شخصانية التفاعل الكيميائي بين الصادق المهدي وعلي عثمان

 


 

 

 

تحتشد الاقلام في هذا التوقيت من كل عام لإجراء مراجعات عميقة لمجمل الاحداث التي جرت خلال العام، واستنطاق الشهود وسبر الاّراء لفهم مدلول الحدث والتوقيت وأثره علي المستقبل. ولا شك ان السودان خلال العام المنصرم قد شهد أحداثا جساما في السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع تعتبر كافية لإعراب جملة السودان في متن السياسة مبتدأ وخبرا، وذلك خوفا من نكتة الخواجات القديمة التي يكثر الدكتور اليكس دي وال من روايتها وترديدها وهي ان السودان يحتشد بالاحداث والحراك الظاهري الحيوي والعنيف الدال علي مخاض التغيير لكن لا ينتج من كل هذه الجلبة و الحراك سوي مؤشرات حمل كاذب تعود فيه الأوضاع الي ما كانت عليه.

رغم مغريات استعراض وتحليل احداثٍ العام المنصرم في السودان، لكني اثرت ان اكمل ما بدأته من استعراض لمجمل الكسب السياسي للسيد الصادق المهدي باعتباره اخر رموز جيل أكتوبر في الساحة السياسية، و قد اتيحت لي فرصة نادرة لمحاورته في مناسبة اجتماعية عابرة حول احداثٍ ماضية خلال فترة توليه رئاسة الوزراء في الديمقراطية الاخيرة، و للرجل موجدة سياسية تجاه الراحل الدكتور حسن الترابي والدكتور منصور خالد والسيد مبارك الفاضل.
قال الصادق المهدي في إفادات صحفية سابقة ان علاقته مع المفكر الراحل حسن الترابي تفتقد للتفاعل الكيميائي، اما علاقته مع منصور خالد فحاشدة بالخلاف والاختلاف اذ يقول ان كل رهانات منصور خالد خاسرة ويقول عنه منصور خالد انه ضحية التأرجح بين اكسفورد والجزيرة ابا اي انه يعاني من متلازمة صراع الحداثة والتقليد، وهو عين ما اشار اليه الشيخ الراحل حسن الترابي بان الصادق المهدي كان مفتونا بأزياء الفكر الغربي وتأثر بالتروتسكية في اكسفورد .
اما اشهر تعليقاته عن بيت الميرغني رغم احترامه الكبير لزعامته ومكانته الدينية بان رموزه تتطلع للزعامة والحكم دون ان تكلف نفسها عناء الإنفاق.
في كل علاقات هذا الزعيم الكبير تبدو خطوط الطول والعرض في علاقاته السياسية واضحة وجلية وهو لا يؤثر كتمان رأيه في اي كائن سياسي بما في ذلك جعفر نميري الذي رغم موشحات الدم الا انه يحفظ له مبادرته لتولي خلافته في الرئاسة في حضور وشهادة فتح الرحمن البشير، الا ان الصادق المهدي رفض ذلك حسب قوله لانه لن يتولي منصب عام دون انتخاب . ورغم خلافاته السياسية المشهودة مع الرئيس البشير الا انه يعتبره (زعيم ولد بلد) وسوداني اصيل ويعترف خارج الاضابير الرسمية ان انتقال السلطة من يده دون ترتيبات تحفظ سلمية الانتقال وتأمين البلاد ضد الفوضي مضر بالاستقرار والأمن والسلم في السودان لذا فهو يؤمن دون ان يعلن ذلك ان يبقي البشير في السلطة الي حين الاتفاق علي ترتيبات انتقالية سلسة عن طريق الانتخابات وتقنين الوضع الديمقراطي، اما عملية نقل او انتزاع السلطة بواسطة العنف من قبل الحركات والقبائل المسلحة دون شرعية انتخابية لهو مدعاة لحرب أهلية شاملة لا تبقي ولا تذر.
يُتهم الصادق المهدي الدكتور منصور خالد بتسميم وتعكير العلاقات السياسية بينه والزعيم الراحل جون قرنق، اذ كان قرنق في بدايات تاسيس حركته شديد القناعة باهمية التحالف مع حزب الأمة منذ اتفاق شقدم ولكن مع انضمام منصور خالد للحركة الشعبية تم دق اسفين وزرع الكراهية بين قرنق والصادق المهدي بل اصبح قرنق يظن ان عدوه الاول في السودان ليس الإسلاميين لان بينهما مشروع سياسي لتغيير السودان رغم تعارضهما بل الصادق المهدي لزعامته التاريخية واتساع قاعدته الشعبية. وهذا