سوزان رايس في مجلس الأمن: هل من أمل في التغيير؟

 


 

 

د. أسامه عثمان، نيويورك
 Ussama1999@yahoo.com
 استهلّت السيدة سوزان رايس مندوبة الولايات المتحدة لدى منظمة الأمم المتحدة عملها في المنظمة في الأسبوع الماضي بحضور اجتماع مغلق لمجلس الأمن دعت إليه فرنسا، في ختام دورتها لرئاسة المجلس عن شهر يناير 2009، وكانت آذان الجميع مفتوحة لتسمع ما تقول في أول مخاطبة لها للمجلس بعد أن اعتمدها مجلس الشيوخ رسمياً ممثلة لبلادها بدرجة وزير وعضو في الحكومة. بعد الثناء والحمد، لا لله، ولكن لرئيس المجلس السفير الفرنسي جان موريس ريبيارالذي استقبلها بكلمات طيبات قالها بحماس يفوق المجاملات البروتوكولية المعهودة. وكانت فرنسا قد أعلنت في بداية الشهر نيتها عقد جلسة في آخر دورتها لمناقشة مسألة احترام القانون الإنساني الدولي ووضعها في برنامج العمل لشهر يناير، وكان ذلك قبل اندلاع أحداث غزة بقليل ولما وقعت أحداث غزة وعلت أصوات لأول مرة تطالب إسرائيل بتحمّل المسؤولية الجنائية عن خرقها للقانون الدولي الإنساني في عدوانها الأخير حيث قصفت المدنيين والمدارس ومقار الأمم المتحدة وقتلت الكثير من التلاميذ والأطفال، بعد ارتفاع هذه الأصوات جاء هذا الاجتماع كما لو أنه صمم خصيصاً لهذا الغرض مما جعل بعض المتحدثين يحرص على التأكيد على أنه  يتحدّث من الناحية العامة وليس عن حالة في بلد معين.
كان هذا الاجتماع مناسبة جيدة للسيدة رايس لتشرح برنامج عملها في مجالي الأمن والسلم الدوليين، وقبل أن تدخل في تفاصيل ذلك ذكّرت في مستهل خطابها بسياسات الرئيس أوباما فيما يتعلّق بالقضايا التي تمس الأمم المتحدة قائلة «إن الرئيس أوباما ملتزم بإقامة شراكات دولية متينة لمواجهة المشكلات التي تواجه العالم بأجمعه وعلى وجه الخصوص: تعزيز السلم والأمن الدوليين، ومحاربة الإرهاب وانتشار الأسلحة ومواجهة قضية التغيير المناخي ومنع أعمال الإبادة الجماعية وتخفيض الفقر وتشجيع التنمية المستدامة ودعم احترام حقوق الإنسان والديمقراطية والكرامة الإنسانية». وتمثل هذه الجوانب جدول أعمال المنظومة الدولية بأسرها.
 ثم عادت لتؤكِّد على التزام بلادها بحماية الضعفاء والمساكين من المدنيين في وقت الحرب باعتبار أن ذلك إلى جانب يعتبر جزءً من  احترام القانون الدولي من حيث المبدأ فهو يمثِّل أيضاً مسألة تتعلّق بالأمن القومي الأميركي. ولم تنس أن تذكّر بأن الرئيس أوباما قد برهن على رفضه للفاصل الوهمي بين حماية القيم الأميركية وحماية الأمن القومي، كما يزعم البعض، عندما أمر في أسبوعه الأول بإغلاق معتقل غوانتانمو سيء الذكر في غضون عام. ثم أضافت أن حماية المدنيين ليست واجباً أخلاقياً فحسب وإنما هي جزء لا يتجزّأ من العمليات العسكرية جيّدة التخطيط، وفي خطوة استباقية أشارت إلى العمليات العسكرية التي يتوقّع أن تتصاعد في أفغانستان إلى أن القادة العسكريين سيحرصون اشد الحرص عند تصميمم العمليات العسكرية على حماية المدنيين بكل ما هو ممكن في مواجهة الطالبان الذين يستخدمون تكتيكات تعرّض المدنيين للخطر لتلقي باللوم على القوات الأمريكية عند وقوع خسائر.
