سنواتي في امريكا..الجواز الأخضر يحظر عليك التجول والسفر (2) … بقلم: طلحة جبريل

 


 

طلحة جبريل
14 June, 2009

 

talha@talhamusa.com

 

 

توالت ايامي بطيئة متثاقلة في حي "كريستال سيتي". يقع هذا الحي قريباً من ضفة نهر" بوتاماك "الذي يفصل واشنطن عن ولاية فرجينيا المجاورة، والحي على بعد دقائق من البنتاغون. شيد الحي في وقت كانت فيه الحرب الباردة في ذروتها. ربما كانت الفكرة الاساسية ان يجد العسكريون سكناً قريباً عندما يمضون فترة ما في البنتاغون المقر الضخم الذي تدار منه الجيوش الامريكية المنتشرة حول العالم. يراقب الحي مراقبة امنية لصيقة لكن دون أن يثير الأمر انتباهاً. لا اتذكر انني رأيت سيارة شرطة تجوب الشوارع. لاتوجد في امريكا اصلاً دوريات راجلة حتى يراها المارة، إذ ان كل شرطي يقود سيارة مزودة بجهاز كومبيوتر توجد فيه جميع المعلومات التي يحتاجها.

 

توجد اسواق تجارية ومرافق خدمات تحت بنايات"كريستال سيتي" ، ويقال إنها شيدت هناك حتى إذا تعرض البنتاغون الى قصف أو هجوم خلال سنوات الحرب الباردة يمكن ان تكون هناك مدينة كاملة تحت الأرض، وهي بالفعل اقرب ما تكون من مدينة.

 

تستغرق رحلة الميترو ما بين " كريستال سيتي" ومحطة "ميترو سنتر" في واشنطن حوالي  20 دقيقة. هذه المحطة هي الاقرب الى "بناية الصحافة" حيث توجد مكاتب حوالي 900 مؤسسة صحافية. وهي بناية تحتاج الى موضوع منفصل.

 

الميترو ليس مكاناً هادئاً  فقط، بل يمنع فيه الأكل وتناول المشروبات كما تمنع الموسيقى وأجهزة البث الاذاعية، وبطبيعة الحال التدخين، الذي حاصره الامريكيون حصاراً ناجحاً الى حد أصبح فيه المدخنون مثل المنبوذين، يضطرون ان يهبطوا من مكاتبهم حتى لو كانت في الطابق الثلاثين الى الشارع  للتدخين. هناك من يضطر الى البقاء فترة أطول في الشارع حتى يدخن سيجارتين متتاليتين. ويمنع منعاً كلياً التدخين داخل البنايات في واشنطن، وهناك عقوبة بالغرامة ضد المخالفين يمكن أن  تتدرج الى السجن إذا تكررت المخالفة. بيد انني لم اسمع أو أقرأ ان امريكياً مثل أمام المحكمة بتهمة مخالفة قانون عدم التدخين داخل إحدى البنايات. الامريكيون في الغالب يحترمون القانون، لكن من لا يحترم القانون يفعل ما يشيب له الولدان.

 

ناس امريكا ليسوا سوى رقم في اجهزة الكومبيوتر، لذلك حتى تصبح رقماً داخل "السيستم الامريكي" لابد أن تحصل على رقم "تأمين اجتماعي" لكن قبل أن تصل الى هذه المرحلة هناك رحلة طويلة.

 

