سعاد إبراهيم أحمد: الطود “النوبي” الأشم
صديق عبد الهادي
2 January, 2014
2 January, 2014
Siddiq01@sudaneseeconomist.com
يقطع الكاتب الجنوب أفريقي "ج. م. كويتزي" تصاعد الأحداث المتواترة في أحد المقاطع من روايته الشهيرة "في إنتظار البرابرة"، يقطعه بجملةٍ تبدو وكأنها قد هبطتْ عليه من السماء، إذ يقول/
"توقفتْ الرياح في منتصف النهار فجأةً، كأنما أٌغلِقتْ بوابةُ في مكانٍ ما".
قد تكون هذه الجملة، اليوم، هي الأدق في إنطباقها على حال منْ عرفوا الراحلة "سعاد إبراهيم أحمد"، حالهم ساعة رحيلها في يوم 29 ديسمبر 2013م. فلقد توقف ذلك القلب وتوقف هدير تلك الحياة الصاخبة، التي ظلت تتدافع، نحو ما يقارب الثمانية عقود، من قمةٍ إلى قمة تاركةً وشمها على صدر كل صخرة، وعلى هامة كل نخلة، على طول مسيرتها الباسلة.
اليوم، واليوم فحسب، ولكأنما أُغلِقتْ بوابة عتيقة في معبدٍ نوبيٍ عتيقٍ ما!!!.
تأتتْ لسعاد ظروفٌ لم تكن لغيرها، ولم تتيسر لسواها. ظروفٌ كانت كافية لإعتصامها بعيداً، ليس من عامة الناس وحسب وإنما حتى ممنْ يعتبرون العلية والصفوة، إلا أنها إختارتْ الطريق الشاق، طريق الحزب الشيوعي السوداني، الذي لا تتنقل معارجه إلا من مشقة إلى مشقة، غير انها تنتهي بسالكها إلى قلب الناس وحب الوطن. وقد صعدتْ سعاد هذه المعارج حتى نهاياتها، إذ عاشت حياتها كأبسط ما تكون الحياة، وفي إتساقٍ كاملٍ، وعجيب. بيت مفتوح للاهل والمعارف والأصدقاء، وقلب مفتوح على الناس أجمعين. وحين الطرق على الباب ياتي النداء وكأنه يخرج من كل الحيطان/
...."أهلاً، تفضل، ما زلنا نقاوم"...
فهذه "التميمة" التي تطلي القلب بالسكينة، وتحقن الروح بالتفاؤل سنفتقدها جميعاً، رغم يقيننا بأن صداها سيظل يتردد ما بقى هذا الوطن. ولكنا نحس بالفقد لان ذلك الصوت الجهوري المقاوِم غاب!!!. والفقد سيكون ذا أثرٍ عظيم على كلٍ منْ عرف سعاد بحق.
في عام 1998م قدمِتْ الراحلة في زيارة للولايات المتحدة، وكانت في ضيافة اسرة المرحوم بروفسير عبد العزيز بطران وزوجته المبدعة هادية طلسم، اللذان كانا يقيمان في ضاحية جميلة من ضواحي العاصمة واشنطون دي سي. وكان عليّ ان أذهب لمقابلتها ومن ثمَّ إصطحابها إلى مدينة فلادلفيا للإشتراك والتحدث في ندوة نظمها لها "التجمع الوطني للسودانيين" في المدينة. كانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي ألتقي فيها الراحل بروفيسور عبد العزيز بطران، وهو رجلٌ ذو دماثة لافتة وتواضع جمْ لا تخطأه العين، رغم سعة علمه وتعدد مواهبه. ولقد كان صديقه دكتور منصور خالد محقاً حين نعاه كاتباً، "إنتقل بطران من بعد نيروبي إلى واشنطون ليقيم فيها، وطاب مقامه هناك بعد إقترانه بهادية طلسم، رعاها الله ومن أنجبت. كفاها توفرها على رعاية رجل لم يكن يكلف احداً رهقاً، بل كان يغدو ويروح في داخل منزله كالنسيم كي لا يثقل على أحد".