وقد كان كل ذلك تمهيداً لتدلي بموقف الولايات المتحدة من الأمر الذي كان في ذهن كل أعضاء المجلس وبقية الحاضرين عما ستقول بشأن الحرب على غزة التي توقّف فيها وقف إطلاق النار ولا تزال صورالضحايا تحت الأنقاض ماثلة في الأذهان. نقلت السيدة المندوبة الحزن العميق للرئيس أوباما على الضحايا من المدنيين من الفلسطينيين والإسرائليين على حد سواء وعن حزنه لمعاناة المدنيين الفلسطينيين المستمرة الذين هم في حاجة لمساعدات إنسانية وإعمارية عاجلة. قلنا كل هذا حسن ثم ماذا بعد؟ لم تدع السيدة رايس حالة الترقب تدوم طويلاً حيث أفتت بكلمات واثقة قائلة إن مما لا شك فيه أن انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني قد وقعت خلال أسابيع الحرب وقبلها من قبل حركة حماس عبر صواريخها على المدنيين الآمنين في جنوب إسرائيل وعبر استخدامها للمنشآت المدنية لإيواء الإرهابيين ولإطلاق هجماتها الإرهابية. ثم أضافت وهنالك بعض الاتهامات التي سيقت بحق إسرائيل ولقد صمم بعضها بشكل متعمّد ليزيد الوضع تأزماً. وأضافت أنهم يتوقعون أن تفي إسرائيل بالتزاماتها الدولية في إجراء التحقيقات اللازمة كما دعت أعضاء الأسرة الدولية للتوقف عن تسييس مثل هذه القضايا الحسَاسة. ولم يكن من المتوقّع حدوث تغيير كبير في سياسة أميركا تجاه إسرائيل، ولكن كان البعض يتوقّع أن تلتزم أميركا تحت الإدارة الجديدة بقدر معقول من الحيادية، ولكن السيدة رايس عبرت بأقوالها هذه عن تبني الموقف الإسرائلي بحزافيره: حماس هي البادئ بالحرب وهي المعتدي والمنتهك للقانون الدولي، ما ذكر في حق إسرائيل إدعاء يحتاج لإثبات، إسرائيل ستقوم بالتحقيق ولا داعي لتحقيق دولي أو من جهات خارجية، تدخل الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان يعتبر تسييساً للأمر لا توافق عليه الولايات المتحدة. ولقد كان دفاع الولايات المتحدة المستميت وتماهي مواقفها مع الموقف الإسرائيلي في خلال الأعوام الخمسة الأخيرة سبباً في عدم صدور أي قرار يدين إسرائيل حتى ولو كان ملطّفاً ولقد رأى البعض في امتناع الولايات المتحدة عن التصويت على القرار الأخير لوقف الحرب الذي رفضته إسرائيل بارقة أمل في احتمال بعض التغيير في الموقف الأميركي، ولكن السيدة رايس قد قطعت قول كل خطيب. ومما يذكر أن السيدة رايس قد اتهمت الأمم المتحدة عند مثولها أمام مجلس الشيوخ لاستجوابها قبل تثبيتها في المنصب بعدم الحياد والتحامل على إسرائيل في تقاريرها وتحقيقاتها. وتعتبر السيدة رايس، وهي لا صلة نسب أو أفكار بينها وبين وزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس، من المحسوبين على التيار غير المتحمس لإسرائيل وسياساتها ولها مواقف مشهور في انتقادها، ولم تتحمس أوساط اللوبي الإسرائيلي في أمريكا لتعيينها في هذا المنصب ولكنها في هذا الموقف تعبر عن موقف الإدارة بمجملها وليس عن رأيها الشخصي.