نحن أصحاب الجواز الاخضر يطلب وزير داخليتنا " باسم جمهورية السودان من جميع اصحاب الاختصاص أن يسمحوا لحامل هذا الجواز والذي هو سوداني بحرية المرور بدون تأخير وان يقدموا له كل مساعدة وحماية قد يحتاجها"  لكن حملة جوازنا العتيد لا يستطيعون اصلاً دخول امريكا إلا بشق الأنفس، إذا لم يكن الامر يتعلق باللجوء السياسي أو قرعة الهجرة (اللوتري)، وحين تمنح لنا تأشيرة دخول صحافية تكون صالحة لمدة ثلاثة اشهر ولمرة واحدة  فقط ويطلق عليها بالانجليزية" آي فيزا"، وهي تسمح لك بالاقامة في امريكا، لكن اذا سافرت خارج الولايات المتحدة لابد أن تحصل على تأشيرة جديدة وبالشروط نفسها. لهذا السبب كنت اتجنب مغادرة واشنطن. ذات مرة وجه البنتاغون دعوة الى مجموعة منتقاة من الصحافيين وكان ذلك قبل حوالي ثلاث سنوات، لزيارة معتقل" غوانتانامو" سيء السمعة. كنت ضمن الذين وجهت لهم الدعوة. طرحت مشكلة التأشيرة على الجهة التي وجهت الدعوة، ذلك ان خليج غوانتانامو له وضعية خاصة إذ انه ليس جزءً من الاراضي الاميركية وهي قطعة أرض مستأجرة من الكوبيين لمدة 99 سنة، وبالتالي كان سفري الى هناك يعني قانونياً انني " خرجت من الأراضي الامريكية" ولابد من الحصول على تأشيرة. لكن المعضلة هو من اين أحصل على هذه التأشيرة . حاولت الجهة المنظمة للرحلة، وهي " البنتاغون" وما أدراك ما "البنتاغون" أن تجد حلاً ، واقترحوا علي بعد انتهاء الزيارة إما السفر الى كندا أو المكسيك، على اساس انهم سيوجهون قنصلياتهم في البلدين بإصدار تأشيرة دون إبطاء في اليوم نفسه ، بيد انني اصطدمت بمعضلة اخرى ، وهي ان جوازنا الأخضر يحتاج الى تأشيرة دخول لهذين البلدين ، وسلطاتهما لا تمنحك تأشيرة دخول الى اراضيها إذا لم تكن لديك تاشيرة دخول الى الولايات المتحدة متعددة الاسفار. كانت لدى الجهة المنظمة رغبة ملحة ان تكون الصحيفة التي اعمل معها موجودة في هذه الرحلة، لكن الرغبات شيء والواقع شيء آخر. وفي نهاية المطاف اقترحت عليهم دعوة أحد الزملاء من لندن لينضم الى المجموعة التي ستقوم بالرحلة.

 

كان وضعاً شاذاً، ان تكون في امريكا ولديك اقامة دائمة، لكنك لا تستطيع الخروج منها وإذا خرجت يحتمل ان لا تعود. والمشكلة الأكثر تعقيداً أن السفارة الامريكية في الخرطوم لا تصدر تأشيرات لحملة الجواز الأخضر الذي يطلب وزير الداخلية "من جميع اصحاب الاختصاص أن يسمحوا لحامل هذا الجواز والذي هو سوداني بحرية المرور بدون تأخير" لذلك يضطر السودانيون السفر الى القاهرة للحصول على هذه التأشيرة إذا كان حظهم طيباً. وفي المرتين التي خرجت فيه من امريكا كنت مضطراً للمرور من المغرب، وهذا بلد أعرفه ويعرفني ، وعلى الرغم من ان اقامتي انتهت عملياً هناك ، لكن المغاربة ظلوا كرماء. كنت بمجرد وصولي الى الرباط يصدرون لي في اليوم نفسه " بطاقة اقامة دائمة" حتى استطيع الحصول على تأشيرة دخول الى اميركا.

 

عندما كنت استعد للسفر من لندن الى واشنطن، وبعد ان حصلت لي " الشرق الاوسط" على تاشيرة بشق الأنفس بواسطة مكتب محاماة في لندن، توادعت مع الصديق الطيب صالح، في محطة قطارات الانفاق "هولبورن"  وكان برفقتنا محمد الحسن احمد رحمهما الله .كانت تلك آخر مرة التقي فيها الرجل، سألت الطيب " يا شيخ  الطيب بماذا توصيني قبل أن ابدأ هذا الرحلة الامريكية" وأجاب بصوته الهاديء العميق الذي ما يزال يرن في أذني وكان ينتقي كلماته وكأنها قطعاً اثرية " لا تجعل رحلتك تطول في اميركا ولا تتخلى عن جوازك" أجبت مستغرباً " كيف اتخلى عن جوازي وقد حملت أزرقه وأخضره وحتى المزور منه قرابة 30 سنة؟" ورد قائلاَ " يا شقي الحال امريكا دي مصيبة".