تفكير طاريء في ذهن جون قرنق واصبح اكثر وضوحا وتعبيرا عن نفسه بعد انضمام منصور خالد للحركة الشعبية حسب راي وتصور الصادق المهدي. وفِي سؤال للسيد الامام الصادق المهدي عن المراسلات بينه وجون قرنق قال ان بصمة وأسلوب وتفكير منصور خالد بادية في مبناها ومحتواها. وهذا يعني انه يُتهم منصور خالد بتحرير الردود باسم جون قرنق وهي ردود تنضح بالعنف اللفظي والمخاشنة الفكرية ولا تعبر عن موقف سياسي لمن يسعي للتغيير والإصلاح والسلام. ويستدل الصادق المهدي بان قرنق عقب عودته للخرطوم بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل وضع في قمة أولوياته إقصاء الصادق المهدي من الساحة السياسية.
لكن مع وضوح الموقف السياسي للصادق المهدي تجاه مناوئيه وحلفائه مدا وجذرا الا انه قليل الإفصاح والإبانة في موقفه وعلاقته بعلي عثمان محمد طه. وفِي سؤال عن سبب أعراضه عن التعليق علي ذلك مع بروز مشهد تاريخي اعترض فيه الصادق المهدي علي تولي علي عثمان محمد طه منصب زعيم المعارضة اثناء فترة الديمقراطية الثالثة لصغر سنه. في رده نفي الصادق المهدي ان يكون قد جري علي لسانه مثل هذا القول مؤكدا انه لم يعترض علي تولي علي عثمان لمنصب زعيم المعارضة حينها. و ألقي باللوم في التوتر الكاذب للعلاقة مع علي عثمان الي تدخلات الشيخ الراحل حسن الترابي الذي يؤكد الصادق المهدي انه اراد ان يحتكر علاقة التواصل السياسي معه دون غيره مع بقية قيادات الحركة وجملة نوابه ومساعديه. لذا فقد عمل الشيخ الترابي حسب رأي الصادق المهدي لعزل علي عثمان من التواصل معه تحت وميض مع الاتهامات التاريخية في العلاقة بين قبيلة الشوايقة والحركة المهدية. ويري الصادق المهدي ان جدة الامام المهدي شايقية الأصل بل عمدت جدته لوسمه بشلخ شايقي وفق اشهر اوصافه ورسومه. مستدلا ان الحركة المهدية كانت تشمل كل قبائل السودان ولم تعزل اي قبيلة او منطقة جغرافية، وعليه لا يوجد اي تناقض تاريخي بين ميراث الحركة المهدية وكسب قبيلة الشوايقة. خاصة وان ادعاءات قلم المخابرات ادوارد عطية وسلاطين باشا بان الامام المهدي قد امر بقتل كل الشوايقة عند فتح الخرطوم لهو زعم غير دقيق وادعاء كاذب لا يستند الي اي حقيقة تاريخية. وتحت كثافة هذا التشكيك التاريخي تم فصل التواصل السياسي بين قادة الإسلاميين الذين ينحدرون من أصول شايقية مع حركة الانصار والصادق المهدي بفعل فاعل في قيادة الحركة الاسلامية لمزيد من احتكار السلطة والتفاوض السياسي.
لقد ذهب الشيخ الترابي الي ذمة الله بعد كسب ممدود وجهير في سوح السياسة والفكر، لذا تبقي هذه المزاعم معلقة علي ذمة التاريخ ، ومع إقرار جميع الأطراف بضعف التواصل السياسي بين الصادق المهدي و علي عثمان محمد طه في فترات تاريخية سابقة لاسباب غير معلومة رغم ان البعض يرجح ان الصادق المهدي استثمر في العلاقة المباشرة مع قيادة الحركة الاسلامية وقيادة حكومة الإنقاذ وترك العلاقة مع علي عثمان الي نوابه ومساعديه، لكن يتضح لكل ذي عينين ان علي عثمان كان فاعلا ومؤثرا ونافذا في صناعة الاحداث السياسية خلال العقدين الاخيرين ، وهذا ما دفع كنستاينر مساعد وزير الخارجية الامريكية الأسبق ان يقول عقب اجتماعه مع علي عثمان في لندن بأننا اكتشفنا الرجل وقوة نفوذه في الحكومة. لذا يبقي السؤال لماذا أهمل الصادق المهدي التواصل مع علي عثمان عندما كان في قمة نفوذه وتأثيره منذ زعامته للمعارضة الاسلامية داخل قبة البرلمان الي وظائف التنفيذية والدستورية المتعددة داخل حكومة الإنقاذ في السابق؟
