سلوك طرفي الحرب يجعل التدخل الدولي لحماية المدنيين مسألة وقت ليس إلا

 


 

 

سلوك طرفي الحرب يجعل التدخل الدولي لحماية المدنيين مسألة وقت ليس إلا.
الطرفان يعملان لتجفيف السودان من قواه المدنية بالقتل أو التهجير القسري.
*محمد سليمان عبدالرحيم

في الوقت الذي تنعقد فيه المفاوضات وتنفض في جدة وغيرها، وتعلن فيه الهدن وتنتهك بين الطرفين، تتواصل أفظع الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني وأفدح الجرائم ضد حقوق الإنسان، وتنداح دوائر الكارثة الوطنية والإنسانية لتشمل الملايين الذين تحولوا فجأة وبين ليلة وضحاها من مواطنين آمنين إلى مشردين ولاجئين في أصقاع الدنيا بعد أن تركوا جثامين أحبتهم دون أن يواروها الثرى بشكل لائق، وطردوا من بيوتهم ونهبت ممتلكاتهم كلها وهربوا حفاة عراة مكتفين بأسمال من السلامة الشخصية. هذه الكارثة لم تقف عند حدود دك البنية التحتية للبلاد بالطائرات وتدمير وإحراق كافة المرافق الأساسية في الخرطوم من مستشفيات ومراكز صحية ومحطات مياه وكهرباء ومدارس وجامعات وأسواق ومخازن ومناطق صناعية بأكملها، بل تعدتها إلى المكتبات والمتاحف والآثار مما يشكل الذاكرة الحضارية لشعبنا وجزءاً من الإرث الثقافي الإنساني المحمي من منظمة اليونسكو.

توصف الحرب الدائرة الآن في السودان، بصورة شائعة، بأنها بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، وذلك صحيح غير أنه لا يقدم الصورة الكاملة. في حقيقة الأمر، إذا نظرنا إلى هذه الحرب من ناحية نتائجها الفعلية والعملية على أرض الواقع، بعيداً عن دعاوى ومزاعم طرفيها، نجدها حرباً تشنها القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع معاً من جانب، ضد الشعب السوداني وضد قواه المدنية من الجانب الآخر. الطرفان اتخذا من المواقع المأهولة بالسكان المدنيين حصوناً لهما، وشرعا في قصف تلك المواقع على ساكنيها بالطائرات والمدفعية دونما اكتراث. ليست هناك إحصائيات عن عدد القتلى بين قوات الطرفين المتحاربين، أما بين المدنيين فإن التقديرات المتحفظة جداً للهيئة التمهيدية لنقابة أطباء السودان تشير إلى أكثر من ألف قتيل في الخرطوم لوحدها ، والعدد الحقيقي قد يكون أضعاف تلك التقديرات، هذا بالطبع غير الأعداد الهائلة من الذين فقدوا أرواحهم في رحلات الهروب المذلة أو بفعل انعدام العلاج أو الأدوية أو حتى المجاعة وندرة الغذاء العادي. إذا كان الهدف المضمر للطرفين المتحاربين هو إجهاض حلم الدولة المدنية، فإنهما الآن ينفذان ذلك بطريقة موغلة في الإجرام، وهي تجفيف السودان من قواه المدنية فعلياً بالقتل أو الموت أو التهجير القسري.

