سَرْجِي مَرْجِي إِنتَ حَكِيمْ ولَّا تَمَرْجِي؟!

 


 

 

روزنامة الأسبوع

الاثنين
حقَّ لمظاهري الرَّئيس الأمريكي جو بايدن أن يباهوا بأن الكشف عن مخبأ زعيم القاعدة أيمن الظَّواهري في كابول، واغتياله، من ثمَّ، في الثَّالث من أغسطس الجَّاري، لم يستغرق أكثر من عام واحد، بعد دخول بايدن البيت الأبيض بواشنطن، في 2021م، وإصدار أمره بتنفيذ «اتِّفاق الدَّوحة» التَّاريخي الذي أبرمته إدارة سلفه ترامب مع طالبان، في 29 فبراير 2020م، بسحب القوَّات الأمريكيَّة من أفغانستان، وتركها لسيطرة طالبان، بعد عشرين عاماً من دخولها ابتداءً في 2001م! وهكذا لم يتمَّ اغتيال الظَّواهري خلال سيطرة أمريكا على كابول، وإنَّما خلال سيطرة طالبان عليها! وللدِّقَّة فإن تعقُّب الظَّواهري وتصفيته استغرق، بوجه عام، إحدى عشر سنة منذ توليه زعامة التَّنظيم، فور اغتيال مؤسِّسه وزعيمه السَّابق أسامة بن لادن عام 2011م، بينما كان تعقُّب وتصفية الأخير قد استغرق اثنتين وثلاثين عاماً منذ تأسيس التَّنظيم.
ظلت واشنطن تتَّهم بن لادن باستهدافها في عدَّة جرائم دوليَّة، أشهرها عمليَّة الحادي عشر من سبتمبر 2001م. كما ظلت تتَّهم الظَّواهري بالتَّخطيط، والإشراف على تفجير سفارتيها بنيروبي ودار السَّلام، في السَّابع من أغسطس 1998م، والذي أسفر عن مقتل 224 شخصاً، وإصابة ما يزيد عن 5000، فضلاً عن الإضرار بمباني السَّفارتين وما جاورهما، مثلما تتَّهمه بالتَّخطيط والإشراف على استهداف المدمِّرة كول، أثناء رسوِّها، في الثاني عشر من أكتوبر 2000م، بميناء عدن، للتَّزوُّد بالوقود، مِمَّا أسفر عن مقتل سبعة عشر بحَّاراً أمريكيَّاً.
التَّقنية التي اغتيل بها الظَّواهري اتَّسمت بالدِّقَّة، حيث استهدفت شخصه، دون أيِّ فرد من أفراد أسرته أو معاونيه، وتمَّت بصواريخ «فايرهيل» التي أطلقتها طائرة مسيَّرة، خلال غارة أمريكيَّة استهدفته أثناء وجوده في شرفة منزله بالحيِّ الدِّبلوماسي وسط كابول! وفي حين وصفت واشنطن وجود الظَّواهري هناك بأنه خرق لـ «اتِّفاق الدَّوحة» الذي ربط بين خروج القوَّات الأمريكيَّة وبين التزام طالبان بعدم تقديم المساعدات اللوجستيَّة للإرهاب، اتَّهمت كابول، من جهتها، واشنطن بخرق نفس الاتِّفاق (!) فضلاً عن الاعتداء على السَّيادة الوطنيَّة. ويبدو أن ثمَّة أمرين كانا أهمَّ ما أهمَّ بايدن قبل إصدار أمره بتنفيذ العمليَّة، الأوَّل هو التَّأكُّد من قانونيَّتها، حيث أخذ، في ما يبدو، برأي مغرق في الشَّكلانيَّة مفاده أن مجرَّد الانسحاب من أفغانستان أنهى، تماماً، حالة الحرب التي ظلت قائمة بين الطرفين خلال السَّنوات العشرين الماضية؛ أمَّا الأمر الثَّاني فهو التَّأكُّد من مصائر الأمريكان الذين ما زالوا في أفغانستان (!) علماً بأنه ليست هناك معلومات حولهم!
تجدر ملاحظة أن ذكر «القاعدة» قد آلَ إلى خمود نسبي بعد اغتيال بن لادن وتولِّي الظَّواهري الزَّعامة، مِمَّا أتاح لبروز تنظيم «الدَّولة الاسلاميَّة ـ داعش» خلال نفس الفترة. وتجدر، أيضاً، ملاحظة الاغتيالات المتتابعة لبعض قادة داعش والحركات الارهابيَّة/التَّكفيريَّة الأخرى، ولعلَّ أهمُّهم أبو بكر البغدادي وأبو إبراهيم القرشي. كما تجدر، كذلك، ملاحظة أن ذكر داعش نفسها أخذ يخبو، تدريجيَّاً، لحساب الحركات الارهابيَّة التَّكفيريَّة الآخذة في التَّنامي والسطوع في بعض البلدان، خصوصاً الأفريقيَّة كـ «بوكو حرام وغيرها». وتجدر، أخيراً، ملاحظة أن كلَّ هذه الاغتيالات لم تستطع المحو النِّهائي للارهاب وتنظيماته، وعلى رأسها «القاعدة» و«داعش»، كما وأنه من غير المتوقَّع، بنفس القدر، أن يتمَّ هذا المحو، مستقبلاً، حتَّى في حالة اغتيال خليفة الظَّواهري القادم، محمَّد صلاح زيدان «سيف العدل»!