انا شخصيا ومن خلال اهتمامي المتواضع بالتاريخ وسياق الاحداث السياسية لا ارجح فتور العلاقة بين الصادق المهدي وعلي عثمان محمد طه في السابق لحمولات التاريخ الاثنية بين المهدية وقبيلة الشوايقة التي اتسمت بكثير من عدم الاستلطاف السياسي، كما أشكك في الزعم التاريخي بان الشيخ الراحل حسن الترابي قد لعب دورا سالبا في تكثيف حمولة التاريخ لقطع اي تواصل سياسي محتمل ببن الطرفين، مما جعل البعض يستدرك بان حديث الصادق المهدي في جامعة الأحفاد في النصف الاول من العقد الماضي عندما اشار للعلاقات التاريخية الحميمة بين المهدية وقبيلة الشوايقة وكذلك انحدار الامام المهدي مِن أصول وجدة شايقية لهو رد للمشككين في وجود اي توتر تاريخي او سياسي مع هذه القبيلة او حتي رموزها علي امتداد الحركة السياسية عند الإسلاميين او الاتحاديين.
ترجيحي الشخصي يشير الي سببن : الاول هو عزوف الصادق المهدي شخصيا لاي تواصل سياسي مباشر بينه وعلي عثمان في ظل وجود الرجل الاول في الحركة والدولة الشيخ الترابي ورئيس الجمهورية عمر البشير. وحسب التراتبية الهرمية ترك هذا الامر لنوابه ومساعديه وفِي هذا اغفال للأوزان والتأثير والنفوذ في وقتها.
السبب الثاني ان علي عثمان بات متأثرا بحكم كبار الإسلاميين في الصادق المهدي وعلي رأسهم حسن الترابي واحمد عبدالرحمن واحمد سليمان المحامي الذي يلخص في تردده السياسي في اتخاذ القرار وضعف حفظه للعهود وانه يريد ان تسجل كل البطولات باسمه. وله في ذلك مزاعم عريضة من الإسلاميين مثل فشل الحركة الوطنية في ١٩٧٦ عندما قال الصادق المهدي وهو علي اعتاب ام درمان أني لا اضمن تصرف الانصار اذا استحوذوا علي السلطة، وكذلك تجربة شعبان عندما قال لطلاب جامعة الخرطوم وعلي رأسهم علي عثمان keep it hot وسادعم الحراك والتظاهر بالنساء والشباب ، فتراجع عن وعده ولم يفعل شيئا حتي تم القضاء علي الحركة. ويحمل الصادق المهدي فشل الحركة لأخطاء الإسلاميين اذا أفشي الطالب حينها حسن مكي خطة الحراك والتحالفات السياسية فنفض الصادق المهدي يده عنها.
ربما يكون علي عثمان قد ورث من جانبه ميراث الشكوك المتبادلة في حفظ العهود بين الإسلاميين والصادق المهدي لذا لم يكن مسراعا مهطاعا في العلاقة السياسية مع الصادق المهدي وربما يكون حسب سمت اصوله الاجتماعية اكثر ميلا الي التحالف مع الحركة الاتحادية والختمية، لكن في المقابل لا تتوفر شواهد قوية لدعم مزاعم استثمار الشيخ الراحل حسن الترابي في ميراث الكراهية التاريخي بين المهدية والشوايقة لدق اسفين في العلاقة بين الصادق المهدي وعلي عثمان محمد طه.
و يبقي السؤال الافتراضي اذا كانت هناك علاقة إيجابية وفاعلة بين الصادق وعلي عثمان في بعض فترات تاريخنا السياسي هل كان من المؤمل ان يقود ذلك الي خيارات اخري ونتائج افضل في توجهات السياسة السودانية؟
البعض يقول ان صراعات الصادق المهدي للزعامة لا تتوقف منذ صراعه الشهير مع عمه الامام الهادي ومن ثم صراعه المشهود مع محمد احمد المحجوب ومن ثم بقية السياسيين الأزهري والشيخ حسن الترابي والشيخ علي عبدالرحمن ومحمود محمد طه ومنصور خالد ومبارك الفاضل، فرغم اختلاف توجهات هذه الشخصيات الا ان الحقيقة الساطعة هي ان صراعها مع الصادق المهدي كانت ابرز ملامح تاريخنا السياسي الحديث. فإذا وقع علي عثمان في تقاطعات المنافسة علي الزعامة مع الصادق المهدي كان سينال حظه من الصراع السياسي المفتوح.
ورغم ذلك يبقي الصادق المهدي مع اختلاف آراء الناس حوله وانقسامهم حول كسبه وشخصيته احد اهم الزعماء التاريخيين في تاريخنا السياسي المعاصر.


khaliddafalla@gmail.com

 

آراء