سنواتي في أمريكا: بلد يشكو كثرة الغزلان .. (12) … بقلم: طلحة جبريل
23 August, 2009
سنواتي في أمريكا: بلد يشكو كثرة الغزلان .. وسنجاب يتقافز في كل مكان حتى داخل البيت الأبيض (12)
طلحة جبريل
talhamusa.com@talha
كانت أيامي في أمريكا تسير على إيقاعين. إيقاع مهني وسياسي راكمت خلاله تجربة ثرة ومفيدة وممتعة أيضاً. وإيقاع اجتماعي عشت خلاله ضجراً شديداً. ضجر جعلني دائماً أطرح على نفسي سؤالاً موجعاً: ما الذي جاء بي أصلاً الى هذه الديار. هذه أصقاع يجب أن يأتيها المرء وهو في سنوات الصبا الباكر ليعيش فيها ترهات الشباب، لكن قطعاً ليس بعد ان يتشكل وعيه في بيئات مختلفة. كانت عندما تأتي الأمسيات أشعر بضيق شديد ، يسقط الليل وكأنه كرة بلاستيكية، وفي كثير من الاحيان أحس أن الكآبة تحيط بي من كل جانب.
عشت الفترة الاولى في حي "كريستال سيتي" في ولاية فرجينيا، وخلال تلك الفترة سعيت جاهداً أن أكمل بعض الكتب التي بدأتها قبل وصولي الى امريكا. كنت في الواقع أريد أن اشغل نفسي بما يفيد بسبب حالة الضجر المسائية. وما زاد الأمر تعقيداً أنني تعرضت لبعض المشاكل الصحية، وتيقنت أن هناك فعلاً مناخات تسبب هذه المشاكل، وبدا لي ان "هواء " امريكا ليس مريحاً، لاحظت ذلك حتى على مستوى الشهية للأكل.
بعد شهور وفصول في الديار الاميركية تباينت من الثلوج والصقيع والاعاصير ، الى الصيف اللاهب والهجير، اكتشفت انني اعيش حياة صامتة حزينة وموجعة، وحيداً خلف جدران شقة لا مؤنس فيها ولا صديق ولا قريب في حي "كريستال سيتي". هذا هو ايقاع الحياة ومذاقها في هذه البلاد . كل شخص مشغول بنفسه ومهموم بتفاصيل حياته. هؤلاء الامريكيون لا يملكون لك سوى كلمة" هاي" واذا كانوا كرماء يقولون لك " كيف حالك اليوم " ولايكترثون للجواب .
ذات مساء من أمسيات " كريسال سيتي" وكنت أقضي معظم الوقت أمام الحاسوب وبدا لي ان اية كتابة غير الكتابة المنفلتة لا تتناسب والحالة التي اعيشها ، أي حالة الحزن الطاغي. جلست اكتب وانقح . كتاباً هو في واقع الأمر ما يمكن ان نسميه "بورتريهات لأمكنة" . وانهمكت في الكتابة عن أمكنة وناس في المغرب.
بعض الكتابات تركتها كما كتبتها في المرة الاولى. لم استطع مغالبة أحزاني وانا اكتب احياناً، لم اتردد في قول كلام صريح احيان اخرى. لا ازعم انها كتابات موضوعية، بل هي قطعاً تحمل شحنة عاطفية ووجدانية لا انفيها . لذلك اخترت عنواناً لذلك الكتاب من كلمة واحدة وهي " حنين" مع عنوان فرعي يقول "200 كلمة خارج الصورة" لان كل قطعة تتتكون من مائتي كلمة فقط. ان لكلمة " حنين" حكاية اخرى في دواخلي . يتعذر علي تماماً الدخول في تفاصيلها لا حاضرا ولا مستقبلاً.
وجدتني اكتب خلف جدران غرفة في منطقة هادئة، في ذلك الحي لا صوت فيها سوى ريح تعبث بأغصان الاشجار ، في بلد ساقتني اليه ظروف لم تكن في الحسبان، ووسط أناس لا يهمهم من أمري شيئاً . لذلك كان طبيعياً ان تكون هناك لحظات تمتزج فيها المرارة بالأسى بالحزن...بالسخرية ايضا.
