زين العابدين محمد أحمد عبد القادر يفتح قلبه وسجلاته

 


 

 


مذكرات رجل كان يغير قرارات نميري

abusamira85@hotmail.com
متى يمكن للكاتب أن يجد الجرأة كي يتلمس طريقه نحو تفهم أو دراسة حدث تاريخي ما، أو شخصية تاريخية ما؟ هذا السؤال المحير بالنسبة للكثيرين يملأ الذهن تماما حين تقرأ (مايو سنوات الخصب والجفاف ـ مذكرات الرائد معاش زين العابدين محمد أحمد عبد القادر).
وحين يجرى القلم لكي يكتب، لا يوزع كلماته بالتساوي، لكن زين العابدين المولود في جزيرة توتي العام 1940 للمعلم الكبير والأستاذ المربي الذي علم كل ابناء السودان محمد أحمد عبد القادر، ظل حتى وفاته العام 2005، هو الابن الذي تشبع باعتزاز أهل توتي بقيمهم السمحة، كما ظل يعكس أدب والده من خلال تشربه لصفات جيل نادر قاد البلاد إلى استقلال أبيض مثل صحن الصيني لا شق ولا طق. ولعل ميزة الأستاذ محمد أحمد عبد القادر انتماؤه إلى جيل تلخصت فلسفته في الحياة في تقديم ما ينفع الناس.
والناظر إلى حياة زين العابدين ومذكراته بين سنوات مايو العجاف والسمان ينتابه الاندهاش، اذ كيف استطاع أن يوفق بين رغبات الحياة وضروراتها، وبين استحقاقات الشرعية الثورية وضرورة أن لا تظلم الثورة الناس.
ويبدو هذا واضحا عبر 176 صفحة من القطع المتوسط، تمثل مذكراته، إضافة إلى 216 صفحة تمثل الوثائق الملحقة بالكتاب.
وفي جميع صفحات الكتاب الـ 390 صفحة تكاد ترى زين العابدين الفتى الذي نشأ في ظلال قيم صادقة ونبيلة، مخلصا ووفيا لعمله وفكره، بل يكره أن يظلم أي إنسان، ولمناقب أخرى كان يحب أن يرى الجميع يخرجون منه، ويحس كل فرد منهم، بأنه أحسنهم موقعا لديه.
ألقى زين العابدين نظرة سريعة على رحلته التعليمية، وكيف توجها بالالتحاق الكلية الحربية التي تخرج فيها ضابطا، ثم مضى لجوانب أكثر إثارة، تمثلت في أن غالب صلاته كانت مع أصدقاء من قبيلة اليسار، وربطته صداقة قوية مع قيادات من الحزب الشيوعي، أبرزهم الراحل عبد الخالق محجوب والأستاذ محمد إبراهيم نقد. وكانت هذه الصلة قوية لدرجة أن منزل الأسرة في الملازمين كان مسرحا لحفلات استقبال كثيرة لضيوف الحزب الشيوعي من خارج البلاد.
ورغم أن هذه الصلات مع الشيوعيين لم تتخط الجوانب الاجتماعية، إلا أن زين العابدين يقدم ملاحظة مهمة فحواها أن أعضاء الحزب الشيوعي كانوا يعاملون قادتهم بهالة من القداسة. ويروي مشهدا رسخ في ذاكرته أثناء احتفال زواج الأستاذ محمد إبراهيم نقد، وكان الجميع حينئذ يستمتعون بالغناء والطرب. ويقول زين العابدين (ما أن دخل الأستاذ عبد الخالق محجوب حتى صمت الجميع ووقفوا ـ كالعادة ـ في حالة انتباه، لدرجة أنني امتعضت امتعاضا شديدا لاقتناعي التام بأن ممارسة الفرح ليس نقيضا للاحترام).
إجمالا تظهر قيمة هذه المذكرات في أن زين العابدين يقدم فكرة متكاملة عن ثورة 25 مايو 1969، وذلك من خلال هؤلاء الذين شاركوا في صنعها أو قاوموا مسيرتها، أو وقفوا منها موقفا بين المنزلتين.
