(س) (٨٣) شَرط العين و الفضيحة مع الأجانب

 


 

فيصل بسمة
11 June, 2023

 

بسم الله الرحمن الرحيم و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.

العنوان مقتبس من المقولات المعروفة و المتداولة كثيراً بين السودانيين:
شَرَطتُوا عِينَا و فضحتونا مع الأجانب...
و دَخَّلتُونا في أَضَافِرنا...
و بِقِينا ما عارفين نَوَدِي وَشَّنَا وِين...
و غالباً ما تقال تلك العبارات مجتمعة و في سياق الذم ، و يكون ذلك عندما يعتقد المراقب/المعلق أن شخصاً أو أشخاصاً قد قاموا بفعل أو عمل أو سلوك يحسب أنه قد فارق المعقول و تجاوزه حتى بلغ مرحلة (شرط العين) و التي تعني الإحراج الشديد و المفضي إلى الخجل (الدخول في الأضافر) و الحيرة و الحيآء (ما عارفين نودي وَشَّنَا وين)...
و سياق العبارة يدل على النسبية ، و يفترض أن المراقب صاحب المقولة يستند في تعليقاته إلى مرجعية سلوكية مثالية الأعتقاد فيها أن (شارط العين) قد فارقها و لم يلتزم بها...
الدافع إلى تلك المقدمة هو الحديث المتداول في الوسآئط الإجتماعية عن السلوك و الأفعال و الأعمال و الألفاظ التي يظن/يعتقد أنها شينة و مشينة و غير مرضية و (شَارِطة للعين) و (مُدَخِّلَة في الأضافر) ، و التي تجعل المرء المنتمي إلى بلاد السودان لا يعرف يَقَبِّل (بِوَشُّو وِين) بل تجعله (يَزُوغ و يَضَارَى) ، بل ربما تكون أفعال إجرامية مكتملة الأركان تتخطى مرحلة (الشَّرِط) إلى حالة (قَد العين) و تعويرها فتعمى (عمى كَبَاسَة الدَّوَا اللُّمَاصَة)...
تلك الأفعال الشينة المشينة قد تم نسبها إلى بعض/كثير من السودانيين النازحين إلى أماكن داخل و خارج بلاد السودان و كذلك بعض من العالقين ، الذين فروا بجلودهم/ملابسهم و ربما بعض من متاعهم ، الغير منهوب ، من ويلات الحرب و القتال الدآئر في الخرطوم و أماكن أخرى من بلاد السودان ، و لكن يبدوا أن المقصودين بالتحديد هم النازحون من منطقة الخرطوم و ضواحيها إلى الدول الجوار الإقليمي في شمال الوادي و العالقون في دول شبه الجزيرة الأعرابية و الخليج ، و قد شمل الذم و اللوم سودانيين آخرين من غير النازحين/العالقين يقيمون في داخل و خارج بلاد السودان دفعهم الطمع و الجشع و العسر إلى القيام بأعمال و فعل أفعال جَدُّ شينة و مشينة حتى (الأطفال ما تعملهاش)...
و مثل جميع الأمراض و العلل فإن لمثل هذا السلوك الشين المشين المفارق للمألوف و الذي ربما يبلغ درجة الإجرامية مسببات تحتاج إلى طرق كشف و تشخيص حتى يتم التعرف عليها و من ثَمَّ إيجاد الوصفات العلاجية الصحيحة لها...
و تضم قآئمة المسببات بيئات و عوامل كثيرة معقدة و متداخلة تأثر على النفس الإنسانية و تترك بصماتها على فطرتها عن طريق الإضافات الإيجابية أو النواقص السلبية ، و قد أشارت التجارب الإنسانية أن هذه العوامل فيها:
- الأمن و الطمأنينة و الإستقرار في مقابل إنعدامهم
- المشاعر و الأحاسيس الإيجابية مثل: الأمل ، الفرح و السعادة أو السالبة مثل: الخوف ، الفزع ، الهلع و الرعب
- العافية في مقابل الأمراض و العلل العضوية
- الغنى و الفقر
- العلم و الجهل
- العقل و ذهابه
- الوازع الأخلاقي و إنعدامه
- البيئة الصالحة و تلك السيئة
- التربية و التنشئة على أسس المناهج المدروسة في مقابل البيئة المنفلتة التي تفتقر إلى القيم الأخلاقية
- تفاعلات الجسد و النفس مع أحوال:
- الدعة ، الراحة و النوم في مقابل الإرهاق ، الأرق و الإجهاد
- الشبع و الإرتوآء
- الجوع و العطش
و الشاهد هو أن هذه العوامل منفردة أو مجتمعة قد تدفع الإنسان إلى ممارسة:
١- أنماط من السلوك الحميد و المحبب و المقبول
أو ربما تقوده إلى طَرق
٢- سلوك و تصرفات غير إيجابية مغايرة لطبيعته و عاداته الروتينية التي يتصف بها و يمارسها
