سؤال البديل وأزمة الوعي !!
خالد عويس
روائي وصحافي سوداني
khalidowais@hotmail.com
أكبر موبقات الإنقاذ في تقديري هي تدمير التعليم في السودان وتعميق النزعات القبلية والمناطقية وإلحاق أذىً بالغ بصورة التديّن وفصل الجنوب إضافة إلى الفساد الذي أضحى ثقافة عامة لا مجرد ممارسات محصورة في إطار السلطة وملحقاتها هذا إلى جانب النزعة العنفية البالغة التي تفشّت من السلطة إلى الممارسة اليومية للإنسان السوداني كونه إنساناً ينطبق عليه توصيف "سيكولوجية الإنسان المقهور". ولعل كلَّ واحدٍ من هذه الموبقات الكبرى يحتاج كتاباً كاملاً في شرحه وتوصيفه وتوصيف مآلاته وانعكاساته الوخيمة على المستقبل. وكلُ ذلك قاد أيضاً إلى أثرٍ لا تخطئه العين على "الوعي الجمعي" في السودان.
الإنقاذ استهدفت منذ يومها الأول الوعي السوداني، وجهدت في إعادة صياغة الإنسان السوداني على النحو الذي يمكّنها - عبر تدميره - من إحكام قبضتها الحديدية على مناحي الحياة كافة دون أن يتنبه الوعي للمستقبل المظلم الذي تقوده إليه سلطة تفتقر هي ذاتها إلى الوعي العميق بطبيعة مشكلات السودان كما تفتقر إلى تصورات كُلية للحلول الممكنة.
الآن، وفي ظلِّ الثورات التي تعم الشرق الأوسط، يبدو الإنسان السوداني الذي عمقت الإنقاذ أزماته وصيّرته ممزقاً وبلا هدفٍ واضح، يبدو تائها يطرح أسئلة في منتهى البساطة من شاكلة "إذا ما تمكنا من اقتلاع الإنقاذ فـ(من) البديل" !! السؤال بحد ذاته يعكس خللاً عميقاً وخطيراً في الوعي. الوعي الذي اشتغلت عليه الإنقاذ بأدواتها كافة وآلياتها لتدمره ما يحتاج معه السودان إلى نحو عقدين لإعادته إلى مساره الصحيح. فالسوداني - اليوم - لا يبدو منفصلاً عن واقعه هو فحسب، وإنما عن العالم من حوله أيضاً.
فبضعة طرقٍ بريّة وسدود شادتها الإنقاذ بقروض سيدفعها ويدفع أرباحها الشعب السوداني تصبح برأيه إنجازات رائعة تجل عن الوصف، مع أن الوظيفة الرئيسة للحكومة - أية حكومة - هي تعبيد الطرق وتوفير التعليم والعلاج المجانيين وتوفير السلع والأمن. والفساد الذي لم يسبق له مثيل يضحي مؤشراً على أن "هؤلاء الجماعة شبعوا ولو قمنا باقتلاعهم فإن من يأتي بعدهم سيبدأ من الصفر" !! وكأن السودان لم يمر به السيد إسماعيل الأزهري الذي استشهد مديوناً، وكأن الإنقاذ ذاتها لم تستطع محاكمة مسؤولي الديمقراطية الأخيرة بحجج الفساد. وكأن الديمقراطية ذاتها تتيح لأي مسؤول أن يفعل ما يشاء دون حسيب أو رقيب !!
أما المؤشر الأخطر على ما صنعته الإنقاذ فهو سؤال البديل: (من) سيحكم السودان إذا ذهب هؤلاء !!
السؤال بحد ذاته كارثي، فالخلاف - الآن - ليس في (من) يحكم، وإنما (كيف) يحكم. المسألة لا تتعلق بالأشخاص، وإنما كيفية تصرف هؤلاء الأشخاص في شؤوننا. سؤال البديل ليس مطروحاً على الإطلاق إلا إذا كان الشعب السوداني لا يثق في ذاته. كم من المثقفين والمثقفات، وكم من رجالات ونساء السودان نالوا تأهيلاً وخبرات ستمكنهم من إدارة شؤون الدولة؟ بعض هؤلاء يديرون مؤسسات دولية تابعة للأمم المتحدة اليوم، فهل سيعجزون عن إدارة دولتهم؟
وما المراد أصلاً من التغيير إذا كان البديل أياً كان هذا البديل سيحكم بطريقة الإنقاذ ذاتها؟ البديل سيأتي بطريقة ديمقراطية شفافة، وسيُحاط بآليات ومؤسسات منفصلة تحاسبه باستمرار وتقلّص من سلطاته طالما أن الجهاز التنفيذي يعمل بمعزل عن الجهاز التشريعي وهذا سيعمل مستقلاً عن القضاء والسلطة الرابعة (الصحافة) ستتمكن من أداء مهامها بطريقة مستقلة. الشعب سيستطيع معاقبة هذا البديل إن فشل. العقاب سيكون عبر صناديق الاقتراع، وعبر التظاهرات التي ستحميها الشرطة، لأن الشرطة ذاتها ستكون فعلاً في خدمة الشعب لا خدمة السلطة. الحكومة ذاتها ستكون (خادمةً) عند الشعب لأن هذا هو الأصل، فالشعب، لا غيره، هو الذي يدفع من جيبه للرئيس ورئيس الوزراء والوزراء ولضابط الشرطة وضابط الجيش.
