سياسات الأنقاذ الاقتصادية تنكص بـالسودان الِي عصور ما قبل الأيدلوجيا
7 يناير 2018
يعزو العديد من المعلقين الصعوبات الاقتصادية الحالية إلى الخيارات الإيديولوجية التي تبنتها الحكومة مثل تحرير الأسواق وترك الاسعار لقوي السوق ، واعتماد الوصفات الاقتصادية التي ينصح بها صندوق النقد الدولي وتبني سياسات النيولبرالية كمرجعية تنموية . هذه التشخيصات لجذور الازمة الاقتصادية مضللة جدا. إن سياسات التحرير والنيوليبرالية وصندوق النقد الدولي لا علاقة لهم بالمشكلة الاقتصادية التي تجتاح السودان. وهذا لا يعني أن سياسات التحرير، والنيوليبرالية ووصفات الصندوق ليست قضايا هامة. إنها قضايا بالغة الأهمية، كما انها قضايا خلافية علي المستوي السياسي والفلسفي . ولكن هذه القضايا فقدت أهميتهـا وصارت ثانوية بسبب الفساد الفادح والحوكمة الخاطئة الذي يرتكبها النظام. ان وصفات صندوق النقد الدولي، والنيوليبرالية وكل درجات التوجه الرأسمالي واعتماد اقتصاد السوق كلها قابلة لتطبيق عقلاني متسق من قبل الاقتصادات الناجحة والفاشلة ، ومن قبل الدول الاستبدادية وكذلك من جانب الحكومات الديمقراطية. ولكن النظام السوداني لم يطبق أبدا باخلاص سياسات تحرير السوق ، ولا سياسات صندوق النقد الدولي، ولم يطبق ابدا سياسات متسقة ترتكز علي أي فلسفة اقتصادية يمكن تحديد ملامحها من بين كل المدارس الاقتصادية من اقصي اليمين الِي اقصي اليسار .
السبب الوحيد الأكثر أهمية لانهيار الاقتصاد السوداني هو أن جميع السياسات التي ظلت تنفذها الحكومة يمكن تلخيصها بأنها لا تعدو ان تكون توأم غولي من النهب وبقاء النظام بأي ثمن ولا شيء اخر على الإطلاق. كل اعتبار آخر ما عدا هذا التوأم ثانوي في أفضل الأحوال إن لم يكن تماما غير ذي صلة وبلا اهمية . وتتجلي هذه السياسات الحكومية التي دمرت الاقتصاد في ما يلي:
1 - معاقبة المنتجين بفرض ضرائب ورسوم عالية عليهم وإجبارهم علي دفع رشاوي مكلفة كثمن عليهم دفعه مقابل السماح لهم بالعمل. فالرشاوى والضرائب والرسوم الجمركية تضخم تكلفة الإنتاج وتضعف الارباح وبذلك تثبط المستثمرين. والنتيجة المباشرة هي أن المنتجين سوف يخرجون من عالم الانتاج أو يقللون من حجم عملياتهم أو لن يدخلون في العملية الاستثمارية في المبتدأ. والنتيجة النهائية هي انخفاض مستويات الاستثمار، وبالتالي انخفاض مستويات الدخل والعمالة وتفشي الفقر وتعميقه .
2. تطبع الحكومة مبالغ هائلة من الأموال لتمويل الفساد والبيروقراطية والأجهزة الأمنية والميليشيات. فالطباعة النقدية تقود مباشرة الِي تضخم الاسعار ، ويقلل التضخم من سعر صرف الجنيه السوداني. طباعة الأموال هي نفسها طريقة لفرض الضرائب بما ان التضخم الناتج يحول المال من المواطنين والمنتجين الِي الحكومة. وتعادل هذه الضريبة الخسارة في القوة الشرائية لدخل المواطن الناتجة عن التضخم. أحد المفاهيم الخاطئة الشائعة في خطاب الاقتصاد السياسي السوداني هو الادعاء بأن تدهور سعر الصرف يولد تضخم الأسعار. هذا تحليل خاطئ، يقلب العلاقة بين التضخم وسعر الصرف رأسا على عقب. فالتضخم هو االذي يؤدي إلى تدهور سعر صرف الجنيه ، وليس العكس. كل ذلك يبدأ مع طباعة الحكومة للنقد بافراط ، وهذا يغذي التضخم، والضغوط التضخمية تقود إلى انهيار سعر الصرف. إن طباعة الحكومة للعملة بـتهور هي المسؤولة عن كل من التضخم وتدهور سعر الصرف. ونتيجة للتضخم، يصفي المنتجون أعمالهم ، اويقللون استثماراتهم أو لا يبدأون مشاريعهم الاستثمارية المحتملة . والنتيجة النهائية هي انخفاض مستويات الاستثمار، وبالتالي انخفاض مستويات الدخل والعمالة وتفشي الفقر وتعميقه.