بعد فترة ليست قصيرة في حي " كريستال سيتي" كان لابد أن أنتقل الى مسكن آخر، شرط أن يكون في مقاطعة " فيرفاكس" في ولاية فرجينيا. لكن لماذا هذه المقاطعة على وجه التحديد؟
كان الدافع الأساسي هو تسجيل ابني " امرؤ القيس" في مدرسة ثانوية مناسبة، بعد أن حصلت على معلومات تؤكد أن ثانويات تلك المقاطعة هي من أفضل المدارس الثانوية ليس فقط على صعيد ولاية فرجينيا بل على صعيد الولايات المتحدة.
كان أن أنتقلت الى ضاحية " شانتيلي" قرب مطار دالاس، وهي ضاحية بعيدة نسبياً من واشنطن، إذ تحتاج الى استعمال حافلة لا تعمل الا ساعات الذروة في الصباح الباكر أو بعد الظهر، لمسافة قد تستغرق ما بين 30 الى 40 دقيقة في بعض الاحيان تبعاً لحركة المرور، ثم بعد ذلك استعمال المترو الى واشنطن في رحلة لا تقل هي الأخرى عن نصف ساعة.
بيد أنها ضاحية جميلة ما تزال تعيش حياة فطرية. الظاهرة الملفتة في ولاية فرجينيا ، وفي عدد كبير من الولايات الاخرى أيضاًً ، هو ظاهرة الغابات والمروج الخضراء والحياة الطبيعية في هذه الأمكنة، وكأن الانسان قد وصلها للتو . ويساعد المناخ الأمريكيين للمحافظة على هذه البيئة الخلابة، إذ ان المياه متوفرة طوال السنة سواء كانت مياه امطار أو أودية جارية.
سكنت في أحد أحياء " شانتيلي" الذي يقطنه أمريكيون بيض. وكان ذلك بمحض الصدفة. هؤلاء عادة ما يسكنون الى جوار بعضهم وعندما يأتي آخرون من إثنيات وأعراق مختلفة للسكن في الحي يتعايشون معهم إذا كان عددهم مقبولاً ، لكن بمجرد ان يتكاثروا ، يشرع البيض في الرحيل نحو أحياء اخرى دون اتفاق مسبق بينهم ، بل هم يتصرفون تصرفاً تلقائياً، لا يخلو بطبيعة الحال من دوافع عنصرية مكتومة.
يتكون الحي من منازل من تلك التي يطلق عليها " تاون هاوس" وهي عبارة عن فيلات صغيرة بحديقة خلفية وتتكون الغالب من طابقين ، صالون ومطبخ في الطابق الارضي ، وغرف النوم في الطابق العلوي.
كانت المروج والروابي الخضراء والغابات تحيط بالحي من كل جانب. ثمة مشاهد طبيعية خلابة تريح النفس وتبعث فيها إنشراحاً. كان هناك ايضاً نهر صغير يمر قرب الحي يكون قبلة للأوز والبط ومختلف انواع الطيور المغردة والارانب البرية والحمام إضافة الى السنجاب وهو ظاهرة امريكا حيث توجد السناجيب في كل مكان بما في ذلك في حديقة البيت الابيض. وتأتي اسراب الغزلان التي تعيش في الغابات المجاورة الى ذلك النهر الصغير خاصة قرب لحظات الغروب.
ولعل من أكبر الظواهر الملفتة في ولاية فرجينيا هي كثرة الغزلان، الذي يكاد حتى في دول مثل بلدنا تتوسطها منطقة السافانا الجاذبة للحيوانات والتي يفترض ان تنتعش فيها الحياة البرية، اصبحت شيئاً نادراً ولم نعد نسع بالغزال الا في اغاني التراث والفلكلور.
لكن في فرجينا تشكو السلطات من كثرة الغزلان، الى الحد الذي تجد لافتات على جانبي الطرق السريعة تنبه السائقين ان الغزلان يمكن أن تقطع الشارع في أية لحظة وتتسبب في حوادث مرورية مميتة.