إن فطرة الأنفس الإنسانية المطمئنة و اللوامة هي حب الخير و فعله و إتباع السلوك القويم ، فقد جُبِلَتَا على ذلك بالإضافة إلى تجنب/تحاشي ممارسة الشرور و الأعمال الإجرامية و إحداث الأذى ، و كل شيء عدا ذلك فهو من صنع الإنسان...
أما النوعية الثانية من السلوك و الممارسات و العادات فتندرج تحت مسمى النفس الأمارة بالسوء التي تمارس الأفعال السالبة التي لا يقبلها العقل و العرف و الدين ، و ينتقدها المراقبون ، و تستنكرها المجتمعات ، و تنفر منها ، بل أحياناً تُجَرِّمُها و تضع لها العقوبات الرادعة ، بحكم أنها (شارطة للعيون) و (فاضحة أمام الأجانب) ، و التي تحتار حيالها الوجوه و تختلط بسببها السبل فلا تدري الأنفس المراقبة و الوجوه المتابعة إلى أين تذهب من فرط الخجل و الحيآء و جلد الذات!!!...
إن النظرة المتمعنة المتفحصة لقآئمة المسببات أعلاه و بعد إسقاطها/تطبيقها على بلاد السودان سوف يتضح أن كثير من ملامحها الغير إيجابية قد إنطبقت فعلاً على الشعوب السودانية و كانت جلية عبر جميع حقب حكم السودان الحديث بدون إستثنآء ، لكنها ربما كانت أكثر وضوحاً إبان فترة حكم الدولة المهدية و الجماعة الإنقاذية المتأسلمة (الكيزان) ، و اللتان قد جمعت بينهما الكثير من الملامح الغير إيجابية مثل: التطرف و التعصب الديني الذي يشوبه/يخالطه: الضلال و الدجل و القبلية و الجهوية و ممارسة الكبت/القمع و القتل ، هذا بالإضافة إلى الإقصآء و التمكين ، مع الأخذ في الإعتبار أن الثورة المهدية في موقع أخلاقي أفضل بحكم أنها بدأت كثورة حقيقية أزالت قوى إحتلال أجنبية ثم إنحرفت بعد ذلك ، بينما خرقت الجماعة (الكيزان) الدستور و انقلبت على الحكومة المنتخبة بواسطة الشعوب السودانية و استولت على السلطة بقوة السلاح هذا إلى جانب ريادة الجماعة في عالم الفساد و الإفساد...
و ربما يجد بعضٌ/كثيرٌ من الناس العذر للسلوك الشين و المشين الصادر من بعضٍ أو كثيرٍ من السودانيين النازحين و العالقين في قسوة المعاناة الناجمة من عوامل متداخلة سببها الحرب الدآئرة و القتال و ما صاحبهما من إنعدام للأمن و فقدان الطمأنينة و طغيان أحاسيس الشعور بالخوف و الهلع و الرعب جرآء ما تعرضوا له أو شاهدوه من قتل و إرهاب و تعذيب و معاملات وحشية و غير إنسانية من قبل مليشيات الجنجويد (الدعم السريع) ، إلى جانب عوامل: الجوع و العطش و الإرهاق و الإجهاد و ربما الأرق بسبب فقدان النوم و راحة الجسد و طمأنينة البيت الآمن ، هذا بالإضافة إلى صدمة تغير البيئة...
و الشاهد هو أن قلة قليلة من النازحين/العالقين السودانيين ينتمون إلى فئة المقتدرين مالياً ، أما الغالبية العظمى فتنتمي إلى شريحتي الفقرآء و المساكين المتدثرتين تحت أغطية العون المالي و السند الأسري و المجتمعي العابر للبحار و القارات!!! ، و الذين رغم عوزهم و عسرهم إتجهوا إلى شمال الوادي أو شبه الجزيرة الأعرابية و الخليج مسايرةً لظاهرة القطيع (حاكونا حاكونا) ، و معلومٌ أثر الفقر و المسكنة و المسغبة على السلوك الإنساني ، فالكثير من العلل و الأمراض الإنسانية: العضوية و النفسية و المجتمعية تعود أسبابها إلى تلك العوامل بصورة مباشرة أو غير مباشرة...
إن الجهل و ذهاب العقل و إنعدام الوازع الأخلاقي جميعها تجعل المصاب بها غير مؤهل لتقييم ما يقوم به من ممارسات و سلوك و أفعال لا أخلاقية/إجرامية مفارقة للعرف و العادات ، و الغالب أن الشخص المخطيء/المجرم ربما لا يعي أو يعتقد بأن ما يقوم به من أنشطة غير إيجابية لا تتسق مع المعهود و المألوف و قد تسبب الضرر و الأذى للآخرين و البيئة المحيطة به مما يؤدي إلى (شرط العيون) و جميع الملحقات المخزية و المخجلة ، و الغالب أن هذه العوامل ربما لا تنطبق على غالبية النازحين/العالقين السودانيين البسطآء لكن لا بد من وجود الإستثنآءات ، و لقد قيل أن لكلِ قاعدةٍ شوآذٌ...
