سعدت منذ أيام بصحبة أستاذين جليلين؛ البروفيسور علي محمد شمو والشيخ عبد الجليل النذير الكاروري. رافقتهما من أم الجود في مكة المكرمة حيث مبنى الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي، إلى مقر إقامتهما جوار المسجد الحرام. في هذا الوقت بُعيد صلاة العشاء، يزدحم شارع أم القرى بالعائدين من الصلاة، وتتسابق سيارات الأجرة نحو الحرم... بدأ بيننا حديث شيق عندما سألت عن تحليل سياسي يتوقع فك الارتباط بين الحكم الحالي والإسلاميين. قلت: التحليل يستند إلى تغير مواقف بعض الدول تجاه السودان. أجاب الشيخ عبد الجليل: لن يحصل ما يقوله التحليل، لأن دا معناه عزل الحكم عن جماهيره... ردَّ الأستاذ شمو: قد يحصل بصورة ما، لكن القيادة لا شك تضع في الاعتبار ما وقع للرئيس نميري عقب اعتقال الإسلاميين الذي عجل بانهيار الوضع. كنت مشدودًا إلى حديث الأستاذين ومشغولاً في الوقت نفسه بحركة الشارع الذي يزداد ازدحامًا وبطئًا كلما اقتربنا من المسجد الحرام. بدأت بسؤال عابر، فإذا بالحديث يتدفق من الأستاذين، وهذا ما قاله بروفيسور شمو: ـ "اللي أخطرني إنه حيحصل اعتقال للإخوان المسلمين في يوم السبت 5 مارس هو الفريق عبد السلام صالح لأنه كان مع الرئيس نميري في القصر بمناسبة سفره في اليوم التالي لحضور اجتماعات وزراء الصحة، جا غاشيني في المكتب، وقال حيحصل كذا وكذا في المسا والحكاية دي ما بيعرفها إلا أنا وإنت وأخوي في الجهاز... الحقيقة بلغني ومشى، وكان قلق ... في نفس اليوم بالليل كنت في الاتحاد الاشتراكي مع الأخ ياسين عمر الإمام في لقاء عابر، كان صديق ـ عليه الرحمة ـ وكان معنا الأخ كامل محجوب، كنا نتونس مع بعض، ففي موضوع كده قلت للأخ ياسين إن شاء الله نلتقي بكرة، وبعدين طوالي أدركت وقلت لكين إنت بكرة حتكون موجود؟ فدي خلتني يعني أتذكر هذا الموقف. بعدما الحكاية دي حصلت بيوم واحد، في الصباح الساعة تسعة كان في اجتماع عاجل مع الرئيس نميري. الاجتماع كان فيه هاشم عثمان وزير الخارجية، والفريق عمر محمد الطيب باعتباره النائب الأول ورئيس جهاز الأمن القومي، وبهاء الدين محمد إدريس مساعد رئيس الجمهورية، وكان الغرض من الاجتماع ده إنه كل زول بعد الساعة تسعة يبلغ جهة اختصاصه بما حدث. وصف علي شمو الرئيس بأنه كان منهكًا ويبدو أنه لم ينم، وعندما أنزل من رأسه (الكاب) كان أثره ظاهرًا على جبهته. وما يزال الحديث مع بروفيسور شمو: ـ "كنت أول زول يخاطب الرئيس، قلت ليه: يا ريس الحكاية دي عملتوها كيف؟ الخطوة دي تدل على أننا أبعدنا السند الوحيد... وحاول الرئيس إقناعنا بأن جماهير مايو كفيلة بالدفاع عن الثورة، ولا شيء يبعث على القلق. نائب الرئيس لم يرق له حديثي أمام الرئيس، وما كان مرتاح للكلام اللي كنت بقوله لنميري"! في الثلاثاء 26 مارس اندلعت مظاهرة طلاب جامعة أم درمان الإسلامية التي توجهت إلى جمعية (ود نميري) وأضرمت فيها النيران، وفي اليوم التالي سافر الرئيس بعد الظهر في وفد كبير إلى أمريكا، وكانت التظاهرات تحاول الوصول إلى مطار الخرطوم. تولى النائب الأول عمر محمد الطيب إدارة البلاد التي كانت تنزلق إلى مصير مجهول. يرى بروفيسور علي شمو أن الثلاثاء 2 أبريل كان هو اليوم الذي أظهر هشاشة الوضع، بعد خروج موكب الاتحاد الاشتراكي. في الأربعاء 3 أبريل خرجت مواكب حاشدة من جوار مستشفى الخرطوم. ثم كان إعلان الإضراب السياسي في الخميس 4 أبريل، ولكن قيادة الجيش كانت مترددة من اتخاذ قرار ولا سيما أن الضباط لم يكونوا موافقين على الفريق سوار الذهب والفريق تاج الدين عبد الله. وفشل اللواء عمر محمد الطيب في إقناع القوات المسلحة بإعلان حالة الطوارئ. يقول شمو: "قلنا للنائب الأول: عدم انصياع القوات المسلحة لأمر القيادة لا يعني سوى شيءٍ واحد هو سقوط النظام... في يوم الجمعة خاطب القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبد الرحمن سوار الذهب المصلين في مسجد المظلات وقال: "إننا بايعنا نميري على كتاب الله وسنة رسوله، ولا يمكن أن نتنكر له أو نخونه ويجب أن نصمد". يقول شمو: "سوار الذهب كان يذكر الناس بالبيعة، وكان غير موافق على قصة استيلاء الجيش على السلطة، وكان هذا من موقف أخلاقي أكثر منه موقف سياسي. ولذلك أنا كوزير للثقافة والإعلام استفدت من هذه الخطبة وأصدرت أمر للأخوة بأن يكرروها لليوم التالي. كررنا بث خطبة سوار الذهب في الإذاعة والتلفزيون. لقد تبين لي خطورة الوضع عندما طلبت من مدير الشرطة في ولاية الخرطوم اللواء إبراهيم أحمد عبد الكريم عربة تقلني إلى الإذاعة. كانت رسائل اللاسلكي تأتي بالأخبار من كل جهات العاصمة، وكان ظاهرًا تعاطف الشرطة مع المواطنين، وعدم التعرض للتظاهرات والاكتفاء بحفظ النظام". بقي خط الأجهزة الإعلامية مواليًا لنميري خلال يومي الخميس والجمعة، وقد وجهت بعدم بث أناشيد الثورة. وكان أول بادرة للخروج على توجيهات القيادة، عندما رفضت الإذاعة بث مادة مرسلة من اللواء عمر محمد الطيب تخص محطة الإذاعة التي كانت موجهة ضد القذافي. بعد ذلك أعلن العاملون بالإذاعة والتلفزيون انضمامهم إلى الإضراب، فاجتمعتُ بهم وتناقشت معهم على عدم توقف البث، لأن البلد في هذه الظروف تتعرض للانقسام والحرب الأهلية، ولا بد لأجهزة الإعلام أن تضطلع بمهمتها في الحفاظ على مصالح الوطن، ولم يعجب هذا الكلام أحد العاملين الذين ارتفع صوته بالاحتجاج، غير أن بقية الزملاء اعترضوا عليه"... يستكمل بروف شمو سرده قائلاً: ـ "في صباح السبت 6 أبريل، وقبل إذاعة بيان القوات المسلحة في التاسعة والنصف، اجتمع بنا النائب الأول عمر محمد الطيب، وقال لنا إنهم اتفقوا مع قيادة الجيش على استلام السلطة، فسألناه: وماذا علينا أن نفعله الآن؟ فقال لنا: كل وزير يذهب إلى مكتبه. ـ توجهت إلى مكتبي ومعي بعض المسؤولين، وهناك أيقنا أن الأمر قد انتهى، وقد سمعنا أن كبير ضباط (سي آي إيه) بالخرطوم واسمه ميلتون قال لعثمان السيد: " The Game is over لقد انتهت اللعبة"! ـ وأثناء وجودنا هناك اقتحمت الحشود مبنى وزارة الإعلام، وكان تصرف ساعي مكتبي هو ما أنقذ موقفنا، إذ أغلق علينا الباب من الخارج، وقال للداخلين: لا يوجد أحد هنا". (انتهى حديث البروفيسور علي محمد شمو). يرجع الحديث إلى الشيخ عبد الجليل الذي ظل طوال حديث شمو يرسل تعليقات مختصرة على النحو التالي: ـ جرى اعتقالنا صباح 5 مارس 1985م، واتهمنا نميري بالتآمر عليه ووصف الإخوان بأنهم (إخوان الشياطين)... وأنا سميت المعتقلين "عشرون صابرون" وهم مجموعة قيادات الإسلاميين الذين وجدوا أنفسهم فجأة في سجن الأبيض. ـ تكلم معنا الشيخ حسن الترابي وتساءل: ترى ما هي الجهة التي يمكن أن تسعى وتتوسط للإفراج عنا؟ قلت له: لا نحتاج إلى من يتوسط، لأننا لن نمكث سوى شهر واحد! نظر إليَّ الترابي في ريبة، وظنَّ أن هذا الولد ربما يكون مزروعًا! ـ لقد رأيت في رؤيا منامية قديمة أنني أمضي في الاعتقال سنتين بالتمام والكمال وأنني سأكمل حفظ القرآن في الحبس، وقد أخرجت من الحبس الأول قبل اكتمال سنتين وقبل إتمام الحفظ، وهذا تمام المدة... ـ لم نلبث في سجن الأبيض سوى أيام قليلة، عندما ظهرت شائعة بأن القذافي يخطط لاقتحام السجن واختطاف المعتقلين. نقلونا إلى سجن شالا في الفاشر. هناك كنت أجلس تحت شجرة أحفظ القرآن، فسمعت طائر "ود أبرق" وكأن صوته يردد: "جعفر هلك، والخير مَلَك، وحلاها حلال الشبك". ـ أمضينا في السجن شهرًا واحدًا فقط. واعتبرنا السنة الانتقالية في صالحنا، ففي قيادة المجلس الانتقالي كان سوار الذهب الأقرب إلى الإسلاميين، وفي مجلس الوزراء الدكتور الجزولي دفع الله الذي كان يحسب في التيار الإسلامي. ولم تستطع القوى التي سعت لإبطال قوانين الشريعة أن تنجح في ذلك. وانتخبت عضواً في الجمعية التأسيسية، وفي صباح تسليم الحكم بالبرلمان وجدت نفسي وجهًا لوجه أمام سوار الذهب إذ وصلت إلى القاعة في تمام الساعة التاسعة صباحا، وكان كلانا أول الداخلين... (انتهى حديث الشيخ عبد الجليل). لا شك أن هذه الشهادة مهمة من كلا الرجلين اللذين داعبتهما بكلمة (السدنة) والتي كانت تطلق في أول عهد الانتفاضة على أنصار ثورة مايو وعلى الموالين للجبهة الإسلامية (أستاذ شمو كان وزير الثقافة والإعلام، والشيخ الكاروري كان أحد عشرين قياديًا جرى اعتقالهم من الإسلاميين في خطوة مفاجئة)... وفي تقديري أننا لم نسمع من قبل لعلي شمو شيئًا عن انتفاضة أبريل، إذ قال لي بين يدي هذه الشهادة النادرة: "ربما لأول مرة نحن نتكلم، لأنه ما في حد طلب مننا... الناس اللي بيتكلموا في 6 أبريل هم العملوا الحكاية دي لكن نحن الجوة ما في زول سألنا ولا اتكلمنا"! osman.abuzaid@gmail.com