دخلت سعاد منزلها بعد أن قضت يوما دراسيا مرهقا ، ألقت بشنطتها في السرير وهي ساهمه ، سيطر على تفكيرها مشهد واحد ، والدها الذي سوف يدخل السجن ، خبأت الدموع من والدتها ، لكنها لم تستطع تخبئة الأصوات عن ذاكرتها ، ووالداها كانا يتناقشان قبل أسبوع عن كيفية سداد ايجار المنزل الذي تجاوز الستة أشهر .. منذ حينها قررت أن لا تقول لوالدها "عايزه جنيه الخميس" وجنيه الخميس هذا يجمع منهم في الفصل كل اسبوع لتأهيل المدرسة على حد قول المديرة . فعشية الأربعاء كانت تنوي الصيام رغم تحذير الطبيب لها بالمحافظة على وجباتها الثلاث ، الا أن نقاش والداها عن ايجار المنزل والسجن والمحكمة كان أكثر وقعا على وجدانها الطفولي واجدر بالاهتمام من توجيهات الطبيب التي تستدعي أيضا تناول الدواء بعد كل وجبه ، وطالما للدواء قصة منفصلة أدت الى انقطاعها عنه مدة شهر كامل فلم تتحمس لموضوع الوجبات هذا ، كيف لها أن تاتي بالدواء وهو خارج التأمين أنه ليس حبوب الملاريا ولا البندول ولا سكر الجلكوز أنة دواء يفوق مبلغه المئتا جنية سوداني في الشهر . ومرتب والدها 300جنيه . "الاغتراب بقى مازي زمان " هكذا كانت تبرر والدها عدم مواصلة الاهل بالخارج ارسال الدواء لمدة زادت عن المتوقع . تطاير الرقم 3 والصفرين في ذهن سعاد في شكل عاصفة ترابية ساخنة ، كادت تطيح بها من سطح السرير الذي يتمدد فيه نصف جسدها باهمال وقدماها تلامسان الارض وحزاء المدرسة يشكو في سخونة الحرارة التي فاضت من قدميها أثر العاصفة المحمومة ، كيف يستطيع والدها من تلك ال300 والصفرين أن يدفع ايجار المنزل ورسومها الدراسية هي وشقيقها وابن عمها الذي مات والده في حرب الجنوب ؟؟ والأكل والشراب وفاتورة الموية وفاتورة الكهرباء وايجار العداد وفجأة تنبهت عند العداد الكهربائي المثبت على الحائط وتسائلت : " كيف يعني ندفع الايجار ونحنا مشترنو بي قروشنا " ، قررت أن تسأل المدرسة غدا عن هذا الشيء لكنها احبطت عندما تذكرت رد معلمتها لها في المرة السابقة عندما سالتها عن فتاة الفيديو السودانية ، وقالت بكل براءة : يا أستاذه انتي قلتي لينا الدين يسر وليس عسر وقلتي لينا الدين المسامحة وقلتي لينا الدين بوصينا بالموعظة الحسنة ، كيف يعني يعذبوا البت دي كده بالشريعة ويقولو ده الدين ؟؟ فكان رد معلمتها : " سعاد أقعدي وخلي بالك في الكتاب القدامك أنا مش قلت ليك الأسئلة حقت الناس الكبار دي خليها ؟؟ ، لتبتلع سعاد سؤالها في جوفها ويغوص مع صراخ فتاة الفيديو في معدتها مراكما لاولى لبنات قرحة المعدة التي اصيبت بها فيما بعد عند الثلاثين من عمرها . فيما يعرف بالامراض السيكوسوماتيه وهي الامراض الجسمية التي تكون اسبابها نفسية وفي حالة القرحة يكون الضغط النفسي والتوتر هو السبب الاساسي .
الآن سعاد في الخامسة عشر من عمرها ملقية على ذلك السرير ذو اللحاف الرفيع في برندة المطبخ بمنزلهم الكائن بالحاج يوسف ، تتجاذبها عاصفة الرقم 3 والصفرين وتتخيل والدها خلف القضبان الحديدية بالسجن المتسخ ، الذي تعلم انه للمجرمين والحرامية والقتلة ، فكيف يكون والدها معهم ؟؟
"سعاااد سعاااد يابت انتي سارحة وين "..هكذا ندهتها والدتها وأردفت : " قومي انتي مش امتحاناتك قربت ، قومي غيري واكلي ليك لقمة وشوفي قرايتك .
بقدر ما انتشلها صوت أمها من عمق عواصفها ، بقدر ما عمق من احساسها بارتفاع درجة الحرارة وسخونة قدميها من فرط غليان دمها ، وتذكرت الامتحانات ، لم تجزع للدروس والمذاكرة ولم تلقى لها بال ، فقط داهمها شبح رسوم الامتحانات أسودا قبيحا تخيلتة بيدين غليظتين قبيحتين ، يزج بوالدها من ظهره نحو بوابة السجن المتسخ ، ووالدها يقاوم ويستنجد بها ويعلو صوته صارخا بقوة سعاااد بتي سعاااد ، ياسعااد انتي وين يا " شرارة". ماهذا الذي تسمع ماذا يقصد والدها ، عندما كان يخطأ في مناداتها كان يندة اسم اختها الصغرى وهو" نهاد" ، من شرارة هذه ؟؟.
وعند الصراع الكائن في بوابة السجن بين والدها وأظافر الشبح المغروسة في ظهرة وصرخات النجدة وارتجاف الصوت رغم قوتة واندهاشها من نسيان والدها لاسمها ، وخوفها علية ورعبها من منظر الدماء في ظهرة ، وتقذذها من منظر الشبح الذي ترائى لها كمصاص دماء ، واستعجبت حد الجنون من أنه يردد آيات من القرآن الكريم قبل كل انقضاضة على ظهر والدها بيداه الغليظتان دافعا اياه داخل السجن ، وتذكرت أيضا كلمات المعلمه في الدرس عن سماحة الدين ومنافعه للناس وفوائد القرآن الكريم وهدايته للعالمين ، وكاد التناقض يشل فكرها ، وخلايا مخها تضخمت مليون مرة حتى أصبحت بحجم الشق التضاريسي الكبير بين شمال الخريطة وجنوبها .
ونواصل في العدد القادم لنرى ماذا حدث مع سعاد .
ندى حليم
Nada Haleem Saeed [nadahaleem19@yahoo.com]