كنا قد تطرقنا في الحلقة الأولى إلى المعامل السوداني في قضية طائفة البدون الكويتيين، وطوّفنا على المحاولات والمساعي المختلفة من قبل حكومة الكويت وبعض السوادنة لحل المعضلة البدونية عن طريق التجنيس السوداني.
وكنت حتى وقت قريب أظن أن المساعي السودانية في هذا الاتجاه قد توقفت في زمان قديم عند الأبواب الموصدة في رئاسة الدولة، وأن المحاولة الباسلة التي نهض عليها وزير سابق ينتمي إلى أحد الأحزاب المشاركة في الحكومة كانت هي الأخيرة في هذا الباب.
ولكن تبين لي من حيث لم أحتسب أن هناك محاولة حديثة قام بها وزير دولة يمثل فرقة من الفرق الجهوية التي تسلحت ثم سالمت، وتوافدت إلى العاصمة والتحقت بنادي الحكم وذاقت حلاوة الاستيزار. ومن عجب أن هذا المستوزر الكريم أفاد في متن دعواه ومسعاه إلى الحصول على موافقة الدولة على التجنيس، أفاد بأن الأحباب البدون الكوايتة تربطهم صلات قربى واشجة بقبيلته في السودان، وهي في الحق أكثر قبائل السودان عروبة وتمتد جذورها إلى عمق الجزيرة العربية.
ولا أستبعد أن تكون جهة ما في الكويت قد توهمت أن الصفة الوزارية التي يحملها ذلك المسئول البار بأهله البدون كافية لوضع السودان في قائمة الدول (المرشحة) لمنحهم جنسيتها، وقد يفسر ذلك ما نشرته الصحيفة الكويتية التي نشرت الخبر.
بيد أنني أحرص على ألا يتسرب ويسكن إليك، أعزك الله، الظن بأني أرفض فكرة منح البدون أو غير البدون من رعايا الدول العربية الجنسية السودانية قولاً واحدا. ولا بد أنك تعرف عنى أنني نافحت غير مرة ومن خلال هذه الزاوية عن الممارسة الراهنة في أمر تجنيس الإخوة السوريين الذين سلكوا المسالك المشروعة إلى السودنة فتسودنوا. ووصفت الصرخات المتشنجة لوقف تجنيس السوريين، بل وطردهم من السودان، بسبب حادثة جنائية أو حادثتين بأنها دعاوى صبيانية لا تقوم على ساقين.
الأمر الوحيد الشاذ في قضية البدون الكوايتة هو أنه لا هم ولا دولة الكويت يطلبون انتقالهم للإقامة في السودان. المطلب فقط هو منحهم جنسيات سودانية. والحقيقة أن دولة الكويت لم تطلب أن يتولى السودان أمر البدون عن بكرة أبيهم، بل إنها حددت حصة معينة على أساس أن دولاً أخرى ستتولى مهمة تجنيس الباقين بالتساوي أو بالتوافق. والرقم هو خمسة وثلاثون ألفاً فقط لا غير. وهذا رقم صغير ومحدود بغير شك، ولكن العبرة في النهاية ليست بالرقم، قلةً وارتفاعا، وإنما بالمبدأ. ثم إنه، وبحسب ما هو بين يدي من معلومات، فإن دولة الكويت تعرض مقابل تجنيس ذلك الرقم عوناً ماليا يتراوح ما بين 1,2 إلى 1,8 مليار دولار أمريكي.
قلنا في ما سبق إن هناك إشكالية تتصل بهذه القضية عند عرضها أمام التقويم الموضوعي، وتتصل هذه الإشكالية بكون أن المطلوب هو الأوراق فقط دون أن يكون هناك حضور حسي للمتجنسين. ويعود ذلك لأسباب وعوامل بالغة التعقيد مربط فرسها هو أن الكويت لا تمانع أصلا في بقاء البدون فوق أراضيها، ولكنها فقط لا ترغب في منحهم حقوقا دستورية تمكنهم من المشاركة في الحكم والتصويت في الانتخابات، كون أن البدون ينتمون عرقيا إلى دول أخرى مشاكسة للكويت مثل العراق وإيران، كما أن أغلبهم/ يدين بالمذهب الشيعي.
ولكن تلك الإشكالية لن تمنعنا من المضي قدما في مناقشة المبدأ، وهو منح الراغبين من أبناء الدول الأخرى الجنسية السودانية. أغلب دول العالم تمنح جنسياتها للراغبين وفق أشراط وقواعد محددة، ومن بينها الولايات المتحدة وغالب دول أوربا وعدد من الدول العربية. قبل أقل من عام واحد أصدرت المملكة الأردنية تشريعاً يقضي بمنح الجنسية الأردنية لمن يرغبها مقابل مبلغ مالي محدد. وهذا المبلغ المالي لا يدفعه الراغب في الجنسية للدولة، وإنما هو مبلغ مالي استثماري يتعهد المتجنس بإدخاله إلى البلاد. وكذلك تفعل المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا التي نال جنسياتها عدد كبير من غير سكانها الأصليين.
بل إن بريطانيا العظمى التي لا تغرب عنها الشمس (مع انني قضيت شهر يناير بطوله وبعضاً من فبراير في عاصمة تلك الامبرطورية ولم ترَ عيني شمساً مشرقة)، أقول إن بريطانيا بهيلها وهيلمانها تمنح جنسيتها للراغبين حال التزام المتجنس بإيداع مبلغ مالي محدد بالقانون يتم استثماره بالكامل داخل المملكة. وكذلك تفعل دول أوربية أخرى.
هذا مع العلم بأن غالبية دول أوربا والولايات المتحدة وكندا تمنح جنسيتها لكل من هب ودب خلال فترة تتراوح بين ثلاث إلى خمس سنوات بالنسبة للولايات المتحدة وكندا، وفترات أخرى تقل أو تزيد قليلا بالنسبة للدول الأخرى، حال الزواج من أحد مواطني تلك البلدان، بالإضافة إلى مسوغات أخرى كالاستثمار المالي أو التميز المهني وغير ذلك من مداخل التجنيس في تلك الدول .
ماذا نريد أن نقول؟ الذي نريد أن نقوله باختصار هو: هونوا عليكم أيها السوادنة، هداكم الله، فلا أنتم الجنس الآري ولا السودان سويسرا. هذا مع الأخذ في الاعتبار أن الآريون في ألمانيا ودولة سويسرا نفسها تمنحان الجنسية للراغبين بشروط مماثلة لبقية الدول الأخرى. وهناك في يوم الناس هذا جيوش من بني جلدتنا تجنسوا بجنسيات هذين البلدين وما فتئوا يرتعون من خيراتهما لا يلوون على شيء!