سمونا سمونا

 


 

 

الذي مر بعهود الديمقراطية الأولى والثانية والثالثة وما بينهما يكون قد خبر ان السودان كان في مصاف الدول الغربية اذ كان هناك ارتباطا وثيقا ما بين الامبراطورية التي لا تغب عنها الشمس وبلدنا وجديرا بالذكر انها سميت هكذا لامتداد مستعمراتها في معظم أنحاء الكرة الارضية..... لكن المتابع للأمر قد يدرك أن الاسم قد تراجع الآن وصارت تغب عن الامبراطورية الشمس وتشرق بانتظام لقلة امتدادهم الجغرافي، ولكنهم خلفوا نظاما استفادت منه مستعمراتهم من الدول والسودان ليس باستثناء وان لم تستمر جهودهم تلك كثيرا للجهود المناوئة للاستعمار التي بذلها أجدادنا و “كرهوهم القعدة” وقتلوا غردون و“بشتنوهم” الى أن تم جلائهم من السودان.

لكن لا يمكن أن يختلف اثنان على أن معظم الانشاءات الكبيرة تمت في عهدهم وانتظم نظاما للدولة يضاهي أعرق الدول ونقله السودانيين الى ما جاورهم من الدول العربية واستمر داخليا ذلك النظام لفترة حتى قضى الجيل الذي تربى على نظام الانجليز فضربت الفوضى أطنابها وان لازم بعد ذلك محاولات متصلة للنهوض بالأخلاق والغيرة على الدولة وحفظ المال العام ولكنها دائما ما تصطدم تلك الجهود بواقعنا الذي “يحنن الكافر” ….. فاستعرت الخلافات بين المسلمين في بلدنا وصاروا يكيلون لبعضهم في سباق محموم نحو السلطة والجاه وراح الكثير من مقدرات هذا البلد في الرجلين…

لازمت تلك الفترات التي تطرقت اليها نسقا للحياة فيه الكثير من التشبه بحياة الغرب…فكان الموظفين لا يجدون حرجا من الالتقاء في قهوة “اتني” مساء ثم ينتقلون الي الناحية الثانية عندما “يجن” الليل ويتوزع غيرهم على حانات البلد المنتشرة في الخرطوم كل حسب شلته وموقعها الجغرافي ولم تسلم حتى نوادي المؤسسات من “نظاميها” الي “مدنيها” من تلك الخدمات فكانت كالهرمونات التي تسّير الموظفين والتجار وتكسر الحواجز بين الناس ولم نسمع بمهدد وقتها… واستمر الحال حسب فئات الناس العمرية حتى يصلوا الي "العشرة الأواخر" ليغادر بعدها الشخص بهدوء ولكنه يكون قبل ذلك قد تعلم وعلم وعمل، وتعرف وخبر ونصح بعد أن حج بيت الله وضمن لأولاده مأوى في احدى مدن العاصمة أو الأقاليم…..

تطورا طبيعي مر به الكثير من موظفي تلك العهود الى أن زال بريق الموظفين وحلت فئات جديدة في مكانهم وأنزلتهم الى الدرجات السفلي من مواطني السودان.
كان لسان حال الكثيرين منهم في ذلك الوقت

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
لو مسها حجر مسته سراء
قامت بإبريقها والليل معتكر
فلاح من وجهها في البيت لألاء
فأرسلت من فم الإبريق صافية
كأنما أخذها بالعين إغفاء
رقت عن الماء حتى ما يلائمها
لطافة وجفا عن شكلها الماء
فلو مزجت بها نوراً لمازجها
حتى تولد أنواراً وأضواء
دارت على فتية دان الزمن لهم
فما يصيبهم إلا بما شاؤوا
لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلة
كانت تحل بها هند وأسماء
حاشا لدرة أن تبنى الخيام لها
وأن تروح عليها الإبل والشاه
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة:
حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء
لا تحظر العفو إن كنت امرءً حرجاً
فإن حظرته بالدين إزراء (أبو نواس)

ولكن بعض الشعراء قد حذروا أولئك المنغمسين للثمالة من مغبة ذلك و قالوا

الماء في حياة الناس كلهم ++ وفي النبيذ اذا عاقرته الداء
أما النبيذ فقد يزري بصاحبه ++ ولا أرى شاربا أزرى به الماء

و قال جرير وهو يهجو شارب الخمر بأنها تصور لشاربها خيالات وتدخلهم في مواقف محرجة:

شربت الخمر بعد أبي غويث ++ فلا نعمت لك النشوات بالا
تسوف التغلبية وهي سكرى ++ قفا الخنزير تحسبه غزالا

فقد حسب الخنزير غزالا وذلك لعمري لمرحلة متقدمة من الشرب كان يقوم بها بعض الناس فيثيرون المشاكل في البيوت والحفلات والنوادي- وواحدين بنوموا وينسوا ما كان من أمر ليلة البارحة ولكن كان هناك من في الحانات من يعرف أولئك الموظفين لقلتهم ويستطيع أي سائق تاكسي من تسليم ذلك النائم الى أهله سويا…. ولا ينقص من محفظته العمرانة درهما… فيوم غد قريب ينال ما استحق مع الشكر تاني يوم. وهناك من كان يتمنى الوصول الى تلك المرحلة عندما أشار الأولاد لأبوهم منددين بشخص ثمل لا يستطيع حراكا منتظما فقال الأبو…(يا ولدي أنا من زمان متمني لي وقعة زي دي)