الشعب هو الذي سيقرر مجانية الصحة والتعليم، وسيدفع الضرائب عن طيب خاطر طالما أنه يعلم أين يذهب كل قرش مدفوع !!
البديل لا سواه الذي سنختاره عبر اختيار حر هو الذي سيتمكن من إنهاء دولة الحزب الواحد لتقوم دولة الشعب. الشعب فيها هو السيد ولا سيد فوقه. لن يمتن هذا البديل على شعبه بإنشاء سد أو طريق، لأن هذا هو واجبه الرئيس كحاكم. سيحصل على إقليم أو ولاية على السلطة والثروة بطريقة شفافة وعادلة تماماً عبر اختيار حر من قبل ناخبي الإقليم أو الولاية المعنية فهم أحرار في ثرواتهم وفي سلطتهم الإقليمية.
سيعرف كل سوداني حقوقه جيداً لأنه في حقيقة الأمر هو من يحاسب الحاكم حساباً عسيراً إن أخطأ، ولن يستطيع أيّ جهاز أن يرهبه نتيجة رأي !!
البديل هو الكرامة والحرية. وهو محاسبة المفسدين فرداً فرداً بطريقة عادلة وشفافة. هو قدرتنا جميعاً على تعليم أبنائنا وعلاجهم مجاناً لأن من حقنا جميعاً أن نقول (لا) لذهاب أكثر من 70% من ما ندفعه من جيوبنا ومن ميزانيتنا للأجهزة الأمنية والعسكرية التي تحمي النظام. مم يخاف (البديل) حتى يصرف أموالنا كلها على أجهزة أمنه؟
لا نريد بديلاً يمتطي (اللاندكروزر)، تكفيه (كورولا) أو (هيونداي) تقليلاً للصرف في بلدٍ يموت الناس فيه من عجزهم عن دفع ثمن العلاج !!
لا نريد بديلاً يكذب علينا باسم الدين ويغشنا، بل نريده (ورعاً) فعلاً يبكي من خشية الله إذا علم أن إنساناً واحدا بات جائعاً في أي جهةٍ من جهات السودان !!
لا نريد بديلاً قاسي القلب، نريده ليناً هيناً وحازماً في آن. لينٌ هينٌ مع شعبه، وحازمٌ مع الفاسدين والمفسدين. نريد أن نراه بيننا في المرافق الحكومية باحثاً عن مكامن الخلل وساعياً للإصلاح. نريد أن نراه في المستشفيات والأسواق والمدارس متفقداً أحوالنا. نريد أن نراه حزيناً لحزننا سعيداً لأفراحنا !!
البديل هو (نحن) كلنا، لا جماعة سطت على السلطة وتمرغت في نعيمها طيلة 21 سنة، وحمت نفسها بأجهزة الأمن والشرطة التي تعامل آبائنا بقسوةٍ مفرطة كما جرى مع العم محمد غزالي الذي شُجّ رأسه، والعم حامد إنترنت الذي أُهين وضُرب في قلب ميدان أبوجنزير على يد من هم في أعمار أحفاده !!
البديل هو أن نحلم بغدٍ أفضل، نتساوى فيه جميعاً، ونعيش بكرامة وحرية، نقرر لوطننا بصورة جماعية، ونغيّر حكومتنا كلّ 4 سنوات. البديل هو (الوطن) لا (الوطني)، وهو (السودان) لا الجهات والأقاليم التي تشتكي الظلم والجور، ولا القبائل والقبلية التي ستدمر ما تبقى من الوطن. البديل هو أن نتنشق هواءً عليلاً ملؤه الحرية والكرامة. البديل هو أن نحيا مرفوعي الرؤوس طالما أن الحكومة (خادمةٌ) عندنا، لا (سيدة) علينا بالعصا الغليظة !!
البديل هو سلطةٌ منتخبة يغلب عليها شباب مؤهلون تحوّل مجنزرات الشرطة إلى جرارات زراعية مدعومة، و(بيوت الأشباح) إلى مدارس مؤهلة، والصرف البذخي على (جهاز الأمن) إلى صرف على المدارس والمستشفيات، و(البمبان) إلى دفاتر مدرسية ولقاحات لقطعان الأبقار والضأن في سهول كردفان والنيل الأزرق.
البديل هو أن نحصل جميعاً على ما نستحق من ثرواتنا دون واسطة ودون أن تلاحقنا الجبايات التي تتحول بقدرة قادر إلى عمارات وفيلات فخمة في الخرطوم !!
البديل هو نهضة زراعية حقيقة واهتمام أكبر بالرعي. البديل هو نهضة تعليمية عظيمة تعيد للسودان وجهه الحضاري الذي دمرته الإنقاذ بسياساتها التي جعلت منّا أمة من رماد غير قادرة حتى على معرفة الخراب الذي حلّ بها !!