ولقد حزنت لرحيل ذلك الرجل العالم الذي لو كان آخرون مكانه لملأوا العالم ضجيجاً ما إنقطع إلى يومنا هذا.
إن صحبتي للراحلة سعاد في ذلك اليوم قد كشفت لي ليس فقط المعدن الخيِّر لهذه المرأة وإنما إتساق قناعاتها مع أفعالها. ولقد وضح لي تماماً بان إعتناق الفكر ليس بترفٍ او تزجية او إستجابة لنزوة معرفية عابرة، وإنما قد يعني فيما يعني الخطو حافياً على حد السيف، لو إستدع الامر ذلك.
سلكنا الطريق العام السريع، المعروف بطريق 95، الذي يعبر الولايات المتحدة من أقصى جنوبها إلى أقصى شمالها دخولاً إلى كندا، قاطعاً مسافة تفوق الالفين ميلاً، أي ما يزيد عن الثلاثة آلاف كيلو متر. ولسعته ولجمال الطبيعة التي تحف به وللاستثمارات التي ترتبط بالانشطة التجارية والسياحية حوله، فإنه يقف دليلاً على الريادة الراسمالية العتيدة لهذا البلد. والمرء قد لا يحتاج لمجهود فكري كبير للوقوف على حالة التناقض التي تبدو واضحة في انه كيف تسنى للعقول التي تقف من وراء هذه الانجازات الانسانية، أو لبعضها، ان تسعى لزراعة الدمار وبذلك الشكل المرعب وبدون وجه حق في بلدٍ مثل العراق؟!!!، الذي لولا ثراء تاريخه وعراقة حضارته لكان ان زال من على وجه البسيطة، وذلك لفداحة ما يتعرض له وبشكل يومي لاكثر من عقدٍ من السنوات!!!، وبالقطع في ذلك تكالبت كل الجهات إن كانت محلية او اقليمية او عالمية وفي المركز منها جميعاً قوي الاسلام السياسي التي ارادت ان تجعل من دمار العراق ومحنة أهله بطاقة شرعية للانقضاض على كافة البلدان!!!.
ونحن في الطريق العام أشرت للراحلة باننا نحتاج للتزود بالوقود لان مؤشر وقود السيارة بدأ في الإقتراب من النهاية، واستأذنتها في الخروج من الطريق العام، والوقوف عند اول إستراحة فيه. قال لي أحد الاصدقاء ممازحاً، ذات مرة، في شأن إستراحات الطرق العامة السريعة في امريكا، بانها من نِعَم الراسمالية علينا، إذ بقدر إستثماراتها فيها، فإنها جعلتْ الاسفار الطويلة متعة.
وعند خروجنا ووقوفنا وجدنا ان محطة الوقود الوحيدة هي "محطة شركة شل"، فما كان من الراحلة إلا إنتفضت قائلة باننا سوف لن نتزود بالوقود من "شركة شل"، فهي الشركة المسئولة من إغتيال الناشط الحقوقي، الكاتب والمخرج والشاعر والاستاذ الجامعي النيجيري "كين ساروـ ويوا"، الذي ينتمي لأقلية الـ "اوقونو" العرقية التي تسكن دلتا نهر النيجر الغنية بالبترول، والذي كان بالفعل ان تمّ إعدامه شنقاً مع عددٍ من الناشطين في يوم 10 نوفمبر 1995م، في سجنٍ ببورت هاركورت بدولة نيجيريا، إثر محكمة عسكرية جزافية في ظل سلطة الجنرال "ساني أباشي".
أثار إعدام "سارو ـ ويوا" موجة غضب عالمية إستمرت لأكثر من عشر سنوات متتالية، وإلى ان إضطرَّتْ إثرها "شركة شل" اللجؤ إلى تسوية خارج المحكمة، دفعت بموجبها مبلغ 15.5 مليون دولار لاسر اولئك النشطاء الذين اسهمت في إعدامهم.