 إن كان الموقف من إسرائيل لم يتغير فماذا قالت في القضايا الأخرى: انتقلت السيدة رايس لأفريقيا ولعل انتهاكات حقوق المدنيين في الوقت الحالي لا تقع إلا في أفريقيا وذكَرت بأن ما لا يزيد عن خمسة ملايين نفس قد ازهقت في الكنغو الديمقراطية ونددت بحوادث الاغتصاب والعدوان الجنسي وتجنيد الاطفال وغير ذلك من انتهاكات لحقوق الإنسان، ثم عرجت إلى جيش الرب وترويعه للمدنيين في شمال يوغندا والدول المجاورة وانتقلت إلى دارفور ووصفت ما يحدث فيها بأنه أعمال إبادة وكان الجميع يتوقع استخدامها لفظة مختلفة ولكن السيدة رايس قد استخدمت نفس المصطلح الذي استخدمه باول من قبل وظل الرئيس بوش مصراً عليه حتى مغادرته البيت الأبيض. وذكرت بأن ضحايا الإبادة في دارفور أكثر من مليونين ونصف المليون والضحايا يعدون مئات الآلاف. ومضت لتذكّر بانتهاك القانون الدولي الإنساني بازدياد عدد الضحايا من المدنيين في القتال الذي وقع مؤخرا في إشارة للقتال في منطقة مهاجرية وحمّلت حكومة السودان مسؤولية مواصلة حملة قصف المدنيين. ثم أشارت إلى أن على جميع الأطراف في الكنغو وفي السودان التوقّف أعمال القتل والالتزام بالقانون الدولي الإنساني. وربط الكنغو بالسودان في خطابها فيه إشارة إلى أن الإدارة الجديدة تنظر للصراع في هذين البلدين بنفس المنظور وربما كان محاولاتها للمعالجة متشابهة لذلك ينبغي على الدبلوماسية السودانية ألا تغرق في شأن السودان وحده وإنما تدرس بعين بصيرة ما يحدث في الكنغو المجاورة وفي أفريقيا الوسطى وموقف الإدارة من جيش الرب وفقاً للتطوّرات الأخيرة وليس التصرّف كما لو أن ما يحدث في هذه البلدان لا يعني السودان في شيء.
ومضت على تأكيد أن الولايات قد عقدت العزم على إيقاف هذه الانتهاكات مقدّمة وصفة الولايات المتحدة في هذا الأمر المتمثل فيما قالت أولاً في منع الصراعات قبل اندلاعها، ومنع الصراعات القائمة من التطور لتصل مرحلة الانتهاكات واسعة النطاق أو الإبادة الجماعية والتصدي لها بحزم وبسرعة عندما تقع ثم العمل على حفظ السلام وتقديم المساعدات اللازمة لتوطيده بعد توقف الصراع. وربما كان في إشارتها للتصدي بحزم وبسرعة لإيقاف الصراع قبل أن يتحوّل لإبادة جماعية بعض الإحساس بالذنب من موقف إدارة كلينتون التي كانت رايس تشغل فيها مساعدة وزيرة الخارجية للشؤون الأفريقية وراعها ما شاهدت في رواندا عقب وقوع المجازر فأقسمت بأن لا تدع ذلك يحدث مرة أخرى لأن تلكؤ  الإدارة في التصرّف كان من أسباب وقوع المأساة.
واسترسلت في قضية حماية المدنيين أثناء الصراع، وطالبت بأن تقوم الأمم المتحدة بالتعامل بالحزم والحسم اللازمين لأي حادثة اعتداء جنسي أو استغلال من قبل جنود أو أفراد قوات حفظ السلام وعبّرت عن دعمها للإجراءات التي اتخذها الأمين العام في هذا الصدد.