الثُّلاثاء
في 30 أكتوبر 2021م، بعد مرور أقلِّ من أسبوع على الانقلاب الذي قاده، في 25 أكتوبر، الفريق أوَّل ركن عبد الفتَّاح البرهان ضدَّ حكومة عبد الله حمدوك الانتقاليَّة، حيث فرض حالة الطَّوارئ، وحلَّ مجلسي السَّيادة والوزراء الانتقاليَين، واعتقل عدداً من أعضاء تلك الحكومة، وعلى رأسهم حمدوك نفسه، بدا الجَّنرال، ضمن مقابلة خاصَّة أجرتها معه وكالة «سبوتنيك» الرُّوسيَّة، ساخطاً، غاية السَّخط، على من يصفون عمله ذاك بأنه «انقلاب»، قائلاً إنه، في الحقيقة، مجرَّد «تصحيح مسار»! وشرح قائلاً بالحرف: «من يعتبره انقلاباً مخطئ، لأننا موجودون في السُّلطة، ولو كان انقلاباً لتغيَّرنا نحن أيضاً»! وكان أوَّل تعليق له على الانتقادات الدَّوليَّة لتلك الحركة أنه كان يتوقعها. لكنه أضاف كلاماً مفكَّكاً، يستحيل فهم علاقته بالأمر، ولا أعرف كيف ترجمه محرِّر «سبوتنيك»؛ قال: «لا يمكن الوثوق بالكثير من وسائل الإعلام، أو الاعتماد عليها، ولا تزال العديد من الحقائق مجهولة»!
كرَّت مسبحة الأيَّام، فإذا بالجَّنرال يتلجلج، ضمن مقابلة خاصَّة، أيضاً، أجرتها معه قناة «الحرَّة»، بتاريخ 19 يونيو 2022م، في ما يتَّصل بتسمية 25 أكتوبر، فعلى العكس من اليقين الذي كان أبداه حيالها، أطلق عليها تارة «انقلاباً»، وتارة أخرى «ما يقولون إنه انقلاب»، ووعَد، تارة ثالثة، «بإنهاء الانقلاب» .. وهلمَّجرَّا!

