شريط فتاة الجلد.. ومازال التحقيق مستمرا … بقلم: إمام محمد إمام

 


 

 


أثار شريط فيديو بث في عدد من الفضائيات العربية والأجنبية لم يستغرق زمن بثه أكثر من دقيقتين لفتاة تجلد بالسوط في قسم شرطة الكبجاب بأم درمان، جدلا واسعا داخل السودان وخارجه. ولم تزل تداعيات هذا الشريط تترى في وسائل الاعلام المحلية والعالمية، على الرغم من تضارب المعلومات، وتناقضها في بعض الأحيان حول ما شهده الناس في تلك الفضائيات من منظر فيه مخالفة صريحة لروح القانون، ومجانبة واضحة لروح الشرع، اذ أن المخالفة القانونية واضحة في ما تبين من أمر معاقبة القاضي المسؤول عن هذا الحدث من قبل الهيئة القضائية، بعد حدوث واقعة الجلد في فبراير الماضي، حيث اتخذت رئاسة الهيئة القضائية اجراءات باغلاق مقر محكمة الموضوع في الكبجاب، ونقل القاضي لسماحه بتنفيذ الحكم بذلك الشكل المهين لكرامة المدانة والمسئ لحقوقها الانسانية. وأحسب أن مجانبة الشرع الاسلامي في ذلك لا تحتاج الى كثير أدلة واثبات براهين، من حيث أن الناس التي شاهدت ذلك الشريط استبشعت الواقعة، بينما روح الشرع أكثر حرصا على كرامة الانسان حتى عند انزال العقوبة الشرعية، فلا أظن أن التنفيذ لهذا الحكم التزم بالضوابط الشرعية والقانونية التي يجب مراعاتها عند تنقيذ مثل هذه العقوبة، لذلك كانت الادانة واسعة، والاستياء عظيم من قبل السودانيين وغيرهم، ممن شاهدوا هذا الشريط. وليس غريبا أن يعيد هذا الشريط الى أذهان كثير من السودانيبن حكاية الصحافية لبنى أحمد حسين التي كانت في حيرة من أمرها، بحثا عن مبررات وأساليب تمكنها من طلب اللجوء السياسي، هجرا للسودان، وهجرة الى الخارج، وقبل أسبوع من حكاية بنطالها الشهير أسرت بأمرها هذا لمن تثق فيه، وما لبث الخبر أن شاعت تفاصيله عند بعض زملائها وزميلاتها من الصحافيين والصحافيات، ولكن شرطة النظام العام فاجأتها فجاءة سرت لها، عند مداهمة حفل كانت فيه مع صوحيبات وغيرهن، فوجدت البنطال الضيق، وقالت بغياب الزي المحتشم، وتحدثت عن خدش الحياء، فكان البحث المضني عن كيفية رفع حصانة المنظمة الدولية التي كانت تعمل فيها آنذاك، ولكن لبنى بكيد المرأة الشاطرة، ودهاء الصحافية الباحثة ليس عن متاعب المهنة، من باب "مهنة البحث عن المتاعب"، بل البحث عن مسالك اللجوء ودروبه، سارعت بنزع الحصانة، واعتبرت محاكمتها عرسا يجب أن تكون الدعوة اليه ببطاقة فاخرة، قد لا تقل عن بطاقة عرسها الأول المشهود. وبالفعل حوكمت جلدا مع رسيلاتها، فجلدن ولم تجلد، ولكن ذاع خبرها وعم القرى والحضر، ولم تقل ماذا عن كيف تفشى الخبر؟ كما تساءل شاعرنا الحسين الحسن، ولكن لبنى أبلغت ويحها للمنظمات الحقوقية ووسائل الاعلام العربية والأجنبية، وانسلت من السودان خلسة، رغم مجاهرتها بأنها غادرت الخرطوم من مطارها الدولي، ليس عادة أو تديتا، ولكن حيلة وخدعة، من باب "الحرب خدعة"، وجعلت رقباء مطار الخرطوم على كثرتهم، لسان حالهم، وهم يودعونها، يرددون قول الشاعر العربي الحارث بن حلزة:
آذنتنا ببينها آسماء    رب ثاو يمل منه الثواء
وهنأت لبنى بتحقيق وطرها باللجوء، وهيئت لها الفرص من حيث تدري ولا تدري بترتيب مقابلات المسؤولين الأوروبيين، وعقدت لها المؤتمرات والندوات الصحافية في باريس ولندن، ومن ثم كتبت أو بالأصح كتب لها كتاب عن قضيتها باللغة الفرنسية، أفادت من ريعه المادي أيما فائدة دون انتظار الاستفادة من محتواه وموضوعه. وعلمنا من بعد أنها استقرت في قاهرة المعز، وابتعلت لها بعلا هناك.
