سنواتي في امريكا: في حي شانتيلي سأكتشف أبعاداً أخرى للموسيقى والأغاني السودانية (13) بقلم: طلحة جبريل
31 August, 2009
talha@talhamusa.com
جرت العادة أن يبدأ الأمريكيون يومهم باكراً. موعد بدء العمل غالباً ما بين الثامنة والتاسعة صباحاً ، ويستمر حتى الرابعة أو الخامسة عصراً.
في حي " شانتيلي" في ولاية فرجينيا، لاحظت ان سكان ذلك الحي ، وهم كما أسلفت من البيض الأمريكيين، يستيقظون في الصباحات الباكرة ويخرجون الى شوارع الحي أو يتجهون الى المروج الحضراء القريبة إذا كان الطقس صحواً، لأمرين : إما لممارسة رياضة المشي أو الركض ، أو للتجول مع كلابهم.
كنت أعرف ان معظم الامريكيين يهتمون بكلابهم الى حد كبير، لكن لم أكن أعتقد ان الاهتمام يصل الى هذا القدر من العناية بهذا الحيوان المنزلي الأليف.
وجدتهم يعتنون بالكلاب الى حد مدهش. في بعض الأحيان يكون الاهتمام بالقدر نفسه الذي يهتمون بأطفالهم . سالت كثيراً وقرأت كثيراً لأفهم دلالات هذا الاهتمام بيد أنني لم أجد تفسيراً واضحاً، أو لنقل إنني لم أقتنع بما سمعت.
في شانتيلي نفسه يوجد حي تجاري على غرار كل الأحياء الأخرى والواقع يوجد أكثر من حي تجاري، يطلقون عليه اسم "بلازا" وهي كلمة أصلها اسباني انتقلت الى الانجليزية وتعني الساحة العامة أو الميدان، في تلك "البلازا" يوجد متجر باذخ يبيع كل ما يتعلق بالكلاب من الأكلات الدسمة الى المعلبات وحتى أدوات تسريح وتصفيف شعر الكلاب. في كل سبت يتجمع حشد من سكان الحي مع كلابهم ، يتبادلون الاحاديث حول هذه الكلاب ويغرقون في التفاصيل ، وكلابهم حولهم تتقافز مسرورة وتلعب مع بعضها بعضاً. كلاب من جميع الاشكال والالوان والأحجام . فيها من يكاد يزحف زحفاً نظراً لقصر قامته، وفيها كلاب بحجم عجل صغير , واخرى يكسوها الشعر وكأنها خيمة صوف.
هؤلاء الناس يخصصون أحياناً بيتاً داخل بيوتهم للكلب، ويقتنون له فراشاً وثيراً ، مع ألعاب خاصة به، وينفقون على هذا الكلب ربما قدر ما ينفقون على طفل، بل أحياناً أكثر مما ينفقون على أطفالهم. وهم يعرفون سلالات كلابهم وأصولها، ويجدون متعة كبيرة اذا سألت أحدهم عن كلبه ومن أين جاء، أما اذا ابديت أعجاباً به وربت على ظهره فإن صاحب الكلب أو صاحبتها يعبر عن سروره البالغ بهذه اللفتة ويقدر أنك تتمتع بقسط كبير من الحنو والتحضر.
لم تكن علاقتي طيبة في يوم من الايام مع الكلاب . نحن نشأنا في قرى لا توجد فيها سوى الكلاب الضالة، ومعظمنا بدأت تجربته مع العلاج الطبي بعدد لا يحصى من الحقن في بطنه بسبب عضة كلب من تلك الكلاب التي كانت تنهش لحمنا ايام الطفولة الشقية، كما أننا ننتمي الى ثقافة يقول فيها الرجل للآخر في لحظات الغضب كما كتب الطيب صالح في رائعته " موسم الهجرة الى الشمال" يا "أبن الكلب" ، إذن من اين لنا أن نجد تعاطفاً مع الكلاب، وكنت عندما أقول لأحد الجيران في ذلك الحي أن لدي حساسية من الكلاب، تعقد الدهشة حاجبيه ويقطب جبينه في استغراب . في كل الأحوال لهم كلابهم ولنا كلابنا.