الأربعاء
مرَّت، في الثَّلاثين من يونيو المنصرم، الذَّكرى الثَّانية والثَّلاثين للانقلاب الاسلاموي على الدِّّبموقراطيَّة الثَّالثة عام 1989م. لم يحتفل بهذه المناسبة حتَّى أهلها أنفسهم. لكن، إن كان الاحتفال، بوجه عام، يعني، بالأساس، تذكُّر ما للحدث من فضل، فإن الانقلاب الذي درجنا على وصفه بـ «المشؤوم»، لم يعدم، إلى جانب «شؤمه» المرموق، فضلاً جديراً بالاحتفاء! فلو اقتصر، فحسب، على أهمِّ دروسه المبذولة للتَّعلُّم، خصوصاً ما تناوله بعض رموزه، لكفاه فضلاً! ذلك أن المرء قد يكذب على غيره، لكن يستحيل أن يكذب على نفسه، لا سيَّما إذا كان في ضميره شئ من اليقظة! لذا فإن أهمَّ هذه الدُّروس هو ما أمكن لهذه الرُّموز استخلاصه، بأمانة، من خبرة حركتهم في السِّياسة والسُّلطة، ومن ثمَّ الشَّهادة عليها، بذات الأمانة، رغم طعم العلقم الذي يخالطها في حلوقهم!
تعالوا، إذن، «نحتفل» مع بعض هذه الرُّموز بما أفادوا به حول «الانقاذ»، قبل سقوطها المدوِّي:
الطيب زين العابدين: «أحد أقاربي بمدينة الدويم، عندما يريد أن يصف شخصاً بأنه شديد الفساد ماليَّاً، يقول إنه (يأكل ناقة الله وسقياها)، وهي النَّاقة التي أخرجها الله من الصَّخر آية لقوم ثمود، وحجة عليهم، لها شرب يوم في الماء، ولهم شرب يوم معلوم. وقد نصحهم نبيُّهم صالح بألا يتعرَّضوا للنَّاقة المعجزة، أو لنصيبها من الماء في يوم شربها. فانبعث أشقاهم (قُدار بن سالف)، وكان رئيساً مطاعاً فيهم، فكذَّب الرَّسول، وعقر النَّاقة التي كانوا ينتفعون بلبنها، وذلك بعد أن أخذ البيعة من صغار قومهم وكبارهم. فغضب الله عليهم، وعمّهم بالعذاب، فلم يفلت منهم أحد (فكذَّبوه فعقروها فدمدم عليهم ربُّهم بذنبهم فسوَّاها ـ الشَّمس: 14). وبعد اطَّلاعي على الوثائق المدهشة التي نشرتها (جريدة التيَّار) عن فساد شركة السُّودان للأقطان، لا أتردَّد في وصف تلك الشَّركة بأنها (تأكل ناقة الله وسقياها) دون أن يطرف لها جفن! فالفساد الذي كشفته الوثائق يُعَدُّ بعشرات ملايين الدولارات، وقد استمر لعدَّة سنوات على حساب المزارعين اليتامى في مشروع الجَّزيرة، والمناقل، وحلفا الجَّديدة، ومؤسَّسة الرَّهد الزِّراعيَّة، ومعاشيِّي الصُّندوق القومي للمعاشات، ومساهمي بنك المزارع، وهؤلاء هم ملاك مقطوعة الطاري شركة السُّودان للأقطان! ويمتد إصبع الاتِّهام أيضاً إلى وزارة الزِّراعة والغابات، وبنك السُّودان، ووزارة الماليَّة، وعلى رأس كلٍّ من تلك المؤسَّسات الكبيرة قيادات اسلاميَّة نافذة في الدَّولة والحزب الحاكم، ولها تاريخ طويل في الحركة الاسلاميَّة. عليه فإن الفساد بهذا الحجم، ولتلك السَّنوات، ومن خلال تلك المؤسَّسات القياديَّة، يصم حكومة الإنقاذ نفسها بالفساد المنظَّم، والمقنَّن، وهي بذلك قادرة أيضاً على أن «تأكل ناقة الله وسقياها»!
عبد الوهاب الأفندي: «هذه التجربة أضرت بالإسلام، بل مثلت جريمة في حق الإسلام والمسلمين. وقد يحتاج الأمر الي عقود قبل إصلاح هذا الخلل. لم يكتف من يسمون أنفسهم الإسلاميين بتضييع فرصة قد لا تتكرَّر، بل ضيَّعوا تلك الفرصة علي أجيال قادمة، تماماً كما شوَّهت داعش الإسلام ونفَّرت منه. أعتقد أن أول كفَّارة لهذا الفعل هو أن يعترف هؤلاء بأن بينهم وبين الإسلام بُعد المشرقين، وأن يعيدوا السُّلطة إلي أهلها، ويقضوا ما بقي من حياتهم في الاستغفار، والتَّوبة، وردِّ الحقوق إلي أهلها، عسي ولعلَّ»!
التجاني عبد القادر: «كان تنظيمنا، في أواسط السَّبعينات، يعمل تحت الأرض. وأردنا ان نجد أماكن آمنة نخفي فيها أعضاء اللجنة التَّنفيذيَّة لاتِّحاد طلاب جامعة الخرطوم. فكان عدد الذين يملكون منازل تتسع لاستضافة ثلاثة أشخاص أو أكثر يُعَدُّون على أصايع اليد! أمَّا الآن فقد صار كثير من هؤلاء يملكون البنايات الطويلة التي تقدر أثمانها بما لا نستطيع له عدَّاً؛ وتدخل منزل أحدهم فترى ما لم تكن تسمع به في بيوت الباشَّوات، وتسأل أحدهم من أين لك هذا فيقول من (استثماراتي)، ماطَّا شفتيه بالثَّاء، ولا يذكر أنه، إلى عهد قريب، كان يسكن بيتاً من الجَّالوص الأخضر»!