حاولت إقناعها التزود ولو بالقليل حتى نتمكن من الوصول إلى الاستراحة التي تلي، وذلك بالطبع وقوفاً عند منطقة "اللون الرمادي"، قائلاً لها "بان الضرورات تبيح المحظورات"!!!، وأُقِرُ بأنه كان موقفاً خاطئاً من جانبي. لم تصغ إليَّ، بل وأجابتْ قاطعةً بان" ليس هناك من ضرورة، إننا سوف لن ندعم هذه الشركة ولو بسنت واحد، لانها ما توقفتْ عن ممارسة الأعمال الإجرامية في حق النشطاء وفي حق الشعوب!!!". أصرَّتْ على موقفها، مؤكدة انه ولو دعانا الامر وإضطرَّنا لإستخدام خدمات الطوارئ لاجل سحب سيارتنا من حيث تتوقف إلى محطة الوقود التالية، ولحسن حظنا ان الاستراحة التالية لم تكن بعيدة حيث تمكنا من التزوّدِ بالوقود.
كانت "سعاد" تعرف قيمة ذلك الموقف المبدئي، ليس بحسبه موقفاً فكرياً وإنما لأنها ظلت هي نفسها تدافع عن حقوق اهلها النوبة ولمدة ستين عاماً بالتمام والكمال، دون كللٍ او ملل، حتى اصبحت أيقونةً نوبية بحق وحقيقة في سبيل الدفاع عن قضاياهم. وقد اكدت الوقائع لاحقاً وبعد مرور إحدى عشر سنة، أي في عام 2009م، وبشكلٍ من الاشكال صحة بل وثمرة موقفها ذلك، حين قبلتْ "شركة شل" التسوية رغم أنفها، والذي مثّل موقف سعاد، بالرغم من فرديته ومحدوديته التي قد تبدو منه، مثّلَ نقطةً في مجرى الحملة الكونية الشاملة التي إنتظمت العالم في مواجهة تلك الشركة عابرة القارات، وأجبرتها على الخضوع.
هذه هي "سعاد إبراهيم أحمد"، فيا ترى كم من الناس يمكن ان يقف وبوعي مثل هذا الموقف؟ وكم من الناس من الممكن ان تطابق افعالهم قناعاتهم، ولهذا الحد الصارم؟!!!.
رويت ما حدث لي مع الراحلة لصديقي النيجيري، المهندس المتقاعد، دكتور "إدوارد يكوبي". وهو من قدامى مقاتلي حركة بيافرا المشهورة إبان الستينيات من القرن المنصرم، وكان زميل دراسة للناشط "سارو ـ ويوا". عندما قصصت عليه ذلك ترقرقت عيناه بالدموع وقال لي بالحرف الواحد "أنني لا ابالغ إذ قلت لك بأن هناك نيجيريون قد لا يقفون هذا الموقف"!!!. ومنذها، صار يسألنى على الدوام، وكلما إلتقينا، عن "سعاد إبراهيم أحمد". ولا شك عندي ان غلالة من الحزن العميق ستلفه حين إخطاره بنبأ رحيلها، رغم انه لم يلتقها في حياته ابداً.
شكراً لك سعاد، فلقد جعلتينا نتباهى عن حق وصدق، فلترقدي في سلام بعد أن رفعتي رأسنا عالياً، أيها الطود "النوبي" الأشم.
العزاء لشعب السودان عامةً، ولحزبها ولكل معارفها وأقاربها وأصدقائها، وعلى وجهٍ أخصٍ العزاء لصديقتيها الاستاذة نعمات أحمد مالك والاستاذة مريم محمد الطيب. فإنها قد تركتْ فراغاً عريضاً في حياتهما. وما من سبيل غير التجمل بالصبر والاحتفاء بمواقفها الملهمة وبذكراها العبقة.
/////////ش