وعبّرت عن تثمينها ودعمها للدور الذي يقوم به الصليب الأحمر في حماية المدنيين والمعتقلين ثم عرّجت على قضية أخرى مرتبطة بحماية والمدنيين وجرائم الحرب وانتهاك القانون الإنساني الدولي فذكرت أن محاكم جرائم الحرب الخاصة لكل من يوغسلافيا السابقة ورواندا والمحاكم المختلطة في سيراليون وكمبوديا تواصل أعمالها في محاكمة المتهمين بجرائم متعلّقة بالحرب والقانون الإنساني الدولي.
ثم ذكرت، في شكل فاجأ البعض، المحكمة الجنائية الدولية التي بدأت أول محاكماتها في الأسبوع الماضي (في إشارة لبداية محاكمة الجنرال الكنغولي لوبانغا المتهم بارتكاب جرائم حرب في أفريقيا الوسطى) ووصفتها بأنها في طريقها لأن تكون أداة مهمة وذات مصداقية في محاسبة القياديين المتهمين بارتكاب فظائع في الكنغو ويوغندا ودارفور. ولا شك أن في ملاحظاتها عن المحكمة الجنائية إشارة إلى أن أمر المحكمة من الأشياء التي سيقع فيها تغيير كبير مقارنة بموقف إدارة بوش التي كانت دائماً تردد بأن المحكمة لا تعنيها في شيء ولكنها تتابع عن كثب كل ما يصدر عنها وموقفها في ذلك شبيه بموقف حكومة السودان الحالي التي تردد بأنها غير معنية بالمحكمة لأنها ليست عضواً فيها، ولكنها تنام وتصحو وكابوس المحكمة في ذهنها. ولقد استقبل بقية الأعضاء في المجلس ملاحظات رايس بقدر من الارتياح لأن موقف الولايات المتحدة كان دائماً معزولاً في قضايا مثل قضية العدالة الدولية والمحاسبة. ولقد عبّر جان موريس ربيار المندوب الفرنسي عن سعادته لكلماتها قائلاً «إنها مدهشة»، «إن ما قالت عن حقوق الإنسان والقانوني الدولي كما لو أني كتبته أنا بنفسي». وقال جورج أوربينا مندوب كوستاريكا: إن مجرد ذكرها للمحكمة الجنائية يرفع التوقعات بأن الولايات المتحدة ستصادق على نظام روما قريباً. ولقد ذكر استيفان راديماكر، مساعد وزير الخارجية السابق في إدارة الرئيس بوش والذي يشغل حالياً منصب مدير هيئة استشارية في واشنطن أن على الرئيس أوباما أن يتقدّم بحذر في تأييده الكامل للمحكمة الجنائية لأنه من السابق لأوانه الحكم على نجاح المحكمة لأن إقامة العدالة ربما تكون حائلاً دون حماية الأرواح، علينا أن ننتظر قليلاً لنرى إن كان عمل المحكمة يسهم فعلاً في تحقيق السلام. وذكر السيد جوريكا، مندوب كرواتيا لدى الأمم المتحدة أن ما قالت السيدة رايس يدل على بزوغ  فجر جديد في الولايات المتحدة للعمل متعدد الأطراف القائم على القيم المشتركة مع جميع البلدان.
 وختمت السيدة رايس حديثها بفقرة قوية أكدت فيها بأن بلادها ستسعى ما استطاعت للعمل على أن تحترم الدول، جميع الدول، التزاماتها الدولية من خلال مجلس الأمن والمنظومة الدولية عموماً ومن خلال علاقاتها الثنائية في جو من التعاون والتصميم حتى تخفف أو توقف معاناة المدنيين أينما كانوا. وباستثناء العلاقة بإسرائيل يبدو خطاب المندوبة الجديدة واعداً ومبشرا ببداية عهد جديد وسنرى مصداقية ما قالت في قادمات الأيام.
د. أسامه عثمان، نيويورك
نقلا عن جريدة الصحافة ليوم الثلاثاء 3 فبراير 2009
 

 

آراء