزم به.


(7)
لم يعر الدود حديثي وبدأ يسرد التفاصيل:
ـ الغرفة إجمالاً تكلف ثمانين جنيهاً سودانياً فقط. وبما أن السلطات تمنع البناء في مناطق السكن العشوائي لحين تخطيطها ،يمكن حفر التراب من المنطقة حول الغرفة، وعمل قوالب الطوب الأخضر ـ وهو من الطين المجففـ بحجم 40 x 25 X 5 سم ـ ويتم تغطية الطوب الأخضر بالخيش ويتم ذلك يوم الخميس صباحاً. وفي المساء يتم حفر الأساس للغرفة بعمق 40 سم ويبدأ البنيان صباح الجمعة حتى مستوى السقف. وتترك فتحات للباب والنافتين بعد عمل أعتاب للفتحات من جزوع شجر الدوم الذي يجلب من "الزريبة". ويغطى السقف بمراين من جذوع الدوم وتعلوه طبقة من الجريد والخيزران. وتطرح فوقها لفائف من البروش، ويغطى السقف بطبقة من الطين. ينفذ المساح الداخلي بطبقة من خليط الرمل والصمغ والماء. ويتم تجهيز " الزبالة " من الرمل وروث البهائم والجير، ويتم تخميره لمدة يومين، ومساء الجمعة يتم طلي طبقة رقيقة من " الزبالة" للحوائط الخارجية والسقف، وهي العازل الموسمي من المطر.
في نهار الجمعة يتم شراء باب مكون من برواز خشبي ومثبت عليه لوح من الزنك ، ونافذتين من الصاج الحديد ويتم تثبيت الجميع في الفتحات. يكتمل البناء قبل زيارة مندوبي الأراضي والسكن العشوائي الذي يبدأ من السبت وينتهي نهار الخميس. وبعد ذلك ننتظر لجان التخطيط التي تزور أصحاب الغرف لتسجيل أسمائهم ليُمنحوا قطع أرض بما يناسب التخطيط لاحقاً. ورسوم القطعة ثلاثين جنيهاً.

هذا كل ما في الأمر، ونحن سنكون وكلائك لتنفيذ الغرفة، وإن جاءت اللجنة فسنقول لها أنك قد خرجت للسوق. بعد اكتمال الوصف التفصيلي، انفجرنا بالضحك أنا و"عبد القادر". فقال " الدود":
ـ إني صادق في كل ما قلته، وأنا لو كان معي مال لتقدمت بالتنفيذ ولم أنتظركما.

طمنّاه بأن صداقتنا لن يخدشها زمن، وأن ثقتنا فيه كبيرة، ولكننا موظفي خدمة مدنية، لا نعرف الاحتيال على الدولة وسرقة الأراضي تحت أي مصوغ. وشكرنا له يومنا معه وتمنينا له حياة زوجية طيبة، وتحت وسادة " العنقريب " تركنا له مشاركتنا في حفل زواجه، وعدنا أدراجنا منتصف نهار الجمعة.


(8)
وحسبما روى لنا " الدود"، أنه جاء في منتصف ستينات القرن العشرين، وهو طفل لم يبلغ الرابعة عشر. ترك القرية وذهب إلى محطة السكك الحديدية. وغادرها عبر القطار إلى محطة السكة حديد الخرطوم، ثم إلى أم درمان، وسكن فريق" الجعليين" ببانت شرق أم درمان. اشتغل سائساً للخيل، فقد كان لسباق الخيل في الخرطوم شأناً في ستينات القرن العشرين، فميدان سباق الخير بالخرطوم، يحظى بمجد خاصة أيام الجُمع، فكان يُقام فيه سباق الخيل. له مُحبين في قوز الخرطوم، والفتيحاب بأم درمان، وبعد الذين تأخذهم عزوة تربية الخيل للسباق. يقومون لها مكاناً وسور صغير في جزء من البيت. يذهب "الدود هارون "مع الفرس عصر كل يوم لمناطق غرب أم درمان. هنالك عشب للفرس وللأغنام ، ينمو عشوائياً، مكان أم بدة الحالية. غرباً كانت تقام أسبوعياً سرادق لمشاهدة " صراع النوبة " في العراء. وهو تقليد يكون عصر كل الجمعة، يتبارى فيه المتصارعون، وللفائز تهنئة ونُقارة تُقام بزفّتها والزغاريد وصياح المشجعين.
*
سكن " الدود هارون " في أحد بيوت متوسطي الحال في فريق "الجعليين" بحي" الموردة"، ويعمل سائساً للفرس الموجود داخل باحة المسكن. يعيش كواحد من أفراد الأسرة. وكانت لنا صلة صحبة بأحد الجيران .لم تزل في لغته عاميّة أهلنا في دار فور، تُميز أنت اللكنة والمفردات وطيبة أهلنا هناك.
حدثنا عن قريته " عد الغنم " وسرد لنا أن ركوب الخيل وحمل السيف والحربة والتباري بهم من أبجديات الفروسية للشباب من الرجال في ذلك الزمان. فهي أدوات الصعود إلى درب الشباب واكتمال القوة والشجاعة. حدثنا كثيراً عن المندكولا والكابدول والسّعن للماء وللسمن والركوة، وسلاسة ظهور الخيل واجتماع الشباب...

عبدالله الشقليني
5 يناير 2019

 

آراء