سنواتي في امريكا: رسبت اربع مرات في امتحان رخصة القيادة.. وانا ابن السائق
5 September, 2009
(14)
talha@talhamusa.com
سيبدو مثيراً للاستغراب القول إن ايام وليالي حي" شانتيلي" هي التي وفرت لي فرصة نادرة للتفرج على التلفزيون خاصة الشبكات الامريكية الاخبارية الرئيسية: " سي إن إن" و"فوكس نيوز" و" إن بي سي" و" سي بي إس".
عندما سكنت قبل ذلك في حي "كريستال سيتي" وبسبب ظروف الوحدة الموحشة التي عشتها هناك، كنت أمضي معظم الوقت في واشنطن، ولا اذهب الى فرجينيا الا ليلاً ، أمضي وقتاً طويلاً في " نادي الصحافة الوطني" اتابع بعض الانشطة أو أحضر سهرات وعشاءات ، لكن الوضع تغير كلياً في حي "شانتيلي" إذ كان لابد من العودة باكراً حتى لا يبقي إبني لوحدهما، ثم ان الحي يقع في ضاحية قصية، ولا يمكن التفكير في العودة الى واشنطن بسبب طول المسافات ، وتوقف الحافلات من محطة الميترو الى " شانتيلي " بعد انتهاء ساعات الذروة. وحتى ذلك الوقت لم اكن حصلت بعد على رخصة قيادة كما لم اتوفر على سيارة .
كانت هناك حكاية تروى حول رخصة القيادة. إذ ان ولاية فرجينيا راحت تتشدد في منح هذه الرخصة ، حين اتضح ان معظم الذين شاركوا في هجمات 11 سبتمبر كانوا يقطنون في هذه الولاية المجاورة للعاصمة، كما ان رخص قياداتهم حصلوا عليها من فرجينيا.
كان لابد من اجتياز امتحان عبر الكومبيوتر وآخر تطبيقي للحصول على الرخصة. ولا يعتد الامريكيون بحصول الشخص على رخصة من دول اخرى، حيث كنت أحمل رخصة مغربية ، وهي صالحة لتقود بها سيارة في امريكا لمدة ستة اشهر فقط، وكان لازماً بعد ذلك الحصول على الرخصة الامريكية ، وبعض الولايات لا تعترف حتى برخص القيادة التي تصدر في ولايات اخرى، بل لابد من اجراء الامتحان.
الامتحان في مرحلته الاولى عبارة عن عشرة اسئلة يختارها الكومبيوتر عشوائياً لاشارات المرور وماذا تعني . تضغط على الزر وتخرج اشارة معينة ويطرح لك الجهاز السؤال عن ماذا تعني تلك الاشارة ويترك لك اختيار جواب واحد من بين ثلاثة أجوبة، وفي هذا الشطر من الامتحان لابد ان تكون أجوبتك صحيحة على عشرة اسئلة واذا أخطأت في أي جواب يُطلب منك اعادة الامتحان في اليوم التالي. واذا نجحت تنتقل بعد ذلك الى الشطر الثاني من الاسئلة، وهي الاسئلة الصعبة والأكثر تعقيداً،وتتكون من 25 سؤالاً يجب ان تجيب فيها على 20 سؤالاً ، لكن بعضها بالفعل أسئلة عويصة، مثلاً يمكن أن يطرح عليك سؤال حول ما هي نسبة الكحول في الدم التي تلزم السائق بعدم قيادة سيارته ، أو ما هي السرعة القصوى للدراجة النارية في شوارع سوق تجاري، أو ماذا تفعل إذا تعطلت سيارتك في وسط طريق سريع (اوتوستراد)، و ما هو سمك الثلوج الذي يتطلب إيقاف السيارة وعدم التحرك. واشياء من هذا القبيل.
كنت أظن أن النجاح مضموناً بعد أن قرأت جيداً كتيباً يوزع مجانا من إدارة تعرف باسم " دي إم في " وهي اشبه ما تكون بالبلدية، وفي مكاتبها يتم اجراء الامتحان الشفوي وفي المناطق المجاورة لها يتم اجراء الامتحان التطبيقي أي قيادة السيارة والى جانبك موظف من هذه الادارة يسجل الملاحظات والاخطاء وهو الذي سيقرر في نهاية الامر اذا كنت ناجحا أم راسباً.
