سنواتي في امريكا: ليلة ” ثورة اكتوبر” في فرجينيا (25)

 


 

طلحة جبريل
22 November, 2009

 

talha@talhamusa.com

 

كان لابد ان يطل " اتحاد الصحافيين السودانيين في الولايات المتحدة" إطلالة قوية في أول نشاط له. وجاءت مناسبة شكلت حدثاً حظي باجماع سوداني قل نظيره. كانت المناسبة هي ذكرى ثورة اكتوبر المجيدة، التي حققت إجماعاً نادراًَ وغير مسبوق بين جميع القوى السياسية في البلاد. كانت الثورة التي خرج فيها الشعب السوداني يبحث عن الحريات والديمقراطية وحقوق الانسان ودولة المؤسسات،ولعل المحزن ان هذه الأهداف لم يصل اليها شعبنا حتى يوم الناس هذا. وجدنا انه من الحكمة الاحتفاء بهذه الذكرى التي أضحت في السنوات الاخيرة تمر مرور الكرام ، لا يتذكرها سوى كاتب هنا او صحفي هناك.

كان لابد ان يكون الاحتفال في مكان" محايد" لذلك اخترنا قاعة في فندق، وأنهمكت مع الصديق صلاح شعيب في الترتيبات اللوجستيكية. وجدنا أنه من الضروري أن يكون للاتحاد شعار ولافتة ثابتة. كانت ميزانية الاتحاد آنذاك " صفر دولار" وبقى الامر على هذا المنوال الى أن غادرت امريكا. كان لابد من تمويل ما يتطلبه اللقاء من جيوبنا، وتقاسمت العبء مع الصديق صلاح. لكن واجهتنا مسألة تدبير المكان وكيف سنسدد ذلك خاصة ان ايجار قاعات الفنادق في فرجينيا، حيث قررنا ان يكون اللقاء ليس أمراً هيناً .

هنا سيبادر الاخ حاتم ابوسن بالمساعدة. ساعد اولا في البحث عن فندق وقاعة مناسبة توجد في منطقة يسهل على السودانيين الوصول اليها. ثم كان نشامياً مع موضوع الايجار، إذ قرر تسديده بالكامل . وبما ان ابوسن كان عضواً في الاتحاد ، ينطبق عليه البند الذي يقول " يصبح عضواً كامل العضوية من مارس الصحافي لاية فترة " كانت عملية التمويل مقبولة شكلاً ومضموناً.

يتحدرحاتم ابو سن من أرومة باسقة في مدينة رفاعة. عرف اهله بالكرم والجود، والشهامة والشجاعة، وبالتحضر ايضاً. لم أزر رفاعة حتى الآن  لكن الطيب صالح حببها لي كثيراً.كان يحكي باستمرار وفي مناسبات شتى، عن فترته عندما كان يعمل مدرساً في "مدرسة الشيخ لطفي الوسطى" ومن خلال أحادثيه الكثيرة ، أدركت ان أهل رفاعة من أكثر ناس السودان تحضراً ، وأكثرهم كرماً ، وبناتهم من اوائل البنات اللائي تعلمن ، ويقال إنهن من أجمل الفتيات في السودان.

كان حاتم ابوسن شاباً مثقفاً وناجحاً في مجال عمله.رجل مقبل على الحياة، سهل المعشرة.

والواقع ان مساهماته لم تقتصر على احتفالنا بذكرى ثورة اكتوبر، بل في كل مرة كان يبادر باريحية الى مساهمة كبيرة في تمويل أنشطة الاتحاد. واجد لزاماً علي الآن القول إن حاتم ابوسن ، وصلاح شعيب ومحمد علي صالح، وحسن الحسن والدكتور احمد خير والداعي لكم بالخير هم فقط الذين ساهموا في تمويل انشطة الاتحاد.

كنا قررنا تقسيم أمسية تخليد ذكرى ثورة اكتوبر الى ثلاث فترات، الفترة الاولى ندوة سياسية تشارك فيها جميع التيارات السياسية، وفي الفترة الثانية قراءات شعرية من " أشعار اكتوبر"  كان يفترض ان يلقيها محمد المكي ابراهيم لكن ظروفاً حالت بين حضوره من ولاية كاليفورنيا حيث يقيم الى فرجينيا ، أما الفترة الثالثة فقد ارتأينا ان تكون موسيقية وغنائية تخصص لاناشيد ثورة اكتوبر ، تلك التي ألهبت ليس فقط الجيل الذي خرج الى شوارع المدن يواجه الرصاص، بل كل الاجيال المتعاقبة. وفي هذه الفقرة قدم الفنان عبدالهادي عثمان باقة من الاناشيد الاكتوبرية خاصة اناشيد الفنان محمد وردي.

