سنواتي في امريكا: ديبلوماسية الكوكاكولا والبيبسي كولا (24)

 


 

طلحة جبريل
15 November, 2009

 

talha@talhamusa.com

 

خلال سنواتي في امريكا تعاقب على سفارة السودان في العاصمة الامريكية ثلاثة سفراء. ظلت علاقة البلدين على مستوى قائم بالاعمال لكن تولى المنصب ديبلوماسيين بدرجة سفير. والثلاثة طبقاً للمصطلح الديبلوماسي" تعيين سياسي" اي انهم ليسوا من الديبلوماسيين المحترفين الذين يتدرجون درجة درجة الى أن يصلوا منصب سفير.

كان السفير الاول هو خضر هارون . علاقتي معه كانت علاقة عادية، اي العلاقة التي يمكن ان تربط صحافي مع سفير، دعاني في بعض المرات الى مقر اقامته للقاء شخصيات سودانية زائرة.

كان السفير الثاني هو جون اكيج . جاء اكيج الى واشنطن باعتباره ينتمي للحركة الشعبية. كان طرفا اتفاقية نيفاشا اتفقا أن يتولى سفير تعينه الحركة الشعبية إما سفارة في لندن أو واشنطن. وتنازل حزب المؤتمر الوطني عن سفارة واشنطن للحركة الشعبية لقاء سفارة لندن. ليس لدي معلومات يعتد بها في هذا الجانب، لكن منطق الاشياء  يقول إن السلطة الحاكمة في الخرطوم كان عليها ان تحتفظ بسفارة واشنطن حتى لو تنازلت عن عشرات السفارات، ذلك ان مشكلة النظام الاساسية هي مع الادارت الامريكية ، اما بريطانيا التي لا تعدو أن تكون "دولة ذكريات" بالنسبة للسودانيين، لم تعد تلعب اي دور خارج نسق السياسة الامريكية ، ومنذ عهد مارغريت تاتشر ورونالد ريغان اصبحت لندن تقتفي أثر السياسة الامريكية شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً. وبدا لي أن قرار السلطة الحاكمة في الخرطوم في التنازل عن سفارة واشنطن يتسم ليس فقط بقصر النظر ، بل ربما أكثر من ذلك.

لا أعرف ما هي ملابسات اختيار جون اكيج سفيراً ضمن حصة الحركة الشعبية من السفراء ، لكن المؤكد أن لام أكول وزير الخارجية آنذاك لعب دوراً في ذلك التعيين. جاء اكيج الى واشنطن وعقد سلسلة لقاءات مع الجالية السودانية في العاصمة الامريكية،وحظي باستقبال ملحوظ من أعضاء الحركة الشعبية في المنطقة ، لكن سرعان ما برزت الى السطح خلافات حادة بين السفير الذي أصبح ينتمي "نظرياً" فقط للحركة الشعبية ونشطاء التنظيم في العاصمة الامريكية. ثم ما لبثت أن تعقدت الامور الى درجة ان الحركة الشعبية قاطعت السفير اكيج. وبات الوضع في غاية التعقيد.

التقيت السفير اكيج في بعض المناسبات، لكن ساكتفي بالحديث عن واقعتين. الاولى تبين الى اي مدى وصلت العلاقة المتوترة بين الحركة الشعبية وما يفترض انه السفير المحسوب عليها في واشنطن.

جرت تلك الواقعة في يونيو 2007 ، يومها انسحب السفير جون اكيج من ندوة صحافية نظمتها رابطة المراسلين العرب في واشنطن، كان يفترض ان يشارك فيها الى جانب ازيكل لول غاتكوث رئيس بعثة حكومة الجنوب في العاصمة الامريكية، للحديث عن الحظر الذي أعلنه الرئيس الاميركي جورج بوش ضد السودان ومشكلة دارفور والعلاقات بين الشمال والجنوب. وقال السفير جون اكيج وهو يعلن انسحابه من الندوة الصحافية إنه لم يكن يعلم بانه سيكون على المنبر نفسه مع ازيكل لول غاتكوث، وقال موجهاً حديثه للمراسلين "انتم تريدون التلاعب بصفتي الدبلوماسية". والسودان هو الدولة الوحيدة في العالم الذي تمثله عملياً بعثتين في واشنطن، الأولى السفارة وهي بعثة دبلوماسية بدرجة قائم بالاعمال يرأسها السفير أكيج، أما الثانية فهي بعثة جنوب السودان، التي افتتحت مقراً لها في العاصمة الامريكية عام 2006، وهي بعثة ليست لها حصانة دبلوماسية كاملة لكنها تعامل مثل "سفارة" .