3 - وبالإضافة إلى كون التضخم عبئا ضريبيا، فإنه يخنق الاستثمار عن طريق تصاعد درجات عدم اليقين. يحتاج المستثمر المحتمل للقيام ببعض الحسابات والتوقعات عن التكلفة، وتدفق الإيرادات والمبيعات والأرباح. ومن المستحيل القيام بتلك الحسابات المالية في بيئة تتصف بتقلبات حادة في أسعار السلع وأسعار الصرف. لا يعرف المنتج مستوي سعر الصرف بعد اسبوع دعك عن شهور وأعوام ، ولا يعرف تكلفة مدخلات الانتاج في المستقبل القريب وبالتالي لا يستطيع أن يكون متأكدا إلى حد معقول من ربحية استثماره من عدمها . وفي ظل هذه الظروف، لن يتقدم الكثير من المستثمرين بدخول السوق والمقامرة برأس مال معتبر لأن مستويات المخاطر وعدم اليقين مرتفعة جدا. والنتيجة هي انخفاض الاستثمار، وبالتالي انخفاض مستويات الدخل وفرص العمل فضلا عن تضخم الاسعار وتفشي الفقر وتعميقه .
4- تجلي آخر لحماقة النظام هو أن الإنفاق العام يتركز في أنشطة وجهات غير منتجة مثل البيروقراطية الطفيلية المتمددة ، والميليشيات، وأجهزة الأمن والفساد. وتستخدم موارد قليلة جدا لتأسيس البنية التحتية المادية أو لتحسين مستوى رأس المال البشري من خلال الاستثمار في الصحة والتعليم. فحصة التعليم والنقل والزراعة والتصنيع في الميزانيات الحكومية مجهرية لا تري بالعين المجردة وسط أفيال الصرف علي الأمن والأجهزة السيادية ومرتكزات بقاء النظام . فعمليات التصنيع والتنمية الزراعية تتطلب خدمات داعمة قوية مثل وسائل النقل الرخيصة، والطاقة، ومرافق التخزين والقوى العاملة الماهرة المتعلمة . وهكذا فإن ضعف البنية التحتية يؤدي إلى انخفاض مستويات الاستثمار، وبالتالي انخفاض مستويات الدخل والعمالة فضلا عن ارتفاع معدلات التضخم وتفشي الفقر وتعميقه.
5 - على سبيل المثال، يوصي صندوق النقد الدولي الحكومة بـتخفيض العجز في الميزانية. هذه نصيحة جيدة في السياق السوداني. ومع ذلك، فان القرار يرجع للحكومة فيما يختص بكيفية خفض العجز بما ان ذلك يمكن تحقيقه عن طريق خفض الإنفاق على الصحة والتعليم أو عن طريق خفض الإنفاق على الرئاسة وأجهزة الأمن والميليشيات. الخيار هنا قرار سيادي متاح للحكومة، وليس لصندوق النقد الدولي وبذا تقع مسؤولية هذا القرار على عاتق الحكومة. يوصي صندوق النقد الدولي أيضا بـإنهاء أو تقليل الدعم، ولكن الحكومة السودانية تسحب الدعم ليس بسبب احترامها لصندوق النقد الدولي، ولكن لأنها تسعي لتحويل الأموال من دعم السلع الاستهلاكية إلى الإنفاق على الجيوش ، وأجهزة الأمن والميليشيات. من ناحية أخرى صندوق النقد الدولي يوصي بـتعويم الجنيه السوداني، أي اعتماد سعر صرف موحد لكل المعاملات ليتم تحديد هذا السعر على أساس يومي في السوق الحر حسب قوى العرض والطلب دون تدخل حكومي مباشر للتأثير علي هذا السعر. ولكن الحكومة سوف لن تجرأ أبدا علي طاعة صندوق النقد الدولي وتعويم الجنيه لأنه إذا حدث ذلك التعويم ، فسوف يكون علي الحكومة التوقف فورا عن طباعة النقود لتمويل نفسها وإلا فإن قيمة الجنيه السوداني سوف تتدهور كل يوم بمستويات اعلي مما هي عليه الان ، وهذا ستكون له عواقب سياسية خطيرة مثل خروج الشعب للتظاهر والاحتجاج في الشارع كل يوم أو سوف ينفجر النظامعن طريق نزيف داخلي وينهار على نفسه حتى في غياب تحدي معارض من الخارج . ولكن بما أن الحكومة لا تستطيع وقف طباعة النقود، فإنها لن تعوم سعر صرف الجنيه بغض النظر عن ما يوصي به صندوق النقد الدولي. ومن هذا المنظور يبدو ان تعويم سعر الصرف أذا ما تم تبنيه فانه سوف يكون الخيار الأحسن من بين مجموعة خيارات كلها مسمومة لان هذا التعويم اما سوف يجبر النظام عن التوقف عن طبع العملة بافراط أو سوف يعجل برحيله .