تحس في كل فصول الكتاب ووثائقه أن زين العابدين يقف موقف المفكر الحر الذي يتأمل ويختزن في الصدر. فالحديث عن دور غير سوداني في انقلاب مايو 1925 لا تجده في سطور مذكرات زين العابدين إطلاقا حتى يؤكد أو ينفي ما يتردد عن الدور المصري في الانقلاب.
ورغم أن ثورة 23 يوليو تمثل علامة بارزة في تاريخ مصر الحديث والمنطقة العربية، إلا أن معهد الدراسات الاستراتيجية البريطاني يعتقد أن أكبر أخطاء هذه الثورة، أنها وفرت الشرعية للضباط في الجيوش العربية للاستيلاء على السلطة، بحجة الثورة وتكرار تجربة عبد الناصر في مصر. المهم من هذه الإشارة أن قصة ثورة مايو حسب مذكرات زين بدأت عند انضمامه رسميا إلى تنظيم الضباط الأحرار، بقيادة البكباشي معاش محمود حسيب في أواخر 1966م. واتسم التنظيم بضوابط صارمة وسرية مطلقة وكان أعلى الضباط رتبة البكباشي جعفر نميري. وفي تلك المرحلة تمحورت مهمة تنظيم الضباط الأحرار في حماية الدستور والحفاظ على أمن البلاد، ولم تكن مسألة الاستيلاء على السلطة مطروحة في ذلك الوقت.
وسار زين العابدين في الطريق إلى السلطة مع مطلع العام 1968م، حين جمعته دورة قادة السرايا في مدرسة جبيت مع اليوزباشي أبو القاسم محمد إبراهيم، واليوزباشي مامون عوض أبو زيد. وكان قائد المدرسة بالإنابة القائمام جعفر نميري. وخرجت اجتماعات الأربعة في جبيت بتصور متكامل للاستيلاء على السلطة، بهدف إخراج البلاد من النفق الذي زجتها فيه الأحزاب.
انتهت الدورة في منتصف العام 1968، وعاد الأربعة إلى الخرطوم، وفيها عقد اجتماع لتنظيم الضباط في منزل المرحوم عثمان علي إبراهيم زوج شقيقة زين العابدين. وطرح نميري على المجتمعين وجهة النظر التي تبلورت في جبيت، وانتهى الاجتماع إلى الترحيب بالفكرة وبدأ الإعداد لعمل جاد يستهدف سعي الضباط الأحرار للاستيلاء على السلطة.
وتتوالى الاجتماعات في منزل عثمان علي إبراهيم تارة، وتارة أخرى في منزل الرائد فاروق عثمان حمدنا الله. وبين المنزلين شارع واحد في منطقة العمارات.
ويسرد زين العابدين في تفاصيل دقيقة عملية الاستيلاء على السلطة، والملاحظ هنا أنه لم يغمط أي من المشاركين حقهم، فتراه يتحدث عن دور إيجابي للرائد فاروق عثمان حمدنا الله، في الاتصال بالعناصر المدنية. كما يتحدث عن الأستاذ بابكر عوض الله وقدرته، وكم هو (أمين ومخلص ونزيه وواسع الأفق).
وفي ثنايا الرواية الدقيقة لعملية الانقلاب، لا تلمح أي دور للحزب الشيوعي في العملية، بل زين العابدين يكشف بوضوح أن جميع الشيوعيين الذين اختارتهم ثورة مايو وزراء، تم استقطابهم بواسطة فاروق عثمان أو بابكر عوض الله. وتم اختيارهم لقدراتهم وكفاءتهم الذاتية. ويقر زين العابدين أن اختيار الوزراء الشيوعيين فرض دون استشارة الحزب قد أحدث أكبر شرخ في تاريخ الحزب بعد انقسام عوض عبد الرازق. كما عزز موقف جناح معاوية سورج وأحمد سليمان في مواجهة موقف جناح عبد الخالق محجوب.
وأهمية هذا الاستطراد أن زين العابدين يقدم شهادات دقيقة حية عن أحداث عاشها وشارك فيها وكان أحد صناعها.
