سر الخلطة !

 


 

 

teetman3@hotmail.com

    أصبحت  الأنقاذ  تتعامل مع أي تظاهرات تخرج لمطالب سياسية أو أقتصادية تمس عصب حياة المواطن المسحوق بفعل سياساتهم الفاشلة  بعقلية أمنية قمعية بحتة تنظر للمشهد الوطني المتأزم من قعر الكوب .

    وللأسف الشديد لم يعد سيلان الدم السوداني يحرك في أحاسيس أو مشاعر معظم قادتهم شيئا ،  فالمواطن السلمي الذي لا يحمل سلاح ويخرج في تظاهرة عامة يقاس لديهم سيان  كمثل ذاك المتمرد على سلطتهم في الجبهة الثورية الذي  يحاربهم  في بؤر التوتر والنزاع المسلح في دارفور والنيل الأزرق و جنوب كردفان  .... كلاهما أمنيا  مهدد خطير لسلطتهم , وكلاهما يستحق أن تطلق في وجهه الذخيرة الحية !

    هذا الأمر ليس تجنيا عليهم  ولكنه أسنادا  لوقائع شبه يومية  مريرة مستمرة يعرفها القاصي و الداني وما مجزرة ضحايا أطفال و نساء هيبان و قبيلتي المعاليا و الرزيقات   ببعيدة عن الأذهان .

    وفي  حادثة  أقتحام مكتب الناشط الحقوقي نبيل أديب المحامي وتخريب محتويات مكتبه و ضرب و أعتقال موكليه من الطلاب من داخل المكتب يمكن أن تتأمل أي حالة مزرية و  مشهد مخزي ذبحت فيه هيبة القانون في هذا الوطن  وحرمة العاملين والمستنجدين به !

    ثم لك أن تصطحب معك حادثة  مقتل الطالبان أبوبكر الصديق و محمد الصادق و قبلهما شهداء أحتجاجات  سبتمبر 2013 م  ،  وهم جميعا وغيرهم الكثير كانوا  أمتدادا مريرا لقائمة طويلة من ضحايا القوات الأمنية للنظام .

     أمام هذه المأساة الوطنية يبدو لي  أنه ينبغي علينا أن  نطالب الأنقاذ  بالتحول الأخلاقي أولا   ( الذي ينادي به ديننا الحنيف ) في أدارة  حكمها للبلاد وتتقي يوما تعرض فيه كتبهم التي لن تغادر صغيرة أو كبيرة أمام رب العباد ( ناهيك عن حرمة النفس التي حرم الله قتلها ألا بالحق )  قبل مطالبتها بالتحول الديمقراطي .

    فقضية  التحول الديمقراطي  من نظام دولة الحزب الواحد  التي ظل يمارسها  المؤتمر الوطني على الحياة السياسية في السودان  طيلة الست وعشرين عاما الماضية  الى نظام التعددية الديمقراطية  لم تعد   الآن أولوية مرحلية  رغم أهميته القصوى الأستراتيجية  خصوصا  بعد سيلان الدماء الذي عم  الأطراف  والمدن الكبيرة  وحتى العاصمة الخرطوم .

    أنه تحول أخلاقي  ننشده  بشكل ملح أساسه  نبذ  كل صور الأضطهاد الديني و الأثني و  الطغيان و الأستبداد و القمع والعنف و رفض الآخر من جهة ، و تقويم ميزان سير  العدالة و  المحاسبة القانونية  على  كل الجرائم التي تنسب لمؤيدي النظام أو حتى غيرهم من المعارضين  جهة أخري  .

    فالتحدي الوطني القائم و الماثل  أمامنا اليوم ( الدولة والمعارضة و منظمات المجتمع المدني )  يبقى في  توجيه كل طاقات هذا  المجتمع نحو   عملية تأسيس والأنتقال   لحكم راشد يقبل الآخر، لا بشكل تحكمه شريعة الغاب وأنما بأطار تحكمه الأخلاق والعدالة و كف المظالم و حرمة الدم السوداني ، و الأرادة الحقيقية  السياسية  لتغيير هذا الواقع المأساوي و المتأزم  الذي تعيشه حاليا  البلاد  .

     هذا  الأمر على أهميته القصوى  أن تحقق   يبقى  الضمانة الوحيدة لقيام تحول ديمقراطي رشيد في المستقبل القريب أن شاء الله ، يحفظ بلادنا وشعبنا من مستقبل أشبه أو أسوأ من واقع اليمن و العراق وسورية و ليبيا الحالي  .