و لقد دلت التجارب و الأبحاث تأثير الأمراض و العلل العضوية على أعضآء الجسد و أنسجته و فيها العقل و القلب ، و قد أبانت الأبحاث أنها تسبب الفتور و فقدان الرغبة أو عدم المقدرة على الفعل و العمل و الإحجام عن المشاركة ، و أنها قد تقود إلى الغضب و تحدث الإكتئاب و التغيرات المزاجية الغير إيجابية ، و ربما ينعكس ذلك ضبابيةً في التفكير أو لفظاً غير مستساغ أو سلوكاً فعلياً غير مقبول ، و أنه قد ينتج عن ذلك أفعال و ردود أفعال غير معهودة سلبية و ربما ضآرة و مؤذية ، و قد دلت التجربة و المعايشة اللصيقة أن الكثير من السودانيين و رغم طيبتهم الظاهرة إلا أنهم (لما تقفل معاهم) تصبح (أخلاقهم في نَخَرَاتِهم) و أحياناً تكون (ذي الزِّفِت) ، و لا أحد يعلم أن كان لذلك علاقة بالأمراض المزمنة الكثيرة التي إستوطنت بلاد السودان أو الطقس الحار أو الجينات الوراثية...
و ليس هنالك جدال حول تأثيرات البيئة و التربية و التنشئة على السلوك الإنساني سلباً و إيجاباً ، و أبلغ دليل على ذلك الخراب و الدمار الذي أصاب أجيال من السودانيين بسبب سياسات الجماعة الإنقاذية المتأسلمة (الكيزان) التربوية و التعليمية و مشاريعهم الفكرية التي يغلب عليها التطرف و الضلال (المشروع الحضاري الإسلامي و توابعه)...
و نسبة لأهمية التربية و التعليم لمستقبل الأمم فإن المجتمعات الإنسانية المتمدنة و المتحضرة تستثمر الكثير من الجهد و المال في مشاريعها التربوية و التعليمية ، كما تبدي الحرص العظيم على تعليم و تربية النشء على مناهج مرتكزة علي أسس و مباديء و نظريات تربوية و تعليمية مدروسة تم إختيارها بعناية ثم إختبارها و تنقيحها و إجازتها قبل تطبيقها في بيئات صالحة لتنفيذ العمليات التربوية و التعليمية...
الخلاصة:
إن تغييرات عديدة غير إيجابية قد طرأت على الشخصية السودانية عبر العهود بسبب عوامل كثيرة أبرزها ثلاث عقود من الحكم الفاسد الذي أسسته الجماعة الإنقاذية المتأسلمة (الكيزان) ، و الذي أفقرت إبانه الجماعة الشعوب السودانية و أعسرتها و قمعتها بالخوف و الرعب و الإرهاب و القتل ، كما تسببت الجماعة من خلال فكرها الضآل و مشاريعها الفاشلة و ممارساتها الفاسدة و الغير راشدة للحكم في الكثير من العلل المجتمعية و الإقتصادية البالغة الضرر ، هذا إلى جانب أنها فوتت/ضيعت على أجيال من السودانيين فرص التعليم الجيد و التطور و التنمية و الرخآء...
الختام:
الحل في معالجة المسببات و في مقدمتها المسآئل السياسية و مسألة الفقر...
و يبدوا أن صاحبنا لا يمل من تكرار خاتمته العلاجية التي أصبحت مملة و مَسِيخَة و (فَرمَالَة) و كما الأسطوانة القديمة المشروخة من كثرة إعادتها و تدويرها ، و هي أن الإنسان السوداني في حوجة مآسة و عاجلة إلى:
- (فَرمَتَة) و (إعادة ضبط مصنع) موزونة على برامج تربوية و تعليمية تزرع في أنفس و عقول و أفئدة النشء و الأجيال القادمة القيم النبيلة و مكارم الأخلاق و الأساسيات و المعينات على العمل النافع و كذلك قواعد التعامل السليم مع الآخرين و البيئة
- مواثيق مجتمعية تعلم و تغرز في الإنسان السوداني ، المُحَمَّلُ بعذابات/وزر ثلاث عقود من حكم/بطش/فساد الجماعة الإنقاذية المتأسلمة (الكيزان) ، معاني القيم النبيلة و مكارم الأخلاق المرتكزة على مرجعيات: كريم المعتقدات و الموروثات و الأعراف
و عندها سوف يعود الإنسان السوداني زولاً جميلاً مميزاً كما كان سابقاً و في وسط الزحمة باين بجلابيتو الناصعة البياض أو المَتَربَلَة و على رأسه طاقية حمرآء و عِمَّة و لابس مركبو الفاشري و خَاتِّي الشال على كتفه ، زول سمح و زين لكن من غير سيف و سكين ، و فوق ذلك تجده متسيد الساحة كلها بكرمه و ذوقه و ظرفه و طيبته التي تتجاوز حد العَوَارَة...
و الحمد لله رب العالمين و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.

فيصل بسمة

FAISAL M S BASAMA

fbasama@gmail.com

 

آراء