تحدث نفسك فى ركنك القصى من الطائر الفخيم ، يتهادى فى بطء محسوب استعدادا للاقلاع فى رحلة مجهولة المدى لا تعرف الي أين تقودك خطواتك المفارقة . لا تعرف هل تعود بك من قابل . أم تتيه بك فى الوهاد العميقة ، تمتد أمامك بلا قرار. ويغلبك أن تعود الى الديار التى ارضعك من ثديها الحب والحنان . تطمئن نفسك المهتاجة : هى خطوات كتبها عليك قلم القدرة منذ الأزل. والذى يكتبه قلم القدرة يمشى فوق ضهر البحر. هكذا قالت الكتب المقدسة .تطلق زفرة عميقة من سويداء قلبك المحتقن ، كأنك تفرغه من همه وغمه . يطول تحديقك المبهم فى الافق البعيد. السحب تبدو داكنة ومتجهمة كأنها تتفردك من بين جميع المسافرين . علها حزينة وغاضبة من سفرك هذا ، كما هى البوادى عموم حزينة وغاضبة. ترفض الاستسلام لهذا الهاجس . ترفض الاستسلام لسطوة الاحساس بالتيه. والحسرة على عشرة السنين تسربلت وضاعت من بين يديك ، ومن بين يدى الرعيل الحنيف. تغادر بحزنك الخاص ، وتترك من ورائك الخميل الوارف ساجيا فى حزنه المكين. الثيران الاسبانية تقتحم مستودع خزفه الجميل ، وتنشر فيه الاخراب والتدمير. يهرب النور والنوار من الخميل الجميل. تلملم احاسيسك المبعثرة . و تغادر الارض . تترك لهم الجمل بما حمل . جمعت الى صدرك اوراقك الثبوتية. وجمعت معها حزنك وغضبك وخرجت تستعصم بالمسافات الفاجرة تجعلها بينك و بين بلدك الطعين.لا تريدا ن تكون شاهدا على مولد المحنة . لا تريد ان تسمع سمارالحى القديم يتصايحون مذعورين، كل فى وجه اخيه : إنج سعد ، فقد هلك سعيد. سنابك خيل التتار تقتحم الفضاء . الناس يتقاطرون الى الفيافى العدم ، كل يأخذ بعقلة اخيه فى هروبهم الكبير. تبقى فى المخيلة المأزومة فواصل الشريط الدامى. يمتلئ صدرك . تغمض عينيك . لا تريد ان تكون شاهدا على القبح والفجيعة. تتف عن يمينك وعن شمالك كما يفعل الصالحون فى البوادى عموم عندما تحضر شياطين الانس والجن. تتمارى فى مخيلتك صور الذين تساقطوا تلالا تلالا غدر بهم جنون الانسان التترى الجديد ، يحوم فى الارجاء ، ينشر فيها المحن بهمة لا يلحقها الإعياء. الطائر الفخيم يشق بك عنان السماء بقوة و اقتدار. يبتعد بك عن البوادى عموم ، و عن مدن التراب .و يقترب بك من البلد البعيد. خانتك شجاعتك الموروثة. ودمعت عيناك . هذا هم ثقيل لا طاقة لك به يزمجر فى دواخلك. صور من الأذى والأسى تتداخل وتتشابك فيها الطرفة ونقيضها . الزعيم الكجورالكبير يرسل الالوف من الشباب الى حتوفهم فى احراش الجنوب يغريهم بتزويجهم بالحور العين فى اليوم الآخر. ويقيم لهم مهرجانات الفرح الصاخبة . زيجات بلا شهود . و بلا تواكيل شرعية . ازواج تتعذر عليهم اللقيا ذلك الشرط الأساس لأى زيجة طبيعية . هذه زيجات غير طبيعية. ولكن من يفتح فمه فى حضرة الزعيم الكجور الكبير. يستصغر عقول الناس ويصنع لهم زيجات مغشوشة . ويعتمد لهم شهداء مغشوشين حتى اذا قضى وطره السياسى منهم عاد و اعتبرهم مجرد فطايس . تتذكر حكاية السرداق الكبير يقيمه الشيخ الكجور فى قلب الحى القديم ، ينصب به على الدهماء ، يزوج القتلى