في تلك الامسية كان الحضور لافتاً. حضر كثيرون من جميع الوان الطيف السياسي. وحرصنا ان تشارك جميع القوى السياسية التي صنعت تلك الثورة المجيدة. وفي سياق هذا الحرص كان بالطبع لابد من مشاركة" الاسلاميين" وهذه مسألة لم تكن معتادة قط في منتديات واشنطن. كلفت شخصياً بتأمين هذه المشاركة ، بل واكثر من ذلك شرح حيثياتها للآخرين خارج عضوية الاتحاد.

بسبب التعقيدات التي عرفتها العلاقات السودانية الامريكية، وايضاً بسبب هجمات سبتمبر لم يكن ممكناً أن تنشط جماعات اسلامية في امريكا، لذلك استعنت ببعض الاخوة عرف عنهم تعاطفهم مع السلطة الحاكمة في الخرطوم ، لتأمين مشاركة الاسلاميين، واقترحوا علينا مشاركة الاخ هاشم الامام، وهو من الاسلاميين الذين يتسم خطابهم السياسي بجرأة تصل حد استعمال لغة مصادمة. أثارت مشاركة هاشم الامام، بعض اللغط في مواقع الانترنيت، وهناك من اتصل بنا ليقول بانه سيقاطع الاحتفال بسبب تلك المشاركة بيد أنني ابلغت زملائي في اللجنة التنفيذية أن لا تراجع في هذا الامر اياً كانت المواقف ، لان الأمر يتعلق بمصداقية توجهاتنا .

كنت أعتقد أن ازدواجية الخطاب السياسي لا تجوز ولاتليق بمنظمة من منظمات المجتمع المدني هي اقرب ما تكون الى تنظيم نقابي. وطالما أننا قررنا ان نكون مظلة حوار تلتقي تحتها جميع الوان الطيف السياسي، لايمكن ان نتعمد إقصاء أحد . ولايمكن القول إن دعوة هذا الشخص او ذاك ، يمكن ان تعني تراجعاً عن مباديء او مراجعة لمواقف ، بل إن " الديمقراطيين الحقيقيين" هم الذين يتيحون لخصومهم الحديث في منابرهم ليؤكدوا لهم ان المباديء التى لا ترتبط بالممارسة بالعمل ، هي مجرد لغو ومزايدات. حتى لو كان هؤلاء الخصوم لا يتيحون لهم  ليس فقط حرية التعبير بل ينكلون بهم ويتعمدون اهانتهم بل وقتلوا بعضهم تحت التعذيب .

وقديماً قال الشاعر :

لاتنه عن خلق وتاتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم

 

وأبدا بنفسك فإنهها عن غيها فإن انتهت عنه فأنت حكيم

 

فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم 

في بداية تلك الأمسية القيت كلمة باسم الاتحاد، وللحقيقة والتاريخ أثبت هنا نص تلك الكلمة التي تعمدت تضمينها عبارات واضحة حول قيم الحوار، قلت في تلك الكلمة:

" قبل ازيد من اربعة عقود تدفقت جماهير شعبنا العظيم في شوارع المدن السودانية كافة ، لتصنع ثورة ستبقى علامة فارقة في تاريخنا السياسي ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. كانت ثورة اكتوبر المجيدة، ثورة بجميع المقاييس ، فجرها شعب بطل خرج الى الشارع وهتافاته تشق عنان السماء ، يتحدى الرصاص ،أعزل من كل سلاح سوى ايمانه بان الحرية تستحق التضحيات الجسام . خرج شعبنا العظيم ليس من اجل رغيف الخبز، او ضيقاً من اوضاع اقتصادية خانقة، او تلبية الى نداء من هذه الجهة او تلك، بل خرج استجابة لنداء وطن وتأكيداً لعزته وكرامته. وحققت الجماهير الهادرة اجماعاً وطنياً نادراً في بلادنا بين كافة مكونات المشهد السياسي في ذلك الوقت. وكان من دروس تلك الثورة المجيدة ان الجماهير يمكن ان تتقدم قياداتها، وان القيادات تتفاعل مع نبض الشارع ويصنع الجميع ثورة حقيقية. في ذلك الزمان كان السودان بلداً، والخرطوم عاصمة، وطلائع الشعب على استعداد لتقديم ارواحهم فداء للوطن. على الرغم من ان الناس ايامئذ لم تعرف سنوات قهر واذلال مثل تلك التي جاءت بعد ذلك بطعم العلقم المر".

ثم قلت " في ذكرى الثورة المجيدة يبادر اتحاد الصحافيين السودانيين ، وهو ما يزال في بداياته لم يستكمل هياكله بعد ، ان يكون اول لقاء حول هذه الثورة ، ايماناً منا ان دروسها وعبرها ماثلة ، وهي معين لا ينضب يمكن ننهل منه على مر العصور وتعاقب السنين. ولا ننسى انه خلال ايام تلك الثورة المجيدة رفض صحافيون شرفاء الأوامر التي صدرت لهم بالتستر على اخبار المظاهرات والاشتباكات بين شعب أعزل وقوات الامن. وعرضوا أنفسهم لمخاطر حقيقية.