خالد التجاني: «من الخفَّة النَّظر للأمور، بعد كلِّ هذه السَّنوات الطَّويلة من التَّجربة المتعثِّرة للحكم، وكأنَّ الأزمة هي مجرَّد مشكلة تنظيميَّة تتعلَّق بمغالطات حول وجود الحركة الإسلاميَّة الفعلي، أو دورها المرجعي المفقود أو المسلوب، أو احتكار فئة للقيادة واستئثارها بالسُّلطة. هذا كله صحيح جزئيَّاً، لكنه يبقى مجرد أعراض لمرض دفين، وليس، بأيِّ حال من الأحوال، سبباً حقيقيَّاً لجوهر الأزمة. فأزمة الحركة الاسلاميَّة الحقيقيَّة التي ينبغي الاعتراف بها هي أزمة فكريَّة ومنهجيَّة بالأساس، ترتَّبت عليها ممارسة ذرائعيَّة وميكافيليَّة للسِّياسة تحت لافتة شعارات اسلاميَّة برَّاقة، دون التَّقيُّد بما يمليه الوازع الدِّيني، أو الأخلاقي المكافئ لمن يتجرَّأ على رفع مُثل الإسلام التي تتطلب درجة عالية من الالتزام، والحسِّ الأخلاقي، والضمير الحي. مأزق الحركة الحقيقي ليس وليد اليوم، فالنَّتائج الكارثيَّة التي انتهت إليها، وتواجه تبعاتها الآن، تعود جذورها إلى ذلك التَّصوُّر الفطير المحدود الأفق الذي تسعى لتطبيقه في السُّودان بلا وعي بطبيعة تركيبة البلاد المتعدِّدة الأعراق، والثَّقافات، والدِّيانات، وبلا تجديد فكري يستوعب هذين التَّعدُّد والتَّنوُّع في إرساء تجربة إنسانيَّة ثريَّة تقوم على هدى الدِّين، وتسامحه، وسعته».

يسن عمر الامام: «أعتقد أن تجربة (حماس) أحسن، لأنها دخلت السُّلطة وخرجت منها وهى نظيفة، ومتماسكة، ولديها مدٌّ شعبيٌّ. لكن (الحركة الإسلاميَّة) دخلت السُّلطة وخرجت مضعضعة، وفيها فساد شديد، وفيها ظلم، وأدت مفاهيم معاكسة للقيم التى تحملها للناس، وزارني بعض الأخوان بالمنزل، وكان من ضمنهم حسن التُّرابي، وقلت لهم إنني أخجل أن أحدِّث النَّاس عن الإسلام فى المسجد الذى يجاورني، بسبب الظلم والفساد الذى أراه! وقلت لهم إننى لا أستطيع أن أقول لأحفادي انضموا للأخوان المسلمين لأنهم يرون الظلم الواقع على أهلهم، فلذلك الواحد بيخجل يدعو زول للإسلام فى السُّودان، أنا غايتو بخجل»!