ورغم أن زين العابدين لم يخض في تفاصيل الظروف التي تجعل رجلا في مقام مولانا بابكر عوض الله (يتأمر) مع مجموعة من الضباط للاستيلاء على السلطة، إلا أنه بوضوح شديد يكشف عن عدم وجود أي دليل على دور مصري مباشر أو غير مباشر في تخطيط وتنفيذ انقلاب مايو، وكذلك نفى أي مشاركة للحزب الشيوعي في هذا الانقلاب. وإذا أعتقد القارئ حسب شهادات زين العابدين أن مايو بصرف النظر عن كونها انقلاب أو ثورة، هي ماركة مسجلة صنعها جعفر نميري، فهذا الاعتقاد صحيح تماما.
رغم مرور 42 عاما على قيام ثورة مايو، ورغم كل المتغيرات التى شهدتها على الساحتين الإقليمية والدولية، فإن ثورة مايو ـ حسب مذكرات زين العابدين ـ لم تعزل نفسها في سنواتها السمان، عن متغيرات هذا العصر، بل تواصلت واستثمرت إمكاناته ومتغيراته من تكنولوجيا واتصالات ومعلومات تفيد وتستفيد، لأن حركة التاريخ مستمرة ولكل مرحلة ظروفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتحدياتها المتجددة.
ولهذا ازدهرت ثورة مايو في سنواتها السمان حسب مذكرات زين العابدين، لأنها أدركت ضرورة التعامل بالمرونة والتخطيط العلمي والتقدير السليم لمتطلبات العمل الوطني في كل مرحلة. تلك مفاهيم يدلف منها زين العابدين، ليحدثنا بإيجابية عن سنوات مايو الأولى، حيث برز وتعرف عليه الناس جيدا من واقع رئاسته للمحكمة العسكرية التي عقدت لمحاكمة وزير الصحة السابق الأستاذ أحمد زين العابدين. وبث التلفزيون وقتها في برنامج السهرة اليومية مداولات تلك المحاكمة.
غير أن أول منصب تولاه زين العابدين كان رئاسة جهاز الرقابة. وكان يطلق على شاغل تلك الرئاسة (الرقيب العام)، بينما كان يعاونه في تلك المهام الخبير الاداري محمد عبدالحليم محجوب. وتحدث الجزء السادس عشر من المذكرات بعنوان (الرقابة العامة .. ما لها وما عليها)، باستفاضة عن الكم الهائل من الشكاوى التي كانت ترد للجهاز من المواطنين، وكيف أن الجهاز الذي استوعب كفاءات مقتدرة كانت تتعامل بشفافية ونزاهة عالية. وفي هذا الفصل الصغير الذي استوعب خمس صفحات، يقدم زين العابدين شهادة دقيقة لإجراءات المصادرة والتأميم، وكذلك إجراءات إعادة الممتلكات المصادرة وكيف تم تعويض أصحابها بصورة مجزية جدا، تجعل القارئ لهذا الفصل، يتوقف طويلا أمام الدقة والمباشرة التي سرد بها زين العابدين هذا الإجراء الحساس.
يمثل حل مجلس قيادة ثورة نقطة جوهرية في مذكرات زين العابدين، ولعله يعتبرها نقطة البداية لرحلة خلافاته مع مايو. وبقدر ما يحمل الرئيس نميري مباشرة مسؤولية التراجع عن أهداف ثورة مايو والاتجاه نحو دكتاتورية الحكم، متهما آخرين ذكر بعضهم بأسمائهم مباشرة ولمح ضمنا إلى آخرين. اتهم زين العابدين هؤلاء مباشرة بما سماه (تأليه نميري). وتحتوي المذكرات على نماذج كثيرة على توجه نميري في الانفراد بالقرار.
وفي نماذج انفراد نميري بالقرار تبرز شخصية (الثوري النبيل) لزين العابدين، مقابل شخصية (رجل الدولة) لنميري، الذي سار حسب زين العابدين في طريق وعر من التسلط انتهى به إلى تحكم (رجلان وامرأة)، في مصير البلاد والعباد، وسقوط ثورة مايو نفسها (سهوا) في أبريل 1985 حسب تقدير زين العابدين.  