في هذه المناسبة اود ان اقول لكم ان هذا الاتحاد الذي كانت هناك حاجة لتأسيسه يؤمن جميع من يساهمون الآن في انطلاقته ان حرية التعبير هي شرط ضروري لاغنى عنه في قيام مؤسسات ديمقراطية ، كما نؤمن بان حرية الكلمة للجميع ، ونأمل ان يرتقي الاتحاد بالمهنة لجميع العاملين في الحقل الاعلامي من السودانيين سواء داخل او خارج الوطن. اننا نتطلع بصدق ان نتعاون مع الجميع من اجل تحقيق هذه الاهداف، سواء مع القوى السياسية اومع منظمات المجتمع المدني .

اننا نؤمن ايماناً جازماً ان الجماهير لا تخون والشعوب لا تتقاعس ، وهذا الدور يفرض على الشرائح المثقفة والواعية ان لا تمارس وصاية على هذه الجماهير بل ان تدافع عن حقها في الحرية والكرامة، وهنا تقع مسؤولية كبيرة على الصحافيين الشرفاء الذين تبقى مهتمهم الاساسية العمل من اجل ان تكون الحقيقة في ملك جميع الناس، هذا دورهم وذلك بالضبط هو قدرهم ، وعلى اتحادنا ان يضع نصب أعينه هذه المهام الجسيمة ، متوخياً الحياد والنزاهة مستلهماً تراث شعب عظيم يدرك المعاني السامية لمباديء وقيم الحرية. شعب عظيم لن تقعده عمليات التخريب المتعمدة للنفوس والعقول. والمحاولات المستمرة لنشر روح اليأس والاحباط. إن الكفاح المستمر من أجل مناهضة اليأس والاحباط ليس بالضبط تجربة وديعة، بل لعلها هي قمة ممارسة الإرادة حتى لو كانت في أقسى ظروف العنف. لان الشمس لابد ان تشرق حتى لو طال الليل البهيم.

ويؤمن اتحادنا ايماناً لا يتزعزع ، بحق الصحافيين في الوصول الى المعلومات ونشرها وسط المتلقين سواء في الاعلام المكتوب او المسموع او المرئي، بما يؤدي الى رفع مستوى الوعي لدى شعبنا بقضاياه والتحديات والصعاب التى تواجهه.

دعونا نتطلع الى المستقبل. نحن نؤمن ايماناً قوياً ان شعبنا سيتجاوز جميع المشاكل والمحن، وسيصنع الغد المشرق . بيد ان الطريق الذي يجب ان نعبره نحو مجتمع ديمقراطي تعددي تظلله الحريات ، هو ان نؤمن بالحرية لكل الناس وعدم اقصاء الآخر، لذلك لابد من ترسيخ ثقافة الحوار. أقول لابد من ترسيخ ثقافة الحوار، ونبذ سياسة الاقصاء والتهميش ، حتي يعيش جميع الناس متساوون في وطن حر ويكون الاساس هو المواطنة ولاشيء عدا المواطنة.

دعونا نعتمد الحوار اساساً لحل جميع المشاكل. حوار عقلاني يستند الى تدفق المعلومات حتى يستطيع كل فرد من افراد المجتمع ان يحدد موقعه بوضوح ، وقدرنا نحن الصحافيين ان نعمل بدون هوادة على توفر هذه المعلومات للجميع وفي جميع مواقعهم . لقد ابتليت بلادنا كثيراً بالتسلط والقهر والاقصاء وادعاء امتلاك الحقيقة وقمع الآخرين ، دعونا نؤمن بل نجرب ان حق الاختلاف حق مشروع ، وانه هو الجسر نحو غد الديمقراطية والحريات ودولة المؤسسات. هذه هي في الواقع رسالة ثورة اكتوبر المجيدة التي تتناقلها الاجيال جيلاً بعد جيل ، وحقبة تلو حقبة ...

ولنردد مع من قال : ارفعوا راية اكتوبر فالثورة ما زالت تعيش"..

 في تلك الأمسية تحدث الجميع، في انضباط وتحضر. وخلال الفقرة الخاصة باناشيد اكتوبر ، كانت المشاعر جياشة. ولا أنسى كيف أجهش الصديق صلاح شعيب بالبكاء. وجاء عندي يقول " هنيئاً لنا بهذا النجاح".

نواصل

 عن "الاحداث"

مقالات سابقة

جميع المقالات السابقة والمنشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى  يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط

http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1

 

آراء