الخميس
حملت الأنباء، بالخميس 4 أغسطس الجَّاري، أن وزارة المعادن تعتزم تحريك إجراءات قانونيَّة ضدَّ قناة سي إن إن، لبثِّها تقريراً «منافياً للحقيقة»، يخبر بأن شركة فاغنر الرُّوسيَّة تمارس «نهب ثروات البلاد من الذَّهب بواقع 223 طنَّاً سنويَّاً»!
مع ذلك أقرَّت شركة المعادن بأن «تهريب الذَّهب يمثِّل مشكلة للسُّودان»!
والجَّدير بالذِّكر أن هذه ليست المرَّة الأولى التي يجري فيها نشر هذا الخبر، إذ سبق لـ «نيويورك تايمز» نشره أيضاً!
وبعد .. هل لوزارة المعادن مستشار قانوني؟!

الجُّمعة
أراني صبيُّ البقَّال في حيِّنا، صباح اليوم، ورقة العملة الجَّديدة من فئة الألف جنيه التي أصدرها بنك السُّودان مؤخَّراً، وما كنت رأيتها من قبل، وإن كنت سمعت بها!
الشَّاهد أن هذه «الوريقة» صدرت لتقوم مقام مبلغ المليون جنيه القديم، والذي كان من يملكه يُعتبر «مليونيراً»! أمَّا الآن فقد لا يكفي لسداد قيمة مشترواتك من أكثر دكاكين الحلَّة تواضعاً! فمضيت أفكِّر في المآل الذي يمكن أن ننتهي إليه في ما لو واصلنا، لا قدَّر الله، «التَّطوُّر» بهذا الطريق!
على الفور قفز إلى ذاكرتي النموذج الزِّيمبابوي الذي كنت عرضت له ذات روزنامة في أواخر العام 2008م، على أيَّام الرَّئيس الخرافي روبرت موغابي. فعندما بلغت نسبة التَّضخُّم 90 سكستليون في المائة (9 أمامها 22 صفرًا)، رغم أن معظم بلدان العالم تحرص على ألا تتجاوز هذه النِّسبة في اقتصادها 2%، تفتَّقت عبقريَّة البنك المركزي في هراري، وقتها، عن إصدار «وريقة» نقديَّة من فئة الـ 100 مليار دولار زيمبابوي، وهو مبلغ، بالمناسبة، يكفي، بالكاد، لشراء رغيفة واحدة، حيث تساوي قيمته الحقيقيَّة أقلَّ من نصف دولار أمريكي!
لم يكن ذلك المآل قدراً مكتوباً تراه العين على جباه ملايين الفقراء الزِّيمبابويِّين، وإنما هي متلازمة الفساد الاقتصادي وعدم الاستقرار السِّياسي تفعل هذا .. وأكثر. هذه المتلازمة من أخبث العوامل المفضية إلى التَّضخُّم الذي يقع عندما تزيد كميَّة النُّقود المتداولة عن حجم المنتج من السِّلع والخدمات، ومن ثمَّ عن حجم الصَّادر، كمصدر أساسي للعملة الأجنبيَّة. وبسبب هذا التَّضخُّم الذي هزَّ استقرار الاقتصاد عميقاً، قرَّرت حكومة موغابي، عام 2009م، التَّعامل بالدُّولار الأمريكي، بدلاً من العملة المحليَّة القديمة، أملاً في تحقيق الاستقرار المفقود! على أن ذلك الأمل لم يتحقَّق، إطلاقاً، حيث أفضى تضاؤل حجم المنتج إلى تضاؤل حجم الصَّادر، وأفضى العامل الأخير، بطبيعة الحال، إلى شُحَّ الدُّولار الذي اتَّخذته زيمبابوي، للمفارقة، وسيلة للتَّبادل، فأخذ احتياطي البلاد منه يتناقص، مِمَّا اضطرَّها إلى العودة لاعتماد عملة محليَّة جديدة! لكن الزِّيمبابويِّين، بسبب فقدان ثقتهم في ثبات قيمة هذه العملة، وإزاء واقع كون السِّلعة التي يمكن شراؤها اليوم بما يعادل ألف دولار، سيبلغ سعرها غداً ما يعادل ألفي دولار، صاروا يسارعون إلى البنوك لاستبدال مدَّخراتهم من العملة الجَّديدة بالدُّولار الأمريكي، كي يضمنوا عدم تناقص قيمتها، رغم سعر صرفها البالغ التَّدنِّي، وهو 35 كوادريليون دولار زيمبابوي مقابل الدُّولار الأمريكي الواحد!
