سنواتي في امريكا …” الاشكالية تكمن في التعقيدات التي تكتنف القضية الحلزونية” (3)

 


 

طلحة جبريل
20 June, 2009

 

 

 

talha@talhamusa.com

   يقع "مبنى الصحافة الوطني"  قريباً من البيت الابيض، حوالي ثلاث دقائق مشياً على الاقدام. في هذه البناية توجد معظم المكاتب الصحافية للمراسلين الاجانب. وفيها ايضاً " نادي الصحافة الوطني" الذي يقع في الطابق 13 ، هذا النادي من أعرق الاندية الصحافية في العالم، احتفى السنة الماضية بمرور قرن على تأسيسه، نادي يتحدث فيها صناع القرار والاخبار في امريكا والعالم. كما يوجد في المبنى نفسه" مركز الصحافة الاجنبي" وهو تابع لوزارة الخارجية ويأتي اليه يومياً مسؤولون رسميون من مختلف الادارات الامريكية ليتحدثوا الى المراسلين الاجانب.

يتكون "مبنى الصحافة الوطني" من 13 طابقاً، وفي كل طابق هناك عدد من المكاتب تصل احياناً الى 90 مكتباً، ويختلف حجم المكاتب تبعاً لحجم المؤسسة الاعلامية، المؤسسات التي تشغل أكبر عدد من المكاتب هي المؤسسات الكندية ودول جنوب شرق آسيا، خاصة اليابان وكوريا الجنوبية.

 

توجد حالياً أربع مؤسسات عربية في المبنى، وهي قناة " العربية" وصحيفة " الشرق الاوسط" و "وكالة الانباء الكويتية" وصحيفة " الحياة". كانت مكاتب صحيفة" الاهرام" توجد كذلك هنا لكنها اضطرت لاغلاق مكتبها في المبنى بسبب تدهور أوضاعها المالية، وهو الامر الذي انسحب على كثير من مكاتبها في عواصم العالم، والمؤسسة الآن مصابة بالدوار وتترنح.

 

 أمضيت معظم وقتي في واشنطن في مكتب صحيفة " الشرق الاوسط" في الطابق الحادي عشر. يبدأ يوم العمل في التاسعة صباحاً ويستمر في أغلب الاحيان حتى السادسة مساء ،يتخلل ذلك تغطية بعض اللقاءات إما في " نادي الصحافة الوطني" في المبنى نفسه أو في مركز الصحافة الاجنبي، أو في البيت الابيض أو وزارة الخارجية اوالكونغريس ، وكذلك في معاهد " البحث والتفكير" (ثنك تانك) وهي ظاهرة واشنطن. حيث توجد الكثير من هذه المعاهد التي تضم باحثين مرموقين في مختلف المجالات، تعد بمثابة مصانع لتفريخ النخب الامريكية، ولايمكن ان يخلو يوم من الايام دون ان يكون هناك أكثر من لقاء يتحدث فيه صناع القرار في جميع المجالات.

 

يتطلب العمل في واشنطن من اية مؤسسة اعلامية خاصة الصحافة المكتوبة سواء كانت صحيفة او وكالة ، خمسة مراسلين كحد أدنى. إذ لا بد من مراسل معتمد لتغطية أنشطة البيت الابيض الذي يستقبل يومياً ضيفاً زائراً واحياناً أكثر من ضيف،كما يعقد يومياً لقاء مع المتحدث الصحافي باسم البيت الابيض الذي لا يقبل اعتماد مراسل الا إذا حضر على الأقل اربع لقاءات صحافية في كل اسبوع.

 

المراسل الثاني في وزارة الخارجية التي لا تعتمد صحافياً إذ لم يحضر ثلاث لقاءات مع المتحدث الصحافي باسم الوزارة، كما ان هناك يومياً أكثر من زائر أجنبي من مستوى وزير خارجية فما فوق، وهو ما يتطلب الحضور المستمر للمراسل، الأمر نفسه ينسحب على البنتاغون وكذلك على الكونغريس، ونظراً لأهمية ندوات ولقاءات معاهد "البحث والتفكير" يتطلب ذلك قطعاً مراسلاً متفرغاً، وهكذا يصبح المجموع  في حده الأدنى خمسة مراسلين.