    من السهل اليسير أن تخلق ( بضم التاء ) ثورة في أي زمان و مكان على الحاكم لاتبقي ولا تذر  ،  وهذه سنة الله في كونه فالسلطان  ليس ولن يكون  دائما لفرد كان أو جماعة في الأرض مهما تعاظمت سطوتهم و قوتهم ، مصداقا لقوله  ( قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

    لكن  يبقى  العسير   هو أتقاء عواقب هذا التغيير المفاجئ وأنتشال  البلاد من قوقعة الدخول في مزيد من الصراعات الدموية  التي كانت بذرتها الأولى قطعا  هي تراكم المظالم و تقيح الجروح التي تسببت بها سياسات  نظام الحكم القائم الآن عبر أدراته القاصرة  للأزمات الوطنية .

    والمحزن  جدا  له  أن  قيادات الأنقاذ  وبعد ستة و عشرين عاما من حكمهم  الذي شهد أسوأ فترات السلطة ( عسكرية كانت أو ديمقراطية )  على مدى التاريخ الوطني  فسادا و تعديا على المال العام و تخريبا لكل مقدرات البلاد و تفسخا للنسيج الأجتماعي والأثني  بسبب تفشي الجهوية و العنصرية مازالوا يرددون حتى اليوم عبارات من قبيل   أنهم دون غيرهم من  يحمون دين الله الأسلام في هذه البلاد من معارضين جل هدفهم هو العودة بالعلمانية وفصل الدين عن الدولة !

       د. حسن عبدالله  الترابي الذي أود أن أستأنس بما ذكره   في كتابه ( السياسة و الحكم ...  النظم السلطانية بين الأصول و سنن الواقع ) وقد كتبه في سجنه الأخير في ظل نفس هذا النظام  ، جمع وجها العملة التي نتحدث عنهما في مقالنا هذا ( التحول الأخلاقي و التحول  الديمقراطي ) الذي يصلح به حال البلاد و مصالح العباد  في  الفصل الثالث  الذي عنونه ( بالمجتمع  المؤمن مصدر السلطان ) .

     يقول د. الترابي  في ذلك الفصل أنه قد ينتسب مجتمع الى ملة الأسلام بتقاليد تراثه ويظل يؤمن بحكم الشريعة و حقها ، وحيا من السماء  ، لكنه في ممارسة السلطان يضل لايصدر عنها   .

    وسواء كان ذلك الفجور من الشريعة واقعا بينا يتستر بالنفاق ، أو مضى الكفر بالشريعة ظاهرا بواحا ، فذلك يثير مسألة المنهج في تحويل ولاية السلطان الى الشرع بعد أن فسقت و أنفصلت عن الدين .

    و المنهاج المشروع للتوبة أو العدول عن ذلك يكون عبر العودة للأصول والتوبة بالسياسة والسلطان الى دين التوحيد الذي لايفاصل الله بشرك ،  فيردوا أمانة السلطة الى أهلها ، الى المجتمع بأسره يقوم حرا يجتهد برأيه ، ويتداول و يتشاور ،وأجماعهم بمرسوم النص أو عرفا في الواقع هو الحكم الأعلى المعبر عن أرادة مؤمنة بعلوية الشريعة .

     وفي حالة  كون المجتمع مؤمن منشرح الصدر للرجوع الى حكم الشريعة لكنه  مستضعف  ذو هوان ، يسوده ويحكمه  طغاة  فاجرون ، لايسمعون للمجتمع ولا لدعوة التذكير ، بل يصدون و يسدون حريةالتعبير و حركة التغيير ليتولى المجتمع المؤمن أمره العام ،عندئذ فقط تجوز بل تجب  المجاهدة والثورة عليهم .

    هذه المجاهدة أو الثورة على الطغيان التي فسرها الترابي في كتابه المذكور ، هي لب قضية  التحولان  الأخلاقي و الديمقراطي اللذان  أصبحا  مرتبطان  أرتباطا وثيقا كما  يرى  الكثيرون  بأنهيار أو سقوط الأنقاذ .