 

لكن لا تظنوا انني سكت على مشاكل هذا الجواز الذي ظل ابناء الوطن يتجرعون بسببه المهانات. اتصلت بثلاث منظمات وهي "هيومان رايت واتش" و " لجنة حماية الصحافيين في نيوورك" و "مراسلون بلا حدود" وارسلت الى المنظمات الثلاثة صورة من قرار القنصلية البريطانية في نيويورك ترفض فيه منحي تأشيرة دخول والتبرير ان لدي تاشيرة دخول مرة واحدة الى اميركا ولا يوجد ضمان بعودتي بعد انتهاء الزيارة الى لندن، على الرغم من ان المقر الرئيسي للصحيفة يوجد في العاصمة البريطانية. أوفدت " هيومان رايت واتش" و" لجنة حماية الصحافيين" كل على حدة مندوباً عنهما، استمعا مني لكل التفاصيل. اعتبرت المنظمتان انها "قضية حقيقية" وفي رأيهما انه لا يجوز حرمان صحافي من مغادرة امريكا لانه لا يستطيع أن يحصل على تأشيرة عودة. وما تزال المنظمتان وحتى يومنا هذا تجريان اتصالات مع إدارة الهجرة الامريكية حول الموضوع.

 

كان علي في ايامي الاولى ان احصل على بطاقة "مركز الصحافة الاجنبي" التابع لوزارة الخارجية الاميركية وهي البطاقة التي تقول إنك أصبحت معتمدأً لدى الوزارة لممارسة المهنة.استلمت تلك البطاقة في اليوم نفسه. كانت الخطوة التالية هي الحصول على رقم " الضمان الاجتماعي" وهذه تطلبت عدة أشهر، وفي كل مرة كنت أراجع الادارة المختصة اسمع أن" الطلب قيد الدراسة والبحث" لم يكن ذلك تسويفاً، إذ ان كلمة " تسويف" لا وجود لها في قاموس الادارات الامريكية، إما ان طلبك يستوفي الشروط القانونية، اوأنه ليس كذلك.

 

ومن سوء حظي ان الطلب كان في يد أحد المهاجرين الجدد الذي نال الجنسية الامريكية حديثاً، وهؤلاء يمكن أن تجد فيهم شخصاً خيراً يتعاطف معك ويحاول أن " يتوسل" للحاسوب الذي امامه لكي يجد لك مخرجاً، أو شخصاً سيئاً، يمكن أن يتعمد حشو هذا الحاسوب بملاحظات تعقد الأمر.

 أختم هذه الحلقة بواقعة لها علاقة بهؤلاء الذين يكتسبون جنسية بلد ما ثم تتحكم في تصرفاتهم ترسبات بل وحتى مشاعر عدائية ضد " الشعوب " التي كانوا ينتمون اليها. هذه الواقعة حدثت لي في مطار هيثرو في مطلع الثمانينات وكنت ازور لندن لاول مرة ، شاء حظي العاثر ان اجد نفسي امام ضابط جوازات من السيخ. عرفت ذلك من العمامة التي لا ينزعها هؤلاء القوم مطلقاً. تفحص الضابط "البريطاني" والذي هو في الواقع من "السيخ " الجواز والتأشيرة التي عليها ثم سأل " ماذا تريد ان تفعل في بلدنا" وزاد قائلاً " هل لديك دعوة من مواطن بريطاني لزيارة بلدنا " وبنزق الشباب أجبته متسائلاً " بلدك؟ يا صديقي انا من السودان وانت من الهند، وكلانا أحتل البريطانيون بلدينا، كيف إذن تقول بلدي" وبدا لي هذا الجواب لا يكفي لذلك زدت قائلاً وبغيظ شديد" يا صديقي أنا على يقين بان اجدادي لم يوجهوا الدعوة الى البريطانيين لكي يبقوا في بلدي أزيد من نصف قرن، اذن لماذا أنتظر دعوة من شخص بريطاني" لم يعلق الرجل على هذه الكلام ، لكن الأمر تطلب مني الانتظار حوالي ست ساعات حتى سمح لي بالدخول. انا على يقين ان صديقي مصطفى البطل سيقول بعد أن يقرأ هذه الواقعة كلمة واحدة" تستاهل".   

عن"الاحداث"

 

مقالات سابقة

  

جميع المقالات السابقة منشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى ، ويمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط

 http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1 

 

آراء