كان أكثر ما لفت انتباهي أن صاحب الكلب الذي يتمشي خلفه في الصباحات الباكرة يحمل معه كيساً بلاستيكياً صغيراً ، ومتى ما قرر الكلب أن يقضي حاجته يجمع صاحبه برازه بملعقة بلاستيكية متوسطة الحجم ويضعه داخل الكيس، ويعود به الى منزله ليرميه في المرحاض حفاظاً على النظافة والبيئة ، بل هناك لافتات تطلب من اصحاب الكلاب أن يجمعوا مخلفاتها من أجل المحافظة على النظافة. اعجبني كثيراً ذلك السلوك، وعلى الرغم من أنه أمر بسيط للغاية لكنه قطعا يدل على التحضر والرقي ، لان الشارع والمروج والغابات هي في ملك الجميع. كنت اقارن بين هذا المشهد الذي يتكرر أمام أعيني يومياً وبين مشهد مدننا التي تغوص في الاوساخ والتي كتبت في بعض شوارعها عبارة " ممنوع التبول" لكن بعضنا اصلحه الله، لا يجد حرجاً في أن يقضي حاجته تحت تلك العبارة على وجه التحديد.
بعد الرياضة الصباحية الباكرة، يعود رب الاسرة الى المنزل ، ثم يخرج بعد ذلك مع طفله أو طفليه أو أطفاله أحياناً، الى حيث توجد محطة الحافلة المدرسية، ويتجمع الذين يقطنون في الشارع عند نقطة محددة ثم تأتي تلك الحافلات بلونها الأصفر المميز لحمل التلاميذ الى مدارسهم ، وحتى لو كان هؤلاء التلاميذ يقطنون بالقرب من المدرسة لكن الوصول اليها يلزمهم عبور أحد الشوارع المسفلتة، فإن الحافلة تنقلهم الى مدرستهم ثم تعود بهم بعد الظهر وذلك حفاظاً على سلامتهم. ومعظم سائقي حافلات المدارس في حي شانتيلي من النساء ، وربما هو الحال كذلك في أحياء ومدن أخرى، وهو اختيار مقصود إذ أن المرأة تتعامل مع التلاميذ الصغار بطريقة افضل، تعامل لا يخلو من عاطفة الامومة الغريزية. ويحترم السائقون احتراماً كبيراً حافلات المدارس، بحيث تتوقف حركة المرور عندما تتوقف الحافلة لكي يصعد اليها تلاميذ ، خاصة ان الحافلة نفسها تحمل علامة " قف" على جانبيها.
وفي الدقائق التي ينتظر فيها الآباء الحافلة حتى يصعد اليها ابناؤهم يتبادلون أحاديث عامة لكن أحوال الطقس تأخذ حيزاً كبيراً ، وعندما يكون الطقس صحواً ولا توجد أمطار أو ثلوج ، فإنهم يتبادلون التهاني بهذا " الطقس الجميل" وهم لا يكفون من ترديد عبارة " آه يا له من طقس رائع". ونادراً ما يتحدثون في السياسة، لكن حديثهم يعرج على الأسعار أو التخفيضات أو برامج التلفزيون في الليلة السابقة.
وبعد دقائق حافلة المدرسة يعود الآباء الى منازلهم ، ويرتدون ملابس العمل بدلاً من البذلات الرياضية، وفي الغالب الأعم يستعمل معظم سكان ذلك الحي سياراتهم للوصول الى حيث توجد أمكنة عملهم.