ولم يفوت البعض ذلك الخدر اللذيذ والذي قيل تحدثة الخمرة وأطلقه الشعراء على أحاسيسهم فمنهم من قال

بت أشكوه لنجم في الليالي لمع
و لغيم عندما رق لحالي دمع
و لطل فوق زهر كالآلئ جمع
يا نديما عب من كأس الصبا و سقاني
ثم عاف الكأس عاف الملعب

وآخر قال:
قوم نرتشف خمر الهوى — ونذكر احاديث الغرام
علي شاطئ النيل السعيد
الطقس معتدل الهوا —– قوم يا حبيبي نمر سوى
في خميلة و العالم نيام
وواحدين قالوا القبلة السكرى واللون الخمري وآخرين وزعوا كاسات الهوى وواحدين طالبوا بملء الشراب لي حافة الكأس…. فلم تندثر تلك الأغنيات والأهازيج الى أن جاء الجزء الأخير من عهد أب عاج وكسرت تلك القناني على شط النيل ودخلت البلاد في منعرج جديد ما زال يؤرخ ببداية المرحلة بين (ق ش) و (ب ش) أي قبل وبعد الشريعة ومحاكم الطوارئ فانتشرت الخمور سرا.

وتستمر الحكاية من شرب البزة، الى المياه الغازية فالكحول الى أن تصل الى عدم قدرة الانسان من نهل الماء عن طريق الفم وتضخ المحاليل اليه عبر الوريد والتي عبر عنها ذلك الحاج الذي كان متواجدا في عزاء داخل صيوان و"الواطة قايله" وما يمر ولد بصينية ماء الا وأخذ منها كباية افرغها بشراهة داخل جوفه… فأقلق ذلك ابنه الذي ترجاه أن يكف عن شرب المياه بتلك الكثرة فقال:
“يا ولدي سيبنا وكت قادرين نشربا بخشمنا أحسن منما يدونا ليها بالوريد…………………”

وتلك هي نهاية المواطن و نهاية الحكاية طبعا…

حاشية:
قيل بأن الشراب: أول الخراب، ومفتاح كل باب يمحق الأموال ويذهب الجمال ويهدم المروءة ويوهن القوة، ويضع من منزلة الشريف ويذل العزيز، ويبيح الحرائر ويفلس التجار ويهتك الأستار ويورث الشجار.

فعلا وقيل فيها أكثر من هذا انما كل ما ذكر عاليه لا يتأتى الا من الشخص نفسة متعاطي الخمرة وكيف كانت حالته قبل بدأ الشرب… فالكاظم الغيظ من أحدهم ربما يفتعل مشكلة واهية للانقضاض على فريسته كمن “يخرت” في قمار والا يضرب في حتة لينة …. والحاقد والذي تربى في بيئة غير صحية ربما يستهدف المرطبين ويستفزهم… والظالم والشره قد يكثر في الشرب لكي يصيب جل الشرب فيعود وبالا عليه… والذي يشرب والشمس فوق قد يدمن وينسى عمله وبيته وربما لا يقوى أن يصمد حتى يهجع الناس الى مخادعهم ويكون منظره يجنن في المغرب وهو يتلوى نحو منزله… ولكن هناك رجالا صناديد وتشرفت بالجلوس معهم رغم عدم تناولي لها وكرهي لجلساتها لكن تكون في آخر القعدة كمن قارعتهم كأسا بكأس…. فهناك من يبدو أن الخمرة تطلق لسانهم فتكون “القعدة” كالمباراة في استلام الميكرفون يكون الكل متحفزا للكلام و إطلاق القفشات والنكات و يضحكون…

كان لدينا صديق لا تستطيع التحدث معه في جلسة الا عندما ينشغل بتوليع الكدوس فيهرع الجماعة لخطف الفرصة ولكنه سريعا ما يرجع الميكرفون الى قواعده، وكان لنا صديق طبيب يا ويلك ان جلست معه يوم العمليات حيث يكون مكمما اليوم كله فيفتح فنية (كما في الكاربريترات) .

قبل فرض الشريعة عام 1983 قيل أنها كانت عادة أن يجلس أهلنا الحلفاويين في القرى في الشارع ويطلعوا الكراسي ويتناولون الذي منه فكان أن قامت الشريعة ومر عليهم الشرطي الوحيد في القرية وقال لهم أن الزمن قد تغير وإن بليتم فاستتروا وأقعدوا جوه…

فقالوا له: انت واحد…………حقو تستتر انت.

وآخرين يطربونك بصوتهم الجميل عندما يننعنشوا بينما ينشز الكثيرين عندما يصيحوا “سمونا …. سمونا”

izattaha@gmail.com
///////////////////////////

 

آراء