فى حربه الجهادية على حور عين يقمن فى السماوات العليا. يصغر عقولهم الى درجة التصفير الكامل. أمرضك تماهى مردة النفاق والتدليس مع أكاذيب الكجور الكبير. زادوا قلبك المريضة شرايينه التاجية مرضا على مرضه القديم. جبن أهل الديرة . وقبلوا ذلك الاستصغار . كل الديرة جبنت أن تقول أن بغلة الكجور العراب فى الابريق. وخرجت ترقص الصقرية بفرح مغشوش. تدامجت الحقيقة مع الخيال فى المشهد الغريب . الطائر الفخيم يشق عنان السماء مقتربا اكثر من أم المدن ، ومبتعدا اكثر من مدن التراب ، يتهتك فى حبها الخليل شاعرها المغنى ، لا يعرف هو الآخر أين يقوده قدمه المفارق . وانت لا تدرى الى أين يقودك قدمك المفارق. قالوا لك دلاس ، قلت لا تحب المدينة التى قتلت زين شباب الرؤساء تطول تهويماتك وشرودك ، ويطول بالطائرالفخيم المشوار. يتقاذفك الملل العظيم . ينمو فى وجدانك شعور بالتيه وقد تراصت بينك وبين البوادى عموم المسافات الفاجرة . مسافر انت اليوم وفى صدرك زئير وزفير. لست منسحبا من ميدان المعركة . ستعود عندما يشتد الأوار. ستعود عند لحظة الاقتحام و تشعلل المعركة . هذا هو تقديرك على أى حال . لست مغاضبا البوادى عموم . لا أحد يغاضب البوادى عموم. يقبل تصنيف جدته بت وداعة لسفره هذا . حسبته من اسفار الغبينة . مسافر الغبينة لا ينقطع فيه العشم . تحسبه العشيرة فى عداد العائدين فى يوم من الايام مهما طال به السفر والغياب. تطول الغبائن و لا تدوم .وعندما تدول الغبائن ، تعود المياه الى مجاريها القديمة . حامد العود ، فتى الديرة الأمجد ، غادر البوادى عموم مغاضبا. أقسم أن لا يعود حتى تعود الى البوادى عموم فحولتها المكسورة. و تمسح عن صحائفها هذا الحمل الثقيل . قال لن يعود حتى تخلى البوادى عموم نفسها من هذا العيب الكبير. مثل صديقه حماد العود ، كان يتف عن شماله و عن يمينه عندما يرى منهم احد . يقول اعوذ بالله من جن التتار وانسهم . يحتقر الذين يحنون هاماتهم أمام العواصف الصغيرة . و يدفنون رؤوسهم فى الرمل حتى لا يروا الخطر الوشيك كما يفعل ذكران النعام الموسوم بالجبن عادة . يدفن رأسه فى الرمال عندما يقترب منه الصائد. مثل صديقك حماد العود تغادر مغاضبا وفى صدرك زفير وزئير. الطائر الفخيم يشق بك عنان السماء فى قوة واقتدار . يقترب بك من أم المدن . و يبتعد بك من مدن التراب ، تعشق ترابها وغبارها كما كان يفعل الخليل ، شاعر الحب العربيد. لا أحد يستطيع أن يعاور الوطن الجريح . أو يداوم على جفائه مهما جار. ستغفر للذين جرّحوا وجدانك ذات يوم . ولكنك لن تغفر للذين جرحوا وجدان الوطن . تركت لهم الجمل بماحمل وغادرت والوطن يغالب أوجاعه و جراحه الصادحة . لن تغفر للذين استأسدوا على المرهقين الحزانى . وذابوا مثل الواح الثلج فى الصيف ساعة المحنة. يوم هجم التتار على الخميل الوادع ، وهشموا مستودع خزفه الثمين ، غيروا جلودهم مثلما يغيرون ملابسهم حتى لا يأخذهم ريح التتار العاصف فى معيته. لبسوا للحالة الطارئة لبوسها . ذهبت عنتريات الأمس القريب . ركبواجيادهم الصافنة .