اجريت الامتحان أربع مرات وكنت في كل مرة أرسب في الشطر الاول المتعلق بالاشارات ، ولم انتقل الى الشطر الثاني الا في المرة الخامسة واستغرق الأمر اسابيع إذ لم يكن لدي الوقت لكي أعيد الامتحان في اليوم التالي ، وهكذا كنت في كل مرة أعود بعد عدة ايام لاجراء الامتحان. ولعل من المفارقات انني نجحت في الجزء الأصعب من المرة الاولى ، وبالتالي كان علي اجراء الامتحان التطبيقي. والواقع انني لم اكن متهيباً منه كما كان الشأن مع الامتحان الاول الخاص بالمعلومات العامة. مرد ذلك سببين، اولاً كنت أحمل أصلاً ومنذ فترة طويلة رخصة قيادة، والسبب الثاني وهو من وجهة نظري أهم من السبب الاول ،أنني في الاصل إبن سائق أطال اله عمره و متعه بالصحة والعافية، بدأ حياته سائقاً لسيارة أجرة ثم تحول الى الشاحنات الثقيلة (قندران) ، وكان يعتقد أنني وبعد أن أكملت المرحلة الوسطى في مدرسة كريمة الصناعية الوسطى من الأفضل أن أعمل معه "مساعداً" حتى اتعلم قيادة تلك الشاحنات وذلك كان سيضمن لي مستقبلاً طيباً بدلا من تبديد وقتي في المدارس الصناعية.لكنني لم الب رغبته تلك. ولو كنت فعلت لما قرأتم هذه الحكايات والانطباعات ولكنت الآن أقود شاحنة في أحد فيفاي وقفار السودان وأردد ما قاله ذلك السائق في رواية " موسم الهجرة الى الشمال" :
دركسونك مخرطة وقايم على بولاد
وغير ست النفور الليلة ما في رقاد
ذهبت بعد عدة اسابيع لاداء الامتحان التطبيقي للحصول على رخصة القيادة، لعل ذلك بسبب المشاغل التي لا تهدأ والوقت الذي يتسرب كما يتسرب الرمل في الساعة الرملية دون أن تشعر بذلك في تلك البلاد.
ذهبت يوم الامتحان العملي بسيارة صديق الى مكاتب" دي إم في" والقاعدة انك تحضر يسيارتك لاداء الاختبار التطبيقي .
بعد أن قدمت الاوراق المطلوبة، ابلغوني ان موظفاً سيخرج معي الى الشارع حيث علي قيادة السيارة والامتثال لما يصدره من تعليمات. قبل قيادة السيارة في الشوارع القريبة.
طرح علي ذلك الموظف بعض الاسئلة حول استعمال السيارة مثل طريقة استعمال اشارات الاضاءة وما الى ذلك، ثم طلب مني أن صف السيارة داخل موقف للسيارات، والرجوع بها الى الخلف ، ثم انطلقنا الى الشارع وكان هو الذي يحدد الشوارع التي نسير فيها ويطلب احياناً متعمداً ان أقف في مكان خاطيء او استدير دورة غير مسموح بها ، اذا فعلت اعتبرك راسباً. المهم أنني لم أرتكب خطأ وبعد جولة استغرقت زهاء نصف ساعة عدنا الى من حيث انطلقنا ، وفوجئت به يقول لي بعربية سليمة لا ينطقها الا عربي " مبروك .. نجحت" أدركت وقتها انه من اصول عربية وفهمت انه سوري الاصل ، وقلت له طالما أنك عربي لماذا لم تكن تتحدث معي بالعربية ، وشرح لي بانه لا يجب أن يتحدث معي بلغتي الاصلية طالما انني لم اطلب مترجماً. عدنا الى مكاتب " دي إم في" حيث التقطوا لي صورة وتسلمت " رخصة القيادة" ولم يستغرق الأمر اكثر من ربع ساعة. ورخصة القيادة تسهل الكثير من الأمور لانها في الوقت نفسه تعامل على اعتبارها بطاقة هوية.