وهم يتناولون في ايام العمل أفطاراً سريعاً في منازلهم، يتكون عادة من الفواكه والبيض والحليب وبعض النشويات، ولربح الوقت يحملون معهم كأساً من القهوة أو يضعونها أحياناً في قارورة زجاجية خاصة تحفظها ساخنة ويرشفونها داخل السيارة ، ومن لا يسعفه الوقت يشتري من أقرب مقهى وجبة إفطار صغيرة مع كأس قهوة ويحمله الى مكتبه أو الى حيث يوجد عمله. ونظراً لانتشار المقاهي التي تقدم مشروبات وحلويات متنوعة في أي شارع من شوارع المدن الامريكية ، على غرار سلسلة مقاهي " ستارباك" فإن إفطار الصباح في متناول الجميع ، وفي معظم الأحيان يتناول الامريكيون وجية الغداء ما بين الساعة 12 والساعة الواحدة بعد الظهر ، وهي أيضاً وجبة خفيفة، إذ أن بعضهم يكتفي بصحن سلطة أو ساندوتش دجاج أو شرائح لحم باردة أو ساحنة او قطعة بيتزا، يتناول هذه الوجبة في مدة لا تتجاوز ساعة ومن ثم يعود مسرعاً الى عمله .
بعد انتهاء يوم العمل وعودة الناس الى منازلهم في حي شانتيلي ، يبدأ برنامج المساء ، ولأن معظم الأسر يعمل فيها الزوج والزوجة ويذهب الأطفال الى المدرسة فإن الجميع يلتقون على طاولة الوجية المسائية الخفيفة المبكرة، وهي وجبة لا علاقة لها بوجبة العشاء .
وقبل مغيب الشمس يخرج اولئك الذين لا يسعهم الوقت في الصباحات الباكرة للتمشي أو الركض أو ممارسة أنواع الرياضة المختلفة . يخرج الرجل وزوجته الى الغابات المجاورة يرافقهم كلبهم ، في حين يلعب الأطفال الكرة أو كرة السلة أو يتنزهون فوق دراجاتهم الهوائية.
وعادة ما يسير الجميع بمحاذاة النهر الصغير الذي يتوسط الغابة في حي شانتيلي، تشنف آذانهم شقشقة العصافير وتغريد الطيور الملونة ، ويتمتعون بمنظر الارانب البرية او السناجيب المتقافزة والأوز الذي يسير متهاديا متبختراً قرب النهر، واذا كان الطقس جميلاً يشاهدون الغزلان وهي تسير في مجموعات صغيرة.
وبعد تلك الجولة يعودون الى منازلهم يراجع الآباء الدروس والواجبات المدرسية مع ابنائهم، ثم يلتف الجميع حول طاولة المطبخ لتناول وجبة العشاء وهم يتناقشون في أمور حياتهم اليومية أو يشاهدون التلفزيون . وعادة ما يأوي الجميع الى النوم باكراً.
كنت أجد متعة لا تضاهى في ممارسة رياضة المشي أو الركض خلال الأمسيات وقبل مغيب الشمس ، وحتى أتفادى الملل الذي يصيب الانسان أحياناً وهو يسير وسط غابة لا يجد من يشاركه فيها متعة تجاذب أطراف حديث متنوع ، ولا يتبادل مع الآخرين سوى كلمة " هاي" ، كنت استمع لبعض الموسيقى من جهاز صغير تلتصق سماعاته بالاذنين.
وفي تلك الأمسيات الرائقة في حي " شانتيلي" سأكتشف شيئاً رائعاً . تعايشت معه سنوات وسنوات لكن لم أكن أهتم به كثيراً. سأكتشف ابعاداً خفية في الموسيقى والأغاني السودانية ، وانا الذي جئت من منطقة لا يعرف أهلها سوى إيقاع الدليب، وتلك حكاية أخرى ساحدثكم عنها في الحلقة المقبلة.
نواصل
عن"الاحداث"
مقالات سابقة
جميع المقالات السابقة والمنشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط
http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1