و ساروا فى مؤخرة الركب يتلصصون من خجلهم المفرط . يدفدفون الدفوف فى جوقة الزمارين . تغيب فى وجدانك المرهق، ويغيب الطائر الفخيم فى جوف الضباب ، يبتعد بك عن مدن التراب. ويقترب بك من أم المدن ، تحادث نفسك ، تناجيها و تناجزها على التعزى دون والغفران لو تستطيع . طالت تخيلاتك لعالمك الجديد ينتظرك خلف السهوب العميقة تمتد امامك بلا قرار. و يستمر حوارك الصامت مع نفسك المكلومة ، تريد ان تلزمها أن تظل نظيفة عندما يتسخ الآخرون : أن لا تعلق بها الاوساخ السابلة : أن تظل مفطومة على بزازة التحدى : أن تظل مناجزة ضد الرهق والاستسلام الاسيف. الحياة قصيرة ومعطونة فى أحبار المهالك . البوادى عموم لا تذكرك الا مناجزا عن حق مضاع . لو تظل على تلك الفطرة . يكفيك أن تمارس الرضا العام. وقبول ما تخفيه لك المقادير. الكهنة الجدد لن يروضوا نفسك العنيدة. ها انت ترحل وتحمل معك صمودك الحنيف . لن ياخذوا منك غير بهرج حياتك المهنية ، نعم . فعلوا ذلك . ولكنهم ما استطاعوا أن يجبروك على الانحناء والتدلى. فالريح لن تأخذ شيئا من البلاط. الطائر الفخيم يطوى المسافات الفاجرة فى قوة واقتدار ، يقترب اكثر من أم المدن ، و يبتعد أكثر من مدن التراب . أنفاسك المختلجة تصعد وتهبط . تواصل تأملاتك الصامتة. والغياب فى دياجير وجدانك المحترق . تأملات لا تشرك فيها اسرته الصغيرة . تخاف عليها من تسلل الرهق الى نفوسهم الصغيرة. تخاف تحديدا على الصغيرتين سحر و سالى ، رصيدك الباقى فى بنك الاغتراب القسرى تحدق فى وجوه رفقتك فى الطائر الفخيم وقد شارفت الرفقة المؤقتة على نهايتها . لا يعرف منهم احدا . اكثرهم نائمون . طوبى لهم . النائمون لا يعانون من حرقة الانتظار واللهفة . بعضهم يتجاذبون اطرافا من حديث هامس. آخرون د سوا انوفهم فى كتبهم واجهزتهم . آخرون يتابعون مباراة فى كرة القدم . لم يكن من هؤلاء جميعا .. تدسّ نفسك فى احزانها القريبة . غبت بعيدا فى عالم المرهقين الحزانى تركته وراءك فى البوادى عموم . عاد اليك منلوج نفسك الصامت : غادرت باحزانك الكبيرة . تحملها فوق جناحك المهيض . وتركت للآخرين مثلها من الاحزان . شيخ العشيرة الفارس يترجل ويرحل فى هدؤ . و يرحل معه السرور من ديار الأسرة و العشيرة. يغادرها مرحها وألقها المشهود . عزت عليك تحية الوداع الاخيرة. وعزت عليك دموع عائشة الاخت الأم. ومياسة الاخت الابنة . وعزت دموع البادية عموم . فعلت بهم الذى فعلت . وأنت تدرى تعلقهم بك . عزاؤك الباقى أنهم لا يطلبون منك اعتذارا . تتعزى بفيض شعور هم النبيل هذا . يعرفون انك لا تستطع ممارسة الانحناء كما يستطيع الآخرون. كان أهون عليك أن تحمل اغراضك وتغادر من أن تتقوّس أمام جبناء الالفية الثانية . تركت لهم الجمل بما حمل . ارض الله واسعة . وواسعة كذلك ارزاقه . لن تفنى نفس قبل أن تفنى ما كتب لها قلم القدرة من رزق . . قناعة مؤمن لا تتبدل. بخ بخ بالبيع الرابح . تركت لهم الجمل بما حمل . و جئت تبدأ حياة مرة فى عالم مر .لا قريب تأنس اليه .