كل هذه النقاط التي تبين الاخفاقات الحكومية لا علاقة لها بـسياسات صندوق النقد الدولي، أو النيوليبرالية أو تحرير السوق ولا علاقة لها بالأيديولوجية الاقتصادية التي تختارها الحكومة. هذه الاخفاقات ترجع جذورها الِي وجود نظام شرس, مدمر, فاسد, جاهل ,منزوع الكفاءة وعديم الوطنية . هذا لا يعني أن المدرسة الأيديولوجية المختارة لإدارة الاقتصاد هي دائما أمر ثانوي . على العكس من ذلك، فإن الاختيار الإيديولوجي لمسار التنمية الاقتصادية هو امر في غاية الأهمية في ظل الحكومات العادية ولكن النظام الحاكم في الخرطوم لا يمكن وصفه بانه عادي أو حتى عادي الفساد وانعدام الوطنية . طبيعة هذا النظام ونهجه في الحكم جعلت من وصفات صندوق النقد الدولي، ودرجة التحرير الاسعار والمدرسة الاقتصادية قضايا ثانوية في الوقت الحاضر. لتوضيح هذه النقطة بعض الشيء يمكن القول بانه بما ان الحكومة تضخ باستمرار سرطان شرس في عروق الاقتصاد الوطني ، فان البواسير الناتجة عن وصفات صندوق النقد الدولي وسياسات تحرير الاقتصاد تصبح قضايا جانبية الِي حين السيطرة علي السرطان الانقاذي واستئصاله من جسد الوطن . هذا السرطان هو الغول المزدوج من النهب وديمومة النظام من خلال زيادة الضرائب والطباعة المفرطة للعملة. صندوق النقد الدولي، ووزراء المالية، ومحافظو البنك المركزي لا يستطيعون فعل الكثير لتحجيم هذا الغول بما ان سياسات تمويل الصرف الأمني بطباعة العملة وكل سياسات بقاء النظام باي ثمن يتخذها قادة الأجهزة الأمنية الذين هم القوة الحقيقية وراء العرش. لا ينبغي لأحد أن يلوم الصندوق أو الوزراء على فشل الاقتصاد، فإن ذلك ليس من خطأهم فهم لا حول لهم ولا قوة ولا قرار . ولكن يمكن لومهم لانهم ارتضوا لأنفسهم ان يكونوا شاهد زور متواطيء مع نظام اجرامي ينحر في وطن .
باختصار , نجح النظام في نقل الحوار حول السياسة الاقتصادية الِي مرحلة ما قبل الايدلوجيا والمدرسة الاقتصادية و قضايا موقعة انتاج وتوزيع المداخيل في نقطة ما في مسار الخيارات من يمين ويسار وووسط . تحميل أي المدرسة الاقتصادية وتوجهها الايديلوجي اوزار المعانا ة الاقتصادية في السودان يعفي النظام علي الاقل جزئيًا من المسؤولية ويحول نقطة الضوء ومحور النقاش من حالة لصوصية واسعة النطاق الِي خلاف فكري , ايديلوجي, علمي يمكن فيه احترام الطرف الاخر حتى لو اختلفنا مع افكاره وسياساته .
معتصم أقرع
elagraa@gmail.com