وللقصَّة بداية طريفة. فموغابي بدأ ثوريَّاً، وكانت لديه اتِّجاهات يساريَّة متطرِّفة. ومن ذلك أنه انتزع، عام 2000م، كلَّ الأراضي الزِّراعيَّة المملوكة للبيض، وأعاد توزيعها على المزارعين السُّود، بزعم أن تلك هي العدالة الثَّوريَّة. غير أن هؤلاء، بعدم معرفتهم طرق استثمارها، فرَّطوا فيها، فتدهورت، ولحقها الدَّمار، وراح الإنتاج ينخفض بشكل حاد، وأسعار الغذاء ترتفع بصورة متسارعة. وتوهُّماً منها أن الإصلاح يكمن في دعم الفقراء بالنُّقود لكي يتمكَّنوا من شراء الطَّعام، أقدمت الحكومة على طباعة المزيد من العملات الورقيَّة!
غير أن الأوضاع ارتدَّت بنتائج عكسيَّة، خاصَّة وأن زيادة الطلب على الدُّولار زادته شُحَّاً، والعكس صحيح. كما وأن العقوبات الدَّوليَّة التي فُرضت على زيمبابوي، بسبب انتزاع حكومتها الأراضي من البيض، فاقمت من سوء الأوضاع. وازداد الوضع سوءًاً بعجز المزارعين عن تسديد مديونيَّاتهم للبنوك، وارتفاع حجم الديون الهالكة، وانهيار القطاع المصرفي. كلُّ ذلك، بالاضافة إلى تضرُّر الاستثمارات الخارجيَّة، واضطرارها لتصفية أعمالها، وانعكاس ذلك على ارتفاع نسبة البطالة في البلاد، فضلاً عن استمرار الحكومة في طباعة المزيد من العملات الورقيَّة لدعم العاطلين عن العمل، باعتبار ذلك هو العمل الوحيد الذي تعرفه، ومن ثمَّ استمرار ارتفاع نسبة التَّضخُّم، والأسعار، وتكاليف المعيشة، تبعاً لذلك، حتَّى أن ثمن فنجان القهوة أضحى يساوي تريليونات الدُّولارات!
لمحجوب شريف أهزوجة على نمط السُّخرية الشَّعبيَّة الخفيفة، أطلقها يوم أقدم النميري على تجريب معالجات لاقتصاديَّات السُّودان زاعماً أنه يهدف منها لبناء «الاشتراكيَّة»، وذلك بقرارات التَّأميم والمصادرة، عام 1970م، والتي لم يكن لنظامه علم كافٍ بأساليبها العلميَّة، أو حتَّى معرفة يمكن الاستناد إليها بالمناهج التي ينبغي اتِّباعها على ذلك الصَّعيد، فأضحك شاعر الشَّعب عليه النَّاس بأهزوجته التي تندَّر بها الشَّباب آنذاك:
«إشتراكيَّة سَرْجِي مَرْجِي/ إنتَ حكيم وللا تمرجي/
إشتراكيَّة شختك بختك/ طالـع نازِل ضيِّع وقتك»!
هكذا ضيَّع النِّميري وقت السُّودان، وخرَّب اقتصاديَّاته بمشاركة عصابته من الرُّوَّاد الانقلابيِّين. وهكذا، أيضاً، تحوَّلت زيمبابوي، على يد موغابي، من اقتصاد وفير الموارد الطبيعيَّة، مزدهر القطاع الزِّراعي، وذي ثروة هائلة من رأس المال البشري، إلى بلد مدمَّر، واقتصاد عاجز، وشعب يرزح 72% منه في فقر مدقع، وزهاء ربعه في حال أقرب إلى التَّسوُّل، محتاجاً لتلقِّي المساعدات والمعونات الغذائيَّة، وذلك خلال أقلِّ من أربعة عقود قضاها هذا الطَّاغية في استخدام كلِّ الأساليب الفاسدة التي مكَّنته من البقاء متشبِّثاً بالسُّلطة!