وقبل سنتين صدرت تحذيرات رسمية من أن حوادث الموت التي تتسبب فيها الغزلان في الطرق السريعة، في منطقة واشنطن الكبرى ( العاصمة وولايتي فرجينيا وميرلاند) اصبحت تشكل معضلة حقيقية. وتشير الاحصاءات التي نشرت آنذك الى ان حوادث المرور تسببت في مقتل 1600 شخص في الطرق السريعة في ولاية ميرلاند وحدها، خلال تسعة أشهر. وفي منطقة فيرفاكس حيث يوجد حي شانتيلي يشاهد السائقون السريعة أحياناً قطيعاً كاملاً من الغزلان في الروابي المخضرة التي تحيط بهذه الطرق. هذه الغزلان لا تركض هاربة عندما تقترب من الطريق، بل تقف في كثير من الأحيان تتأمل السيارات والمارة، ثم تحني رأسها لتقضم الأعشاب. وتسير الغزلان الاميركية، عكس كل غزلان الدنيا، وهي تتمختر وتتبختر عندما تنتقل من الروابي الى داخل الغابات. هذا المشهد البديع يجذب كثيرين. لكن ذلك ليس كل شيء. إذ تساعد البيئة الطبيعية، حيث تنتشر الغابات وتكسو الأعشاب، كل سنتيمتر في فرجينيا طوال العام، على تكاثر وتوالد الغزلان. وتقول جمعية صيد الغزلان في الولاية، إن عدد الغزلان تجاوز 200 الف غزال تسرح وتمرح في غاباتها .
ويسمح للذين يملكون مزارع كبيرة او ضيعات بصيد الغزلان في اي وقت من الاوقات خلال السنة، لكن تمنح رخص الصيد لهواة اصطياد الغزلان وتحدد لهم أمكنة الصيد ومواعيده، ومعظم هذه المناطق على الساحل الشرقي من فرجينيا.
بيد ان تكاثر الغزلان في فيرفاكس ومشهدها الذي يسر الناظرين وهي ترعى في الروابي هانئة البال مطمئنة الخاطر، يشكل الجزء المضيء من صورة البراري الاميركية، إذ هناك الصورة المظلمة، حيث تسببت الغزلان في مآس. إذ لم يعرف كثيرون من سكان ولاية فرجينيا، الذين يتنقلون يومياً للعمل في العاصمة واشنطن على سبيل المثال، أن غزالاً تسبب قبل سنة ونصف في تعطيل حركة السير لأزيد من ساعتين، تلك الغزالة التي انحدرت من جهة نهر بوتماك (يفصل بين واشنطن وفرجينيا)، قفزت الى الشارع مفزوعة من شيء ما، وتصادف ذلك مع مرور سيارة مسرعة قادمة من مطار دالاس تحمل أسرة عائدة من ولاية مينسوتا ، وارتطمت الغزالة بالزجاج الأمامي للسيارة، ونتيجة لقوة الارتطام أصبح جسم الغزالة بكامله داخل السيارة، مما أدى الى مقتل رب الأسرة، الذي كان يقود السيارة، في الحال، في حين نقلت زوجته وطفلاهما الى المستشفى وهم جميعاً في حالة حرجة. هذا الحادث واحد من عشرات الحوادث، التي اصبحت تتسبب فيها الغزلان، التي تقفز بغتة نحو الطرق السيارة، ويصعب في كثير من الاحيان على سائقي السيارات تفاديها، وحتى إذا حدث ذلك فإنه سيرتطم قطعاً بسيارة اخرى، حتى لو كان ملتزماً بالسرعة المحددة بحوالي 80 كيلومتراً في الساعة في الطرق السريعة. واخيراً وزعت ولاية ميرلاند على مستعملي الطرق خريطة تشتمل على 5769 نقطة حمراء، وهي نقاط ترى الولاية أنها تساعدك على ان تجد فيها الغزلان تتقافز امام سيارتك. ولم توزع ولاية فرجينيا خريطة نقاط حمراء، لكنها قالت ببساطة إن الغزلان الشاردة تتسبب في ازيد من الف حادث مروري.
هذا جانب من الحياة الامريكية لا يمكن الانتباه اليه الا إذا عشت داخل المجتمع الامريكي وتغلغلت فيه، لتقف على هذه التفاصيل المثيرة. ومن خلال إقامة حوالي سنتين في حي " شانتيلي" تعرفت على بعض جوانب الحياة الاجتماعية للاميركيين ، وماذا يفعلون من شروق الشمس حتى غروبها.
نواصل
عن "الاحداث"
مقالات سابقة
جميع المقالات السابقة والمنشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط
http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1