     هذا أمر لن نردد مقولة أن  عواقبه وخيمة  في ظل ضعف المعارضة المدنية وتفكك أحزابها  و  أنتشار السلاح في أيدي الكثير من المليشيات القبلية التي سلحها النظام  وتسانده اليوم ، ولكنها يمكن أن يتم  تداركها  لو تهيأت لها ترتيبات سياسية بأتفاق وطني يجمع كل القوى السياسية و الحركات المسلحة  .

    ما نتمناه أو ربما ما نحلم به   هو أن يكسر عقلاء  النظام   هذا الأعتقاد السلبي  الراسخ لدينا ولدى الكثير من المراقبين ،  وأن يسير في تعاطيه مع الأزمة الوطنية  بأسلوب مانديلي ( نسبة لمانديلا ) لا بمنهج  ( بشار الأسد - علي عبدالله صالح )  مع شعبه .

     والقصد أن يقوم بخطوات تطبيع كامل مع الشعب قبل معارضيه و سبيلها الوحيد لذلك  هو  تفكيك دولة الحزب لصالح دولة الوطن التي تحتضن جميع أبناءه  .

    نقطة الأنطلاقة لهذا التحول يجب أن  تبدأ  بأعادة تعريف و تحديد و تقنين أدوار جهاز الأمن والمخابرات الوطني ليكون  حافظا للدم والأمن القومي  السوداني و حاميا  للسيادة الوطنية لا أن تستعمله الدولة كمليشيا حزبية مسلحة  أو كخنجر حاد يغرز  في خصر كل مواطن معارض للنظام  يطالب بالتغيير السلمي والتحول الديمقراطي .

      وضع هذا الجهاز  ( العدائي ) كسيف مصلطا  على رقاب  المواطنين  و نعامة على العدو الغريب   سيجعل مصيره كمصير جهاز أمن نميري الذي تم حله  بعد ثورة أبريل , ثم ظل النظام الديمقراطي في الفترة اللاحقة بعدها بلا جهاز أمن يحفظ للبلاد أمن سيادتها من الدول المجاورة أو غيرها .

    كما يجب وقف كل أجراءات الكبت الأعلامي و توقيف الصحف و مصادرتها  ومقاضاة الصحفيين من قبل جهاز الأمن ، والأستعاضة بذلك بالرقابة القبلية وميثاق شرف صحفي يجعل كلا  الطرفين ( الصحافة و الأجهزة الأمنية للدولة  ) شريكان  يعملان  لصالح  نهضة الوطن وأمن و رفاهية ورعاية مصالح المواطنين  .

     أن تتوقف   وسائل الأعلام  الرسمية والخاصة التابعة قطعا  كلها للنظام  بشكل فعلي وحقيقي  عن بث كل أشكال دعاية الحرب وحملات تجنيد الشباب السوداني  في حروب عبثية وضح بما لايدعو الى شك  أنها لا ولن تحسم  عسكريا ، والأستعاضة من ذلك  بأشاعة ثقافة السلام و الحريات و قبول الرأي و الرأي الآخر حتى يمهد ذلك لسلام وأتفاق وطني ( مفترض )  بيننا كسودانيين  .

     رفع الحصانة و محاسبة الدولة لأي فرد نظامي أو أمني  يتبع لحزبها يثبت تورطه في عمليات قتل لأرواح وأنفس مسالمة  خرجت في تظاهرات عامة و لا تحمل سلاح ضد الدولة .

    فصل كامل  للسلطات الثلاثة  التنفيذية والتشريعية و  القضائية  عن بعضها البعض وتمكينها من أداء أدوارها بشكل حر  دون أي تأثير سلبي  لأجهزة الدولة الرسمية أو الحزب الحاكم  عليها يفقدها او يفرغها من أداء أدوارها المخصصة لها  القيام بها   .  

    قد يرى البعض أو ربما الكثيرون  أننا حالمون في دعوتنا تلك للنظام بتغيير سلوكه العدائي  مع معارضيه من واقع تسلطه و قبضته الأمنية القاسية على البلاد و شرهه الشاذ للحفاظ على السلطان  .

    ولكن يبقى الأمل معقودا في الله أن يخرج من أصلابهم من يقود و يدفع هذا  الحزب الحاكم  نحو حل وطني حقيقي  يرد الحقوق لأهلها ويعيد البلاد لمسار التحول الديمقراطي و التحول الأخلاقي من قبله ....... وليس ذلك على الله ببعيد  .
     
    

 

آراء