السَّبت
مرَّت، في الرَّابع من يوليو المنصرم، الذِّكرى الثَّالثة لرحيل القائد الشِّيوعي، وعضو اللجنة المركزيَّة للحزب، يوسف حسين (1938م ـ 2019م)، وهو ابن أسرة ومدينة عمَّاليَّتين، إذ كان والده عاملاً بمصلحة الوابورات بالخرطوم بحري، حيث تلقَّى يوسف تعليمه الأوَّلي والمتوسِّط، قبل أن يلتحق بمدرسة خور طقت الثَّانوية، الثَّالثة، تاريخيَّاً، في ترتيب الثَّانويَّات المرموقة في البلاد، وفيها انتخب، عام 1957م، ضمن لجنة اتِّحاد الطلَّاب. وإثر إضراب شهير، في سياق نشاطه السِّياسي والنِّقابي، جرى فصله مع بقيَّة أعضاء اللجنة. لكنه كابد حتَّى التحق لدراسة الجِّيولوجيا بكليَّة العلوم بجامعة الخرطوم التي انتخب فيها، أيضاً، عضواً باتِّحاد الطُّلاب، مواصلاً نضاله من داخل الحزب الشِّيوعي والجَّبهة الدِّيموقراطيَّة، مِمَّا عرَّضه، أيضاً، للفصل السِّياسي حتَّى ثورة أكتوبر التي أطاحت بديكتاتوريَّة إبراهيم عبود (1958م 1964م). وعند قيام ديكتاتوريَّة النّميري (1969م ـ 1985م) واصل نضاله ضدها، مِمَّا عرَّضه للاعتقالات المتلاحقة، حتَّى حرَّرته الجَّماهير من سجن كوبر في انتفاضة مارس/أبريل 1985م.
عمل يوسف سكرتيرا سياسيَّا للحزب بمديريَّة الخرطوم، وفي سكرتاريَّة اللجنة المركزيَّة، وفي لجنة التَّقرير السِّياسي للمؤتمر الخامس. واعتقل عدة مرات خلال النِّظام الاسلاموي البائد، حيث تعرَّض للتَّعذيب في بيوت الأشباح التي كتب كتابا عنها، كما عمل ناطقا رسميًّا للحزب بين المؤتمرين الخامس، في 2009م، والسَّادس في 2016م.
ورغم غلبة نشاطه في الجَّانب التَّنظيمي، لكنه كان، أيضاً، صاحب مساهمات فكريَّة مشهودة. وقد أصدر، في يونيو 2014م، كتيِّباً مهمَّا، عن دار مدارك للنشر، بعنوان «نظريَّة بناء الحزب الثَّوري»، نقتطف منه ما يلي، بتصرّف غير مخل:
«اللجنة المركزيَّة وحدها هي التي تقرِّر وجود انحراف في الحزب، يمينيّاً كان أم يساريَّاً، وتفتح حوله صراعاً داخليَّاً، وتحدِّد قضاياه، ومنابره، ومداه الزَّمني، وآليَّة حسمه. ومع وضوح النُصوص الدُّستوريَّة، درج زملاء منفلتون على إعطاء أنفسهم حقَّ تجاوز الثَّوابت، وتأكيد (ماركسيَّتهم) و(طبقيَّتهم) بإعلان وجود (اتِّجاه يميني تصفوي) في الحزب، فيتَّهموا هذا الزميل أو ذاك بتبنِّى هذا (الاتِّجاه)، والتَّخلَّى عن الماركسيَّة، ويدمغوه بـ (اليمينيَّة)، بصورة دائمة، رغم أن زعمهم هذا باطل، حيث (الاتِّجاه) لا يكون (اتِّجاهاً) إلا إذا تبنَّاه عدد كبير، قلا يقتصر على زميل مفرد! ويبدو أنهم يقومون بعمليَّة إسقاط اعتسافيَّة للماضي على الحاضر؛ فقد كان ثمَّة، في تاريخ الحزب، بالفعل، (اتِّجاه يميني تصفوي) قاده معاوية واحمد سليمان. ومع أنه تمَّت هزيمته بضوابط الصِّراع الداخلي، إلا أن الإسقاط يجعل أصحابه من الزُّملاء يتوهَّمون أن (الاتِّجاه) ترك بقايا داخل الحزب، وهذا ما يمكن تسميته (فوبيا اليمينيَّة) الذي لن يقود إلا لتسميم جسد الحزب، وتأسيس مصدر للارهاب الفكري فيه، فلا بُدَّ، إذن، من التَّصدِّي الفكري لهذا الانفلات. فبدون ذلك سيبرِّر لنفسه تنظيم تكتُّل يخرق، بفظاظة، دستور الحزب تحت ستار إنقاذه، ويعرِّضه لخطر الانقسام! ومن المعلوم أن السّتار الذي استخدمته مجموعة معاوية وأحمد سليمان لتكتُّلها، وانقسامها، اتَّخذ، في البداية، شكل اتِّهام الشَّهيد عبد الخالق بـ (اليمينيَّة) حتف أنف الحقِّ الدُّستوري للجنة المركزيَّة في تقرير ذلك لو كان صحيحاً. كما أن من المعلوم، حاليِّاً، أن اللجنة المركزيّة لم تعلن للعضويَّة عن وجود (اتِّجاه يميني تصفوي) في الحزب، ناهيك عن أنَّها لم تعلن عمَّن يمثِّله»!