أما الجديد الذي تضيفه المذكرات، فهو زين العابدين يروي دون زيادة أو نقصان أو إضفاء رتوش مشاهد وقائع وأحداث شارك فيها وأثر فيها وتأثر بها. وفي جميع هذه المشاهد تبدو واضحة صورة زين العابدين الثوري النبيل
(ود البلد) الذي تكبحه نشأته وتربيته من ظلم الآخرين أو الإساءة إلىهم، وفوق كل ذلك صلة قوية بنميري تجعله يستجيب لاقتراحات وطلبات زين العابدين، لدرجة أنه أصبح الرجل الذي يغير نميري.
والنماذج كثيرة أبرزها أن زين العابدين طلب من نميري ذات صباح وهما في طريقهما إلى منزل نميري في كافوري، زيارة سجن كوبر والإفراج عن الشريف زين العابدين الهندي، لأنه كان معتقلا بصفته شقيق الشريف حسين الهندي الذي كان يعارض مايو بشراسة.
وهناك نموذج آخر، عندما اسند نميري الى زين العابدين منصبي مساعد رئيس الوزراء للقطاع الزراعي ووزير الثروة الحيوانية، تراه يتحدث بكل عفوية عن عدم وجود خطط في اذهان الخبراء الذين استعانت بهم مايو في ذاك المجال الذي أسند إليه، ويقول (باستثناء عبد الكريم ميرغني، لم يكن هناك شخص لديه تصور واضح عن كيفية تطوير هذا القطاع الهام).
وبعد حل مجلس قيادة الثورة في أعقاب الانقلاب الشيوعي 1971 عين نميري زين العابدين وزيرا للشباب والرياضة، وهنا يقدم البروفسيور علي محمد شمو شهادته عن زين العابدين (لو كان من أولئك الذين يثرون من المال العام لما انزوى عن الأضواء ومات فقيرا يرتق فتق ثوب أهل الفن ويجبر كسر الرياضيين. ولا يعرف خصومات السياسة. وكان المتصدي الأول عندما يحتاج الأمر لشجاعة).
وتعتبر فترة زين العابدين في وزارة الشباب والرياضة من أخصب فترات حياته، حيث لم تكن هموم زين العابدين الجانب الفكري المتعلق بتجنيد الشباب لخدمة الثورة، وانما كان يفكر في الشباب كقوة عاملة تستطيع أن تنهض بالوطن، وتبني السودان. فاتجه زين العابدين لخلق علاقات دولية متينة مع منظمة العمل الدولية، ومع منظمات الأمم المتحدة، والعالمين العربي والافريقي، فجعل من الشباب مؤسسة ضخمة جدا انتشرت في كل انحاء السودان، وبنى خلالها مراكز الشباب وزودها بالمعدات والأدوات، وأشاع في الشباب تعلم الحرفة والمهن.
وركز على الشباب الذين يدرسون في الريف والأماكن البعيدة، ليفتح امامهم فرص التعلم للزراعة والصناعة والكهرباء والبناء وكل الحرف التي يحتاجها السودان في ذلك الوقت. كما كان يفكر في تعويض العمالة التي بدأت تتسرب خارج البلاد الى الخليج. ولعل أهم أعماله التي تقف شاهدة مبنى قصر الشباب والاطفال بام درمان الذي ناضل في قيامه حتى تحقق له ما أراد.
وعندما تصير الذات ثمرة عصرها وحكاية في حد ذاتها، تجد نفسها واصفة وموصوفة في آن واحد، ساعتها تكون قد مدت جسرا بين تمثلها الذاتي ونزوعها الموضوعي، هكذا تأتي مذكرات زين العابدين محمد أحمد عبد القادر، بؤرة آثار عميقة، وساحة كشف واكتشاف لمجاهل من ثورة مايو التي في شعابها انطوت هويتها وخفاياها.
 

 

آراء