ستون يوماً مضت حرباً سلاح : أما آن لهذه الحرب الكارثية أن تتوقف؟!

 


 

 

مدار أوّل :
"وما الحرب إلّا ما علمتم وذقتم .. وما هو عنها بالحديث المرجم.. متي تبعثوها تبعثوها ذميمة .. وتضر إذا ضريتموها فتضرم .. فتعرككم عرك الرحي بثقالها .. وتلقح كشافاً ثمّ تنتج فتتئم" ((زهير بن أبي سلمي))
-1-
اليوم، الخميس - 15 يونيو 2023 - تُكمل هذه الحرب الكارثية المدمرة، التي اندلعت بين الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع، يومها الستين، وهي حرب كارثية ومجنونة وعدمية، بكل المقاييس، والشاهد، أنّ لا ناقة لشعب السودان فيها، ولا جمل، فهي ليست معركة "كرامة"، كما يدعي كبار قادة وجنرالات الجيش، كما أنها ليست حرب "داعمة للتحوّل الديمقراطي"، كما يدّعي قائد الدعم السريع، وأيّ حربٍ فى تاريخ الحروب السودانية القريبة والبعيدة، دعمت التحول الديمقراطي والحرية والعدالة والسلام المستدام؟؟؟!!!.
-2-
ظلّ قادة الطرفين – كبار جنرالات الجيش، وأُمراء الدعم السريع - منذ انفجار حربهم العدمية، ينشرون الرعب والعنف فى قلب عاصمة البلاد، كما فى أطرافها، على السواء، ويحدثوننا يومياً عن اقتراب ساعة النصر، فيما تمضي – بل، مضت بالفعل – الساعات والأيام والأسابيع، ثم انقضي الشهر الأوّل، وانتهي الشهر الثاني، وهاهي حربهم الكؤود تدخل شهرها الثالث، ليتبين ويتأكّد للجميع خطل تفكير، وسوء تدبير هولاء "الهولاكيين المغوليين" الجدد، الذين أدخلوا البلاد والعباد، فى حربٍ مفتوحة وخاسرة، حرب "قذرة" لم يلتزم مخططوها ومنفذوها وكل المتورطين فيها، بمراعاة وإحترام أدني "أخلاقيات الحروب"، التي وردت فى قواعد القانون الدولي الإنساني، التي تُعرّف بـ(إتفاقية جنيف).
-3-
إتفاقية جنيف التي نشير إليها ونعنيها، تُحدد بوضوح، ما يمكن وما لا يمكن فعله أثناء النزاع المسلح، وما يجب الالتزام به، من احترام للكرامة الإنسانية، وحمايةٍ للمدنيين، وحماية للسكان من ""بعض" عواقب الحرب، ومنها – بإختصار وبدون اسهاب - حماية وإجلاء الجرحي والمرضي من المقاتلين، وغير المقاتلين، وحماية العجزة والمسنين والمرضي والأطفال ، وحماية الحوامل وأمهات الأطفال، وحماية المستشفيات، والكوادر الطبية والكوادر المساعدة فى المستشفيات، وغيرها من "القواعد" المعروفة، منذ ميلاد الإتفاقية فى 12 أغسطس 1948.
-4-
الشاهد، أنّ الطرفين ضربا بأخلاقيات الحرب، عرض الحائط، وآثرا تبادل الاتهامات، والمُلاسنات، حول من بدأ الحرب، ومن خرق الهدنة، ومن مارس انتهاكات حقوق الإنسان، وحشدا آلات وأبواق الدعاية "البروبوقاندا" الغبية، لتسويق الشائعات والأكاذيب البلغاء، فامتلأت الأسافير، بالمعلومات والاخبار المضطربة والمضللة والكاذبة، ليسود (الإضطراب الإعلامي والتضليل الإعلامي)، وارتفعت وتيرة خطاب الكراهية، و خطاب التحريض على الحرب، مع استمرار الادعاءات الجوفاء والكاذبة عن تحقيق انتصارات زائفة، تدحضها الحقيقة، ورؤيتها على الأرض، والناس فى السودان، وفى كل أرجاء وأطراف الدنيا، على الدمار الذي أحدثته حرب الجنرالات، لشهود !.
-5-