بعد الحصول على الرخصة كان طبيعياً ان اقتني سيارة ، وهي عملية تتم في يسر إذا كان سجلك في التعاملات البنكية جيداً وتسدد فواتيرك في الموعد المحدد، وهو ما يعرف في امريكا باسم " السجل الجيد" ، واذا كان السجل جيداً يفوق رصيدك من النقاط تلقائياً الحد الادنى المطلوب وهو في حدود 650 نقطة. وفي هذه الحالة يمكن ان تشتري سيارة وتسدد اقساطاً مريحة تبعاً لنوع هذه السيارة ، وأقساطها في كل الاحوال لاتزيد عن 200 دولار شهرياً لسيارة صغيرة أو متوسطة. بعد أن اقتنيت سيارة اصبحت الحياة أكثر سهولة. والواقع ان من لايملك سيارة في امريكا يكون حاله مثل حال الذين يعانون الاعاقة.
كان حي "شانتيلي" مكاناً مثالياً لممارسة رياضة المشي والركض والسباحة، إذ ان كل مجموعة من المنازل لديها بركة سباحة مشتركة، تفتح ابوابها خلال شهر مايو وتغلق في شهر سبتمبر وتستمر مفتوحة منذ الصباح الباكر وحتى بداية المساء طوال ايام الاسبوع باستثناء يوم واحد.
رحت في الأمسيات أمارس رياضة المشي ولمسافات طويلة، وكان رفيقي في تلك الأمسيات جهاز "آي بود" وهو لمن لا يعرفه جهاز صغير تتفاوت احجامه مابين جهاز في حجم الاصبع أو آخر في حجم الهواتف المحمولة، ويمكن تحميل عدد لا حصر له من القطع الموسيقية والاغاني وأحياناً حتى الكتب المسموعة في هذا الجهاز، وله سماعات صغيرة تثبت في الأذنين ، ويستعملها الامريكيون كثيراً عندما يتمشون او في سياراتهم ووسائل المواصلات العامة.
خلال تلك الأمسيات بدأت اكتشف أشياء كثيرة في الموسيقى والأغاني السودانية. ولعلني أكتشفت انني لم اكن أعرف أصلاً هذه الموسيقى معرفة حقيقية. وهي معرفة ساحدثكم عنها تفصيلاً .
كنت غادرت السودان شاباً يافعاً في نوفمبر عام 1975. وكما هو حال معظم أبناء جيلي ، عشت تجربة عاطفية حقيقية ظلت مدفونة في دواخلي، ولعل أغرب ما في تلك التجربة إنني لم اقل شيئاً كما انها"هي" لم تقل شيئاً. كان" حباً عجز ان يعبر عن نفسه" لكنها قطعاً كانت تجربة استثنائية، عشت بعدها كل هذه السنوات في فوضى عاطفية ، حتى كاد "القلب" أن يتحول الى "فندق" يقيم فيه كثيرون ولفترات متفاوتة ثم لايلبثوا أن يمضوا الى حال سبيلهم.
وبما انني عشت فترة الطفولة والصبا في قريتي في شمال السودان ، كنت أحاول استعادة اللحظات الجياشة من تلك التجربة الصامتة عبر تذكر بعض أغاني المنطقة. وظلت هناك ابيات عالقة بذاكرتي كل ما تواردت الخواطر حول تلك التجربة الرائعة، والتي بدت لي أكثر من رائعة عندما تعرجت بي دروب الحياة وطوح بي الزمان في دول وقارات ومجتمعات لم تكن في الحسبان، كانت تلك الابيات تقول :
راقد هناك كوم من ضياع
مركب مسافرة بلا شراع
واحلام مسافرة بلا وداع
أحرف أنين ما خطتن أيد بي يراع
***
بت البلد سمعت ضريبات القلب
يا الله مالو ده ها القلب
بعد الثبات كيفن خرب
بت البلد عرفت تحب
***
اليوم داك ما جاها نوم
مادام خيال ود البلد يمشي ويحوم
بين الخيال شافت وجيهو الهاش باش
شافت عيونو الفيها فيض احلامها عاش
شافت سحاب الريدة فوق واديها راش
***
تاهت مشت سايقاها دقات الدليب
لي دار حبيبة من القليب
لي قعدة عصراوية فوق العنقريب
لي ونسة والخاطر يطيب
لي مسكة في أيد الحبيب
***
اتذكرت كيف الحبيب ود البلد
في الغربة سافر وابتعد
وبكت بكت لما الخبر ذاع في البلد
نواصل
عن "الاحداث"
مقالات سابقة
جميع المقالات السابقة والمنشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط
http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1