 

كنت أوزع يومي في واشنطن بطريقة تتيح حضور أهم اللقاءات، بيد ان حضوري في البيت الابيض كان متباعداً وارتبط بزيارة قادة بعض الدول وعادة ما يدلى الرئيس الزائر والرئيس الامريكي بتصريحات مقتضبة سطغى عليها الطابع البروتكولي، وأطول مدة مكثتها في البيت الابيض كان حين ذهبت الى هناك لاجراء لقاء مع الرئيس الامريكي السابق جورج بوش رفقة أربعة صحافيين آخرين. التقيت الرئيس الحالي باراك اوباما مرتين قبل أن يصل الى البيت الابيض، الاولى عندما كان سيناتوراً وجاء يتحدث في "نادي الصحافة الوطني" عن زيارته لمعسكرات اللاجئين السودانيين في تشاد، والثانية اثناء ذروة الحملة الانتخابية في ولاية ميرلاند

حضرت لقاءات كثيرة في وزارة الخارجية، وأدركت كيف يستطيع  المسؤولون الامريكيون أن يقولوا كلاماً لا يمكن في بعض الاحيان أن تفهم منه أي شيء على غرار" إن الاشكالية تكمن في التعقيدات التي تكتنف القضية ولدينا ما يكفي من المؤشرات التي تدل على أن الأمر يزداد غموضاً لذلك فإن الشكوك تساورنا في فرص حقيقية لتحقيق انجازات تتطلع اليها الاطراف المهتمة أو المعنية" وإذا سألتهم عن أحداث ملتهبة في مكان ما في العالم يقولون لك" نحن نراقب عن كثب التطورات المتسارعة هناك ، كما ان سفاراتنا في المنطقة على اتصال بجميع الاطراف، وبعد أن نتوفر على معلومات دقيقة سنحلل الوضع ونبلور موقفاً واضحاً، ويمكن ان نطلعكم عليه دون إبطاء. إن التطورات متلاحقة لذلك لا بد من التريث" كلام على هذا المنوال يجعلك في بعض الاحيان تعتقد ان لا جدوي من الحضور، لكن ليس الامور دائماً تسير هكذا إذ ان اخباراً مهمة يمكن أن يعلن عنها في اللقاءات الصحافية سواء في البيت الابيض او الخارجية او البنتاغون.

 

كنت أحرص كذلك على حضور لقاءات" مركز الصحافة الاجنبي" وهي في ظني تصبح في كثير من الأحيان أهم من لقاءات وزارة الخارجية لان المسؤولين الامريكيين يأتون الى المركز أصلاً، بغرض التعبير عن مواقف أو تقديم معلومات محددة. أتذكر انني حضرت مرة لقاء مع مسؤول في وزارة الصحة، ولم يهتم أحد بذلك اللقاء، وكان حول " انفلونزا الطيور" كنا ثلاثة صحافيين، صحافي من " صوت امريكا" وآخر من اذاعة مكسيكية، وقال المسؤول إن خبراء امريكيين يوجدون في فيتنام للقيام ببحوث عن المرض، معلناً عن إنشاء "محطات إنذار مبكر" طبية لرصد انفلونزا الطيور في فيتنام وثلاث دول اخرى في جنوب شرق آسيا.

 

كتبت خبراً حول الموضوع ونشر في الصحيفة، ونقلت إحدى الوكالات الخبر منسوباً الى " مراسل الشرق الاوسط في واشنطن". وكان أن تلقيت اتصالات بلا حصر من صحافيين ينتمون الى منطقة جنوب شرق آسيا، يستفسرون عن التفاصيل، كان الأمر مجرد ضربة حظ، لكن ذلك ساعدني في ربط علاقات مع صحافيين من منطقة بعيدة نسبياً.

 حرصت على حضور أهم لقاءات" نادي الصحافة الوطني" خاصة إذ كان المتحدث شخصية أجنبية، وعادة ما تكون لقاءات النادي على مأدبة غداء، وذلك متاح للاعضاء فقط ، كنت حصلت على تلك العضوية في الاسبوع الاول من وصولي الى واشنطن لقاء رسوم تدفع سنوياً.العضوية تتيح لك حضور اللقاءات التي تكون مع شخصيات وازنة على مائدة غداء او أن ترتاد مطاعم النادي بأسعار رمزية. كان الأهم بالنسبة لي أن تكون معظم أنشطة " اتحاد الصحافيين السودانيين في الولايات المتحدة" في هذا النادي. ودخلت هذه الأنشطة السودانية في سجلات أعرق أندية الصحافة في العالم. كما أن أنشطة مغربية مهمة نظمت تحت عضويتي في النادي حضرها مسؤولون مغاربة كبار. سعيداً اقولها.

لابد لاي صحافي في" مبنى الصحافة لوطني" أن يبدأ يومه امام الحاسوب. عادة ما تتهاطل عشرات الرسائل الاليكترونية يومياً على اي صحافي، وإذا اضطرتك ظروف ما على عدم مراجعة صندوق بريدك الاليكتروني على مدار الساعة، هذا سيعني ببساطة ان فيضاً من الرسائل سيغمر هذا الصندوق

وسيلة الاتصال الناجعة في امريكا الآن هي البريد الاليكتروني. إذ يمكنك ان تسدد جميع الفواتير من ايجار الشقة مروراً بفواتير الطبيب وانتهاء بمشترياتك من الاثاث وحتى الأحذية عبر الانترنيت ، كما يمكن ان تتواصل مع كل الجهات من مدرسة الاطفال الى البيت الابيض عبر الايميل. كان أول ما اثار انتباهي ان الاميركيين عموماً يفضلون التواصل عبر الانترنيت، وحتى إذا لم تكن أمام الحاسوب، يمكن ان يكون معك جهاز الهاتف المحمول من نوع " بلاك بيري" الذي تقرأ عليه جميع الرسائل الواردة أو ترسل منه ما تريد من رسائل.