الأحد
ذكر ابن جرير أن الشَّاعر يزيد بن ربيعة بن مفرَّغ الحِمْيَرِي كان مع عباد بن زياد بسجستان، فاشتغل عنه بحرب التُّرك، وضاق على النَّاس علف الدَّواب، فقال ابن مفرَّغ شعراً يهجو به بن زياد على ما كان منه، وضمن ذلك:
«أَلَا لَيْتَ اللِحَى كانَت حَشِيْشَاً/ فَنعلِفُهَا خُيُولَ المُسْلِمِينَا»!
وقد وصف الباحثون الشِّعر لدى ابن مفرَّغ بأنه رسالة إنسانيَّة سامية، ومهمة تاريخيَّة كبرى، و«كلمة حقٍّ بوجه سلطان جائر» كقول رسول الله (ص) عن «أفضل الجِّهاد».
تمثَّل بذلك، أيضاً، الشَّاعر السُّوداني المصادم مدثر البوشي. فقد أورد حسن نجيلة في كتابه «ملامح من المجتمع السُّوداني، ج 1» قول محدِّثه عن تضجُّر البوشي من خنوع الشِّيوخ في زمانه للمستعمر الانجليزي، إلى حدِّ أن قام، عامداً، بتصحيف، لا تحريف، بيت ابن ربيعة المذكور، على النَّحو الآتي:
«ألَا يَا هِنْدُ قُولِي أَوْ أَجِيْزِي/ رِجَالُ الشَّرْعِ صَارُوا كالمَعِيْزِ/
أَلَا لَيْتَ اللِحَى صَارَتْ حَشِيْشَاً/ فَتَعلفُهَا خُيُولُ الإِنْجِليزِ»!

***
kgizouli@gmail.com
////////////////////////

 

آراء