قلنا، لم يلتزم الطرفان بمراعاة محظورات ومحرمات أخلاقيات الحرب، وفق إتفاقية جنيف، ونقول : يُشكّل عدم الالتزام بهذه المحرمات، جريمة حرب، يجب أن يُحاكم مرتكبوها، ويجب أن يعلم الطرفان، أنّ التوثيق موجود، ويبقي التحقيق، ومحاكمة الأفراد المتورطين فى هذه الإنتهاكات الجسيمة، بتهمة إرتكاب جرائم حرب، مسئولية الدولة، والمحاكم الدوليّة، ومسئؤلية العالم المتحضّر ومؤسسات الأمم المتحدة، لأنّ هذه الجرائم الفظيعة، لا تسقط بالتقادم، كما يجب أن لا تؤدّي أيّ تدابير لوقف الحرب، إلى تسويات تقود للإفلات من المحاسبة والعقاب.
-6-
اتسعت دائرة الحرب، وما كان لها أن تضيق، فى بيئة ومناخ الحرب اللا أخلاقية، وانتقلت جرثومتها المعدية، كما كان متوقعاً، إلى دارفور الكبري، والتي لم تخرج وتشفي بعد من النزاع المُسلّح الذي فشل "اتفاق السلام السوداني" (31 أغسطس 2020)، فشلاً ذريعاً فى لملمة جراحات الناس فى دارفور، كما فشل فى الإيفاء بأهم شروط التعامل مع الجيوش والحركات المسلحة والمليشيات لضمان استدامة السلام، بحلّها ودمجها فى الجيش الوطني، وفق التقاليد والأعراف والتجارب العالمية المعروفة والمجربة، فيما يسمي بـالـ( دي دي آر) أي "نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج".
-7-
فى هذا الواقع المأزوم، أصبحت البلاد تحت رحمة عدة جيوش غير نظامية، ومليشيات، ظلّ يحتفظ بها أمراء الحرب، لخدمة أهدافهم الشريرة وشهواتهم المريضة فى السيطرة على الثروة والسلطة، متي ما شاؤوأ، لتكون هذه الجيوش والمليشيات أكبر مهدد للسلام المنقوص، وللإتفاقية التي تمّ التوقيع عليها فى عاصمة جنوب السودان، بين الحكومة الإنتقالية، وفصائل من الجبهة الثورية فى (31 أغسطس 2020)، ومن قبل ومن بعد، أكبر مهدد للإنتقال الديمقراطي، الذي دفع في سبيله شعبنا الغالي والنفيس، طيلة سنوات الإنقاذ وما أدراكما الإنقاذ!.
-8-
ها نحن نشاهد يومياً، حصار زالنجي، ودمار نيالا، و"جيونوسايد" الجنينة، حيث القتل على الهوية، ونقرأ عن إعلان كُتُم منطقة كوارث، وندرك تماماً مخاطر ازدياد أعداد الفارين من المحارق، وتحديات النقص فى الغذاء والدواء، كنتيجة حتمية للمعارك الضارية بين الجيش والدعم السريع. وهناك الضعين عاصمة شرق دارفور، وما يحدث فيها، يشكّل مؤشراً قوياً إلى أنّ ما لم تستهدفهم وتقتلهم نيران المعارك المباشرة بين الطرفين، ستقضي عليهم – دون أدني شك – المجاعة، وانعدام الخدمات الأساسية.
-9-
وهناك أقاليم ومُدن ومناطق أُخري فى السودان مرشحة لتصبح مناطق نزاع جديد، أو مناطق امتدادات طبيعية لهذه الحرب اللعين، ومنها الابيض وشمال كردفان، وجنوب كردفان، فهذه المناطق، وغيرها، مرشحة، لتصبح بؤر جديدة للنزاع المسلح، ولن تسلم باقي ولايات ومُدن السودان من ويلات الحرب وآثارها المدمرة، ومآلاتها الكارثية، فمع كل تمدد لمساحة الحرب ودائرتها، ومع كل تأخير فى وقف الحرب، تدخل مناطق أُخري دائرة الصراع المسلح، وتصبح البلاد بأكملها فى دوامة جديدة من الحروب الكارثية.
-10-