 

الصحافيون الامريكيون يستعلون الهاتف لارسال الاخبار العاجلة الى مؤسساتهم الاعلامية، بل هناك من يرسل تقريراً كاملاً من " بلاك بيري" وهو في قاعة اللقاء الصحافي. بقيت استعمل الجهاز لقراءة الرسائل لكن لم استعمله في ارسال اخبار، اذ ان الطباعة على شاشة صغيرة بحجم كف اليد وباصبع واحد مسألة تحتاج الى دربة ومهارة، ولست من هؤلاء الذين تطورات قدراتهم الطباعية من الطباعة على الحاسوب او " اللاب توب" الى " بلاك بيري" ...ربما جملة واحدة  لكن ليس بعد كتابة خبر دع عنك كتابة تقرير. أتذكر انني جلست مرة في وزارة الخارجية الى جانب مراسل كندي كان يكتب وقائع اللقاء الصحافي مباشرة على هاتفه المحمول من نوع " بلاك بيري" وبدلاًً من متابعة اللقاء الصحافي انشغلت بمتابعة قدرته الفائقة في الطباعة على الجهاز. وفي اغلب الاحيان كان يستمع المراسل الكندي الى المتحدث ويطبع حتى دون ان يرى في شاشة الهاتف الصغيرة. وبعد ان انتهى اللقاء سألته عن الكيفية التي تعلم فيها ان يطبع بهذه السرعة على جهاز " بلاك بيري" وبدل أن يجيب على سؤالي سالني "هل انت من السودان؟" قلت نعم " وكأنه حصل على شيء ثمين قال " آه عظيم هل لك دراية بأزمة دارفور؟" قلت " نعم" ثم اضاف " هل انت من الأقليم؟" قلت أنا من أقليم آخر ، لكن ما علاقة الطباعة على " بلاك بيري" بمشكلة دارفور؟" أجاب ضاحكاً فقط كنت اريد صحافياً من السودان لاننا نحتاج كثيراًً ان يعلق لنا على الاحداث هناك. هذه التعليقات لمعلوماتكم تدفع عليها تعويضات محترمة.وسأعود الى هذه المسألة لاحقاً.

 

سألت الصحافي الكندي طيب والطباعة على " بلاك بيري" ؟ قال هذه بسيطة هناك موقع على الانترنيت يعلم ذلك، وزودني بعنوانه. أصدقكم القول لم ازر هذا الموقع قط. طبعاً تبادلنا بطاقات العمل، وهذه عادة متأصلة في امريكا.

 

إذا اراد الامريكي ان يربط معك علاقة يمد يده مصافحاً ويقول" اسمي جون وانت" وعليك انت تذكر له اسمك واذا زودك ببطاقة الزيارة حيث أرقام هواتفه وعنوان البريد الاليكتروني وبالطبع عمله، عليك ان ترد بالمثل، اي ان تقدم له بطاقة مماثلة.

 

المكاتب الامريكية في معظم الأمكنة مفتوحة وفي بعض الاحيان هناك حواجز خشبية قصيرة، لذلك يفضل الامريكيون ان يتواصلوا عبر الايميل حتى لو كانوا يجلسون قرب بعضهم بعضاً وفي مكتب واحد، ويتفادون الاتصالات الهاتفية وحتى إذا تحدثوا في الهاتف يكون ذلك بصوت خفيض. لم يحدث على الاطلاق ان سمعت امريكياً يزعق في الهاتف، هذه تركوها لشعوب العالم الثالث.

 

لذلك ومنذ أيامي الاولى كنت اتواصل مع زملائي في " الشرق الاوسط" ونحن في مكتب واحد عبر الايميلات. واحياناً نتبادل حتى الطرائف. لذلك اذا وجدت امريكياً يضحك وهو أمام الحاسوب أو منكفيء على هاتفه المحمول، تأكد أنه يقرأ  نكتة او حكاية طريفة. وهم في الغالب جادون ولايميلون الى المزاح، لذلك وجدت صعوبة في أيامي الاولى عندما كنت أمزح معهم. من خلال اللقاءات الصحافية رحت أتعرف قليلاً قليلاً على إيقاع الحياة ومذاقها في عاصمة تصنع أخبار العالم .

  

عن"الاحداث"

   

مقالات سابقة

 

جميع المقالات السابقة منشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى ، ويمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط

 http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1 

 

آراء