و لا ولى حميم تبثه لواعج نفسك وكدرها. حياة مرة فى مجتمع مر. يحفظ الحقوق ، هذا صحيح ومريح. و يحفظ الحدود ، ويرقم الفواصل بين الاشياء . مجتمع يطلب من القادم اليه ماضيه القريب. قبل أن يبدأ من الصفر تارة اخرى. يقولون هذه هى صيحة البداية . وعربون الحلم الامريكى المقدم .عزائم قاسية ، فى مجتمع قاس ، يرحم اذا كانت نار جهنم ترحم. هى بلد اليانكى ، قريبة منك بزخمها المترع . بعيدة عنك بقدراتها على التزيين والتغليف . تعمر مدارك الناس من حولها بصورة الدولة القطب . والشعب القاهر بآلياته ومعارفه . و ثرائه الممدود. وتغيّب عنهم صورة الدولة التى تحّول انسانها الى ماكوك يغدو ويروح دأبا من صباح الرحمن و حتى مسائه وراء لقمة عيش شقية يقضمها فى مطاعم الوجبات السريعة فى عجل . يسابق الزمن ، ينظر فى ساعته ، يحذر سطوة الرأسمالى الجاثم على صدره مثل صخرة جلمود . انسان دوار فى وجود دوار ، عجلة دوارة فى مجتمع دوار ومتفرعن على الآخر، لا يسأل فيه حميم حميما . مجتمع غشيم ، يصبح الفرد فيه و يمسى و هو لا يطمئن على شئ . الراسمالى الضخم قد يطيحه فى لمحة بصر اذا تراجعت ارباحه سنتا واحدا . الانسان فيه مسكون بهم تسديد فواتير الاستغلال الرأسمالى فى آخر الشهر . و توفيرالحد الحد الأدنى من قوت عياله غدا. رزق اليوم باليوم . يترك الابعد وديعة عند الظروف والمقادير . الطائر الفخيم يشق عنان السماء فى قوة واقتدار. يقترب اكثر من أم المدن . يبتعد اكثر من مدن التراب .انصرفت الى نفسك تسمّع هتافها المكتوم كمن يحادث جليسا ضنينا بالرؤيا . لا يدرى ان كان يعتذر لها عن المشاق التى راكمها عليها حتى فاض الكيل : الشطب من كشوفات الترقى. السشطب من كشوفات التنقلات الدبلوماسية . الشطب من كشوفات الابتعاث الدراسى . الشطب من كشوفات التدريب .أثمان باهظة كان لزاما عليه أن يدفعها طالما بقى وزيره الخالى الذهن وزيرا للوزارة التى عرفت وزراء فطاحل فى قامات زروق والمحجوب واحمد خير ، وطالما ظل هو على سجيته البدوية ، يحمل قلمه الهمّاز اللّماز ، يدخل به فى صفحات الصحف لا يرعى إلا لكبير او ذمة خرج ذلك الكبير على الحدود التى تحد حركات جميع البشر. عندما هشم الطيران المصرى رؤوس اهله فى جزيرة أبا . فار الغضب فى قلبه . جرد قلمه السنين قلمه وكتب ( الزعامة طايرة ويطير معاها الانجليز. صرخة تحدى وقلة أدب فى وجه الدكتاتور. وعندما قتلت دبابات الدكتاتور أهلك فى ود نوباوى ، حملت قراطيسك وجلست تكتب دموع (أوليفيرا) ، صرخة اكثر لداحة فى وجه الدكتاتور. تطيحك دموع اوليفيرا من كشف الترقى . وتدحرجك خارج إطار التنافس دفعة واحدة . تشطبك من كشف دفعتك صرت عائما لوحدك. بلا دفعة . فعل بك هذا بعض اقزام عجزوا فى ان يصيروا طوالا رغم التزلف والتشابى. لم يرتادوا الشواهق التى لبسوا لها كل البسة النفاق والتدلى . لست مغبونا منهم لنفسك . لكنك مغبون لهم من أنفسهم . صوت المضيفة الرخيم يقطع حبل تفكيرك وتهويماتك تبلغ المسافرين معها بأن يشدوا الاحزمة استعدادا للهبوط فى مطار جون كنيدى فى نيويورك. اخرج قصا صة صغيرة ودون على السطر الأول ساعة وتاريخ الوصول .