خحضر ازيكل لول غاتكوث الى حيث ستعقد الندوة الصحافية وفي الموعد المحدد، ترافقه جيهان دينق مديرة مكتبه، ثم حضر بعد ذلك السفير أكيج يرافقه الملحق الإعلامي في السفارة سيف الدين عمر وتبادل الرجلان التحية، وبعد كلمة ترحيب من رئيس رابطة الصحافيين العرب بكليهما، اشار الى ان كل من الرجلين سيتحدثان بضع دقائق ثم بعد ذلك يفتح باب الأسئلة والأجوبة، واقترح ازيكل ان يجرى الحوار بالانجليزية. هنا بادر السفير اكيج الى التساؤل حول دوافع دعوته للندوة الصحافية في حضور رئيس بعثة حكومة الجنوب، مشدداً على انه هو السفير الوحيد الذي يمثل السودان (الجنوب والشمال) في امريكا، وقال إنه لا يعرف في أي إطار سيشارك في الندوة الصحافية وما هي اغراض رابطة الصحافيين العرب من تنظيمها بهذه الطريقة، وعقب رئيس الرابطة على تساؤله بان السفارة السودانية كانت تعلم طبقاً للاتصالات التي أجرت معها بانه سيشارك مع رئيس بعثة جنوب السودان في ندوة صحافية. ورد السفير اكيج بانه لم يخطر بذلك، وقال محتداً "لا يمكن ان تعملوا على خلق المشاكل بيننا" واضاف تعقيباً على دردشة سبقت الندوة حول ان السودان وفلسطين هما الآن الدولتان العربيتان اللتان توجد بهما حكومتان "لا يمكنني أن اقبل مزاحكم ... انتم تعالجون الامور بطريقة سيئة"، وزاد وقد استشاط غضباً "انا لا اقبل ما يحدث لذلك سأنسحب".

ثم خرج السفير من القاعة يرافقه الملحق الإعلامي للسفارة، في حين بقي ازيكل غاتكوث ، وعندما طلب منه التعليق على الموضوع، اشار الى ان "اتفاقية نيقاشا" نصت على تمثيل حكومة الجنوب في عدد من العواصم ببعثات لاعلاقة لها بالسفارات  السودانية وعددها 18 بعثة، وقرأ فقرات من الاتفاقية التي تشير الى ذلك. وشكك ازيكل في انتماء السفير اكيج للحركة الشعبية وقال إنه لم يكن في الجنوب الا لفترة محدودة اثناء الحرب، وزاد "اتساءل اذا كان هو بالفعل عضو في الحركة الشعبية".

كنت الصحافي السوداني الوحيد الذي حضر تلك الواقعة. وبعد انتهاء الندوة طلبت مني بعض وسائل الاعلام التعقيب على ما حدث. وقلت بالحرف" أنني حزين جداً لما وقع " وقلت أيضاً " لقد انتقدت دائماً اتفاقية نيفاشا التي لم تكن لها سوى نتيجة واحدة هي ايقاف الحرب بين الشمال والجنوب ، لكن ما حدث اليوم يؤكد كيف أن تطبيق الاتفاقية تشوبه عيوب لا تقل عن عيوب الاتفاقية نفسها".

وجرت الواقعة الثانية في نادي الصحافة الوطني في واشنطن. يومها عقد السفير جون اكيج ندوة صحافية للتعقيب على قرار الرئيس جورج بوش بتشديد العقوبات على بلادنا، وهي عقوبات قلت عنها لبعض وسائل اعلام الامريكية بانها بمثابة " زئير فأر"  وإنها قطعاً لن تؤدي الى اسقاط النظام في الخرطوم ، بل ستزيد معاناة الشعب السوداني. خلال الندوة الصحافية تحدث السفير اكيج وأفاض وأسهب في  أمور لا علاقة لها بصلب الموضوع، وكان من بين ما قاله إن السودان يمكن أن يفرض عقوبات على امريكا. واشار في هذا الصدد الى أن شركات الكوكاكولا والبيبسي كولا تعتمد على الصمغ العربي ضمن المواد الاولية التي يصنع منها المشروبين، وألمح الى ان ايقاف تصدير الصمغ العربي قد يؤدي الى خسائر كبيرة للشركتين. كان السفير يضع امامه زجاجة كوكاكولا، ظل يحركها اثناء الندوة الصحافية. وفي اليوم التالي خرجت صحيفة " واشنطن بوست" بتغطية لتلك الندوة نشرتها في نصف صفحة لكن في صفحتها المخصصة للتغطيات الساخرة ، وركزت على موضوع زجاجة الكوكاكولا.  كتبت تلك التغطية بلغة ساخرة تنضح بالتهكم على السفير.