لقد أثبتت الأحداث منذ بداية الحرب أن الطرفين المتحاربين يرفضان تماماً الاستماع إلى صوت العقل، وأنهما خلو من أي وازع أخلاقي أو إنساني أو وطني، وعلى استعداد لإطالة أمد هذه الحرب إلى ما لانهاية عبر المناورات الخبيثة التي تفرغ المفاوضات من معناها دونما أي اكتراث لحياة البشر أو سلامة الوطن،. لقد فشلت كل الجهود حتى الآن، بما في ذلك العقوبات المالية الأمريكية الأخيرة، في إجبار الطرفين على التعامل بجدية مع ضرورة إيقاف الحرب وحماية المدنيين. من الجانب الآخر، فقد كانت الهدنة الوحيدة التي احترمها الجانبان تماماً ونفذاها بحذافيرها بحرص ودقة هي تلك التي فرضت في بداية الحرب لإجلاء الرعايا الأجانب، ولم يكن ذلك إلا لارتباطها بالتهديد باستخدام القوة لحماية عمليات الإجلاء. تلك رسالة واضحة للجميع، ولكل الساعين لإيقاف هذه الحرب الإجرامية، مفادها أن الطرفين المتحاربين لا يصغيا إلا لصوت القوة، وأنه لابد من وجود هراوة غليظة تزلزلهما وتجبرهما مكرهين على وقف الحرب. هذه الرسالة لا نبعثها نحن المدنيين الضحايا، وإنما تبعثها القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع معاً، وعليهما معاً انتظار وتحمل نتائجها.

تتمثل تلك الهراوة في التدخل الدولي الإنساني لحماية المدنيين المستند إلى مبدأ مسؤولية الحماية المقر من القمة العالمية للأمم المتحدة في 2005. تستند مسؤولية الحماية إلى تحول جذري في "مفهوم السيادة" من كونها "سلطة" تمارسها الدول حيال شعوبها إلى "مسؤولية" تقع على عاتق الدول تجاه الشعوب، تشمل مسؤوليتها عن ضمان أمن وسلامة مواطنيها من المدنيين، وتقوم تلك المسؤولية على ثلاثة ركائز هي (1) أنه على كل دولة أن تتحمل المسؤولية الدائمة في حماية شعبها من الإبادة ، جرائم الحرب، التطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية أو التحريض على ما سبق، و(2) تقع على عاتق المجتمع الدولي مسؤولية مساعدة الدول في تأدية واجباتها الواردة في القاعدة الأولى، و(3) إذا فشلت الدولة بشكل واضح في حماية شعبها فإن المجتمع الدولي يتحمل مسؤولية التعامل الفوري والحاسم مستخدماً في ذلك اجراءات تتراوح بين استخدام الطرق السلمية والعسكرية.

إذا ما استمرت الأوضاع التصرفات الإجرامية لقيادة القوات المسلحة السودانية وقيادة قوات الدعم السريع كما هي عليه، فإن اللجوء إلى مبدأ مسؤولية الحماية وفق الركيزة (3) التي ذكرناها أعلاه المتعلقة بفشل الدولة في حماية مواطنيها، يصبح مسألة وقت ليس إلا، معلقاً كسيف ديموقليطيس ينتظر فقط انقطاع الشعرة ليسقط فوق رأس الجميع. إن فشل الدولة السودانية في حماية سكانها في هذه الحرب لا يحتاج إلى دليل، بل هو أوضح من الشمس في رابعة النهار، حيث تتواصل الانتهاكات الصارخة للقانون الدولي الإنساني، وحيث تشن هجمات شرسة واسعة النطاق على المواقع المدنية المحمية، مثل المستشفيات والبيوت المأهولة، وحيث يقتلع الأشخاص المحميين من بيوتهم ويجردون من ممتلكاتهم ويختطفون بما في ذلك العاملين في المجال الإنساني ومجال الرعاية الصحية، ويضاف إلى ذلك كذب أجهزة الدولة الرسمية بتقليل عدد الضحايا وإدعاءتها بتوفر الخدمات الصحية والمؤن بما يؤدي إلى تحجيم المساعدات الإنسانية الدولية التي يمكن أن تقدم. في حقيقة الأمر، إن ما تمارسه الدولة السودانية في حق المدنيين الآن لا يتوقف عند حدود الفشل في حمايتهم وإنما يتعداه إلى تعمد ارتكاب الجرائم في حقهم، وهو ما يتجاوز خيال من صاغوا قواعد مسؤولية الحماية وربما يتطلب إضافة ركيزة رابعة تتناول، ليس فشل الدول، وإنما تعمدها انتهاك حقوق مواطنيها في الحماية.

abuhisham51@outlook.com
/////////////////////////

 

 

آراء