يحدث كل هذا، ونحن نرصد ونراقب ونوثق حالات ترهيب الصحفيين والصحفيات وتهديد حياتهم/ن للخطر، ومنعهم/ن من أداء ومزاولة مهامهم/ن، لفرض (الإظلام الإعلامي)، لتكتمل عزلة البلد – إعلامياً - عن العالم.. والحديث عن حماية الصحافة ومؤسساتها، بإعتبارها أعيان مدنية، وعن الصحفيين والصحفيات وسلامتهم/ن، وحمايتهم/ن يقودنا للتذكير بالبروتوكولات العالمية المعنية بسلامة وحماية الصحفيين، وبخاصة فى مناطق النزاع، فنذكر – بل نعيد التذكير – بــ(خطة عمل الأمم المتحدة بشأن سلامة الصحفيين ومسألة الإفلات من العقاب)، وهذا حديث يطول، يجعلنا نعود إليه مرّات ومرّات فى مقبل الأيام، وها نحن نؤكّد لجنرالات الحرب، أنّ الإفلات من العقاب فى الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين والصحفيات، لم يعد ممكناً فى عالم اليوم، فليكفوا أيديهم عن الصحافة والصحفيين والصحفيات، اليوم، قبل الغد!.
-11-
رغم البشاعة التي تشكلها الحرب، وأخبار الظواهر السلبية الكثيرة التي تسود فى مناخات الحرب والنزاع المسلح فى مناطق كثيرة من البلاد، ومنها الجشع والإتجار والاستثمار غير المشروع، فى حوجة الناس للماكل والمشرب والعلاج والمسكن والترحيل والانتقال من مكان لمكان آخر، هناك صور أُخري مشرقة، يتوجب توثيقها وعكسها فى التعاضد المجتمعي، وفى التمسّك بقيم الخير، المتمثلة فى نكران الذات، وإغاثة الملهوف، ومساعدة الآخر، والعمل الطوعي والجماعي، لتقليل آثار الحرب.
-12-
مدن سودانية كثيرة ضربت نماذجاً ساطعة فى التعاضد المجتمعي، واستقبال الناجين والناجيات من بؤر الحرب، وهناك قصص وروايات رائعة تُحكي عن التآخي فى الإنسانية، نذكر منها على سبيل المثال – لا الحصر – مدني، سنار ، سنجة، الدويم، القطينة، كوستي، الحصاحيصا، الرهد، عطبرة، بورتسودان، القضارف، دنقلا، الفاشر، نيالا، وغيرها، من قُري و"حلّال" مرّت بها، أو وصلت إليها قوافل الفارين والفارّات من المحرقة، والناجين والناجيات من الحرب، فوجدوا من أهلها الترحيب والعون والتضامن الإنساني فى أبهي صوره، وهناك تجربة جنوب السودان، وتجارب السودانيين/ات فى بلدان شرق ووسط أفريقيا، ونموذجها الأسطع، كينيا، وكل هذا وذاك يبقي رصيداً حيّاً لإمكانية التعافي من جراحات وويلات الحرب المدمرة التي كادت أن تضرب القيم الإنسانية الخيرة فى مقتل، ولكن، هيهات !. ويبقي أنّ هذا المقال، هو فاتحة مقالات قادمة، عن الحرب وويلاتها، وعن مواصلة التوثيق حتّي تتوقف الحرب، ويعود للوطن السلام.. وسنظل نجهر بموقفنا من الحرب، ولن يخيفنا الترهيب، ونحن نعلم وندري أنّ طريقنا صعب وشوك عسير، والموت على جانبيه، لكننا سنسير.. فلنواصل الكتابة ضد الحرب، ولنواصل المناصرة لوقفها مهما كانت التضحيات والتحديات!.
-13 -
كل هذا وذاك، يجعل التسريع بوقف الحرب، ضرورة حتمية ومصيرية، اليوم قبل الغد. فلنرفع الصوت عالياً ضد الحرب.. ولنقل بكل وضوح "لا للحرب".
جرس أخير:
"حرب ..لا ..لا .. كُبري إسبتالة.. صالة للثقافة .. تسرح الغزالة .. جنبها الزرافة .. ركّ قُمري ، طار .. قيرة .. قيرة .. قيرة.. نطّط الصغار .. صفّق الترولّي.. طمّن القطار .. حلّقت، وحلّقت ..حمامة المطار .. كل طلقة بينّا – نحن – تبقي وفرة .. سمسماً ، وبفرة .. سُكّراً وشاي .. جاي .. وجاي .. وجاي .. مافي حاجة ساي .. كلّو عندو دين .. كلّو عندو رأي .. بور ..وبورتسودان .. بارا .. والجنينة .. عبري .. ولّا، واو .. حاجة مُش كويسة .. كل زول براو" ((محجوب شريف))

فيصل الباقر
faisal.elbagir@gmail.com

 

آراء