وبعد فترة قصيرة نقل السفير جون اكيج الى جنيف المقر الاوربي لمنظمات الامم المتحدة. وتم تعويضه بالسفير أكيج كوج الذي سبق له ان عمل ممثلاً للحركة الشعبية في باريس ، وعين بعد نيفاشا نائباً لرئيس البعثة السودانية لدى الامم المتحدة. التقيت بالسفير أكيج كوج عدة مرات حين كان ينظم لقاءات بمناسبة زيارات وفود سودانية لواشنطن في مقر اقامته، وكان واضحاً انه يحظى بدعم كامل من طرف الحركة الشعبية عكس سلفه.

لم تقتصر علاقاتي مع سفارة واشنطن على السفير، بل كنت ربطت قبل ذلك علاقات ذات طابع اجتماعي مع الديبلوماسيين في السفارة.كان موقفي داخل اتحاد الصحافيين السودانيين مؤداه ضرورة ابقاء جسور العلاقات مع السفارة وإن من موقع المعارضة. وكان ذلك ايضاً موقف الصديق حسن الحسن عضو اللجنة التنفيذية، في حين تحفظ باقي اعضاء اللجنة على هذا الموقف. وعلي القول الآن إنني احترمت موقفهم وهم بالمقابل احترموا وجهة نظري.

كان لدي علاقة قديمة مع الصديق السفير نصر الدين والي الذي نقل من بعثة الامم المتحدة الى سفارة واشنطن. وكان وقتها برتبة وزير مفوض. كانت علاقتي مع السفير والي ذات طبيعة اجتماعية.

تعرفت عليه عندما جاء الينا في الرباط وهو بعد سكرتير ثالث في بداية مشواره الديبلوماسي. اقام وقتها علاقات طيبة للغاية مع أفراد الجالية السودانية في المغرب، والواقع انه نسج علاقات مع تلك الجالية الصغيرة على الرغم من أن بعضهم ، وكنت أحدهم، ظلت علاقتهم مع السفارة فاترة جداً إن لم أقل منعدمة لاسباب سياسية. وخلال فترة وجيزة أصبح نصرالدين والي يشكل جسراً بين السفارة وتلك الجالية. وفي واشنطن بقيت علاقتنا الاجتماعية بمنأى عن اية اعتبارات اخرى.

كان الاخ خالد موسى من أكثر عناصر السفارة التي تتحرك وسط الجالية وظل حاضراً باستمرار في مناسباتها، لكن على الرغم من ذلك كانت تلك التحركات تقابل بالكثير من الشكوك وليس قليلاً من الظنون. وبالطبع كانت مسألة العلاقة مع" جهاز الأمن" جاهزة تلوح في كل وقت.

ولم يكن خالد موسى يعبأ بهذا الكلام الذي يقال في كل مجلس وكتب في أكثر من موقع، كان يأتي الى الأنشطة ببرودة أعصاب يدافع عن أطروحات النظام بلغة المثقفين وليس بمنطق الأمنيين. واستطاع عبر هذا الاسلوب نسج علاقات مع كثيرين ، وخاصة مع الفاعلين السياسيين. كان سلوكه يتسم برحابة الصدر وفيه أيضاً الكثير من سماحة السودانيين.

كانت لدي نقاشات سياسية طويلة ومتشعبة مع الاخ خالد موسى، و لم يكن يهمني ما يقال أو ما يكتب عن الرجل، طالما أنني اقول ما أعتقد في المحافل العامة أو في الجلسات الخاصة، بل قلت ما أعتقد داخل السفارة وفي مقر السفير. وفي ظني ان الخصومة السياسية عندما تكون واضحة تحت الشمس ، تريح صاحبها وتجبر الآخرين على احترام وجهة نظرك. ذلك كان ظني واعتقادي منذ أن وجدت نفسي " في السياسة" وليس " من أجل السياسة".

هكذا كانت علاقتي مع السفارة السودانية في واشنطن، وحين اقام لي السفير  أكيج كوج مأدبة غداء  لتوديعي ، وهي مأدبة تحمس لها الملحق الاعلامي سيف الدين عمر بل لعله كان من بادر ، قلت بوضوح وامام السفير وطاقم السفارة وبعض أعضاء اتحاد الصحافيين السودانيين الذين لبوا الدعوة " انني سعيد بالمبادرة لانها المرة الاولى التي تحدث من طرف سفارة سودانية " وقلت أيضاً إن الوضع الطبيعي أن تكون سفاراتنا جزء من الوطن، كما قلت إن موقفي من النظام لم يتغير قط، وانني سابقى ضد الأنظمة الشمولية ما حييت" قلت ذلك دون تزيد في القول أو تفاخر في واجب تجاه وطن والتزام مبدئي مع أهله. 

نواصل

 

 

عن "الاحداث"

مقالات سابقة

جميع المقالات السابقة والمنشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى  يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط

http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1

 

 

آراء