أما شريط فيديو الفتاة التي جلدت جلدا مبرحا، استقطب عاطفة عارمة من قبل مشاهدية، وهذه عاطفة انسانية غير منكورة، ولكنه أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن خللا كبيرا في التعاطي الحكومي لمعالجة تداعيات مثل هذا الحدث، فبدلا من الاقرار بأن خطأ جسيما حدث في هذه الواقعة، مما استدعى رئاسة الهيئة القضائية للاسراع بمحاسبة القاضي وذلك بنقله من تلك المنطقة واغلاق مقر تلكم المحكمة، ولكن يبدو الاضطراب لم يقتصر على ادارة الشرطة التي تصدت للمدافعة عن ما جاء في هذا الشريط في بعض الفضائيات العربية والأجنبية، بل أن الهيئة القضائية أصدرت بيانا مضطربا بعد أن مضى أكثر من يومين من بث الشريط يتحدث عن تشكيلها للجنة تحقيق حول هذه الواقعة، بينما كان الأصوب أن يشير بيانها الى أنها اتخذت بعض الاجراءات التنظيمية، وفقا للقوانين واللوائح المنظمة لعمل المحاكم، وكيفية تنفيذ الأحكام القضائية، حسبما ذكرت صحيفة "التيار" في عددها أول من أمس (الثلاثاء)، وقد أجد لها عذرا، وان لم يكن مقبولا لدى الكثيرين، وهو أن مولانا جلال الدين محمد عثمان رئيس القضاء الذي علمت من بعض الأصدقاء أنه لم يكن موجودا في الخرطوم وقتذاك، مما تسبب في ارباك واضطراب لدى مسؤولي الهيئة القضائية، نتيجة للمضاغطة الاعلامية المتصاعدة محليا واعلاميا في تلكم الأيام، فكان من الضروري أن تدلي الهيئة القضائية بدلوها في تبيان ما يليها من أمر في هذه الواقعة القضائية التي أستغلت استغلالا كبيرا من مناوئ النظام الحاكم، وهم كثر داخليا وخارجيا. ولا أحسب أن مدافعة بعض مسؤولي النظام الذين أعتبروا أن هذا الشريط قد أستغل استغلالا سيئا من قبل أعدائهم وخصومهم، من حيث التوقيت، نسبة للظروف والملابسات المحيطة بموعد انفاذ استحقاق الاستفتاء على حق تقرير المصير حول جنوب السودان في يوم الأحد التاسع من يناير 2011، على الرغم من الدعاوى المرفوع من بعض الجهات القانونية ضد المفوضية القومية للاستفتاء لمخالفتها القانونية الصريحة لقانون الاستفتاء في المحكمة الدستورية التي بدورها قبلت هذه الطعون شكلا ومضمونا، يوم الثلاثاء الماضي، فأصبح ذلكم الموعد في علم الغيب. وكنت أتوقع أن تصدر الهيئة القضائية بيانا استدراكيا، تشرح فيه بالتفصيل، وان كان الشيطان في التفاصيل، الاجراءات التي اتخذتها فور وصول شكوى من المدانة حيال تنفيذ العقوبة. لأن تبيان الحقائق من الأمور المهمة لتوضيح كافة الملابسات في وقتها، لأنه في عصر تقتية المعلومات وتطور تكنولوجيا الاتصال، ما بات اخفاء الحقائق، وغض الطرف عن الأخطاء مهما صغرت، وتشكيل لجان التحقيق، من مسلمات السلامة، ودرء التداعيات، فلا بد من تمليك المعلومة الصحيحة للمواطنين عن طريق وسائل الاعلام المختلفة، مهما كانت قاسية ومؤلمة، لتفادي تضخيم الواقعة، والتمادي في الذلل والخطايا مستقبلا.
وأخلص الى أن شرطة أمن المجتمع، قيادة وقاعدة، يجب توعيتها، توعية صحيحة، بالمهام الوظيفية، مقترنة بضرورة التزام ضوابط التدين، وعليها ادراك أن مهامها ليست قاصرة في العملية الشرطية، بل هي في حقيقة أمرها مهام متعلقة بقيم دينية، في اطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولتعلم أن قيم الدين وضوابط التدين، تستدعي فهما متكاملا لهذه المهام القيمية التي تتعدى المهام الشرطية التي تدربت عليها، وخبرتها، نتيجة لخبرات تراكمية. كما يجب عليها التدرج في مهامها الوظيفي والقيمي، بسعة في الفهم الفقهي، وبرفق في الأداء الشرطي، بدءا بالستر، مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ستر مؤمن ستره الله يوم القيامة"، ومرورا بالترهيب، تعهدا مكتوبا، للتوبة النصوح، اقلاعا من الاثم، وتوطينا للنفس بعدم المعاودة، انتهاء بالتقديم الى النيابة، ثم المحاكمة، كل ذلك قي رفق ولين، وادراك لمفاهيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل الوظيقة في مدارج التعبد والتدين، لا التصيد، واستلذاذ عذابات الناس، مثل ضحك الشرطيين في الشريط، وهذا موقف مبكيات لا مضحكات، وادكار أن رحمة الله وسعت كل شئ. ومن الضروري أيضا أن تعمل قيادة هذا الجهاز على تصفيته من أعداء الانسانية، وغلاظ القلب، والجاهلين بأمر الدين ومفاهيم التدين في هذا الصدد، والفاسدين في الأرض، والوعي بالدخلاء والمغرضين، والذين في قلوبهم مرض، لأن هذه المهمة أمانة عظيمة، ومسؤولية كبيرة.
ولنستذكر في هذا الخصوص، قول الله تعالى: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأؤلئك هم المفلحون".
وقول الشاعر العربي:
ومن يصنع المعروف لا يعدم جوازيه    لا يضيع العرف بين الله والناس


Imam Imam [imam@asharqalawsat.com]

 

آراء