شطحات هيكلية: خمسة أسئلة وإجابتان!!

 


 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

1-3  

ليست مجرد نزهة تلك التي نزمعها معا حول حلقة الصحفي المصري الكبير محمد حسنين هيكل المبثوثة يوم الخميس 3 يونيو الجاري بقناة الجزيرة وقد أعيد بثها بالجمعة وبالسبت للمرة الثانية، والتي تطرق فيها لأحداث الجزيرة أبا ومقتل الإمام الشهيد الهادي المهدي (1970م) ولا كنا حولها نجمع بين الغضب والدهشة –كحال الأستاذ ضياء الدين بلال وربما كثير من المشاهدين لها والقراء لما دار فيها- بل هو شعور مرير يلف الروح ويغم القلب، مزيج من جيشان الذاكرة بالأيام المرة وطعم نكء الجراح التي لم ولن تندمل، الجراح التي سنحملها معنا حتى النهاية فتحلق مع روحنا يوم ترفرف مارقة من الجسد الفاني الذاهب مع أوراق السدر ورائحة الصندل، يدفنون جميعا وقد حملوا في ذلك البرش الأبيض والعنقريب!

سنقدم اليوم لحديثنا حول حلقة هيكل بأسئلة، ونأتي في الحلقة القادمة على بعض الحقائق وبعض الأفكار!

علينا أن نقول في البداية إن الأستاذ محمد حسنين هيكل هو اسم كبير في سماء الإعلام العربي من قلبه النابض- مصر.

ونحن السودانيون قد وصفنا من قبل بلسان الدكتور –الكيني الأمريكي- علي مزروعي بالهامشية المتعددة فنحن هامش العالم العربي وهامش أفريقيا وهامش العالم الإسلامي، وحينما أخرج المؤرخ البريطاني ريتشارد هل مذكرات بعض الرحالة الأجانب في ديارنا في القرن التاسع عشر سمى كتابه (على تخوم العالم الإسلامي). نحن السودانيون إذن من التخوم – من الهامش.

أما الأنصار –أهل أبا- فمع كونهم أكبر كتلة إسلامية بالبلاد إلا أنها مهمشة في كتابة التاريخ، يكتب بقوافل تدك سنابكها رؤسهم، وآلامهم من كتابته تتضاعف. حتى أننا مرة ونحن نزور مكتب الأستاذ كمال الجزولي دهشنا لأنه يعلق في حائط مكتبه مثلا يقول: إن الروايات ستظل تمجد صيادي الأسود حتى تتعلم الأسود الكتابة! أو ما معناه! نعم، قلنا في نفسنا هذا المثل ينطبق علينا نحن! فالتاريخ دائما يكتبه صيادو الأنصار، ولم يتعلموا بعد الكتابة! ولكن قوم الجزولي –الشيوعيون- شاركوا دائما في كتابة التاريخ وهم لنا في بعضه صائدين، أحداث أبا وودنوباوي والكرمك التي نحن بصددها خير دليل، وهذا شأن آخر لنا له عودة بإذن الله! وللاستدراك نقول، إن الأستاذ الجزولي قد أثبت لنا لاحقا في كتابه (الشيوعيون والديمقراطية: للشراكة الحقيقية أم لذود الطير من مر الثمر) بأن انطباعنا ذلك لم يكن سليما، فللشيوعيين أيضا أوجاع لم يؤرخ لها كما يجب! إذن كلنا لنا أوجاع. والتاريخ لم يكتب بعد بشكل يظهر لكل ذي حق حقه، الدعوة لهيئة الحقيقة والإنصاف التي كررناها ربما سدت الحاجة، ولكن لماذا يسد الناس عنها الآذان بطينة وبعجينة؟ وحتى تقوم هذه الهيئة فلا بد للكتاب الصادقين أن يبعثوا الحقيقة.

سؤال أول: ترى متى نتعلم الكتابة؟!!

إذن، حينما يهجم هيكل الذي تسنم ذروة الإعلام العربي في قلب ذلك العالم النابض (حسب تعريف ذلك العالم لنفسه) بمقالاته، وكتبه ألفية الصفحات، والذي حينما اعتزل الكتابة في 2003 ظل على تلك الذروة ببرنامجه التلفزيوني الذي يبث كل خميس ويعاد كل جمعة من قناة الجزيرة بقطر، ظل يروي تجربة حياته ويحلل أحداث التاريخ ويأتي بالوثائق والأفكار. هيكل، الذي حتى حينما كان يمس دول القلب العربي كان أهلها يتضيمون من سهمه النافذ.. اشتكى منه الأرادنة يوم قال ما قال حول الملك حسين رحمه الله متهما إياه بالعمالة للمخابرات الأمريكية، واشتكى منه المغاربة يوم قال ما قال حول تعاون الملك الحسن رحمه الله مع إسرائيل، واشتكى منه العراقيون وغيرهم، وفي كل مرة كان صوت هيكل هو الأعلى.

(ساعة مع هيكل.. تجربة حياة): جرعة أسبوعية تجعل هيكل يخاطب الملايين العربية عبر نافذة شاهقة هي قناة الجزيرة تحوز برغم شانئيها الكثر على درجة مشاهدية هي الأعلى في العالم العربي. فماذا سيفعل السودانيون عامة؟ والأنصار خاصة، حينما يتعرض هيكل لتاريخهم عوسا فيه بغير الحق؟ هذا هو السؤال الثاني!

في الساعة قبل الماضية تعرّض هيكل لأحداث الجزيرة أبا الدامية في مطلع سبعينات القرن العشرين، حينما دكت الجزيرة أبا الآمنة والتي كانت قد حمدت ربها أن أزمة المواجهة مع النظام المايوي قد انقضت، ولكنها فجأة قصفت بالمدافع وبالطائرات ودفن مواطنيها بالمئات. قال هيكل إنه وبسبب استماع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لنصحه فإن الطيران المصري لم يشارك في القصف وعدل عن ذلك في اللحظات الأخيرة. وتعرض بعدها لحادثة استشهاد الإمام الهادي المهدي (1922-1970م)  إمام الأنصار ذي الأعوام الثمانية وأربعين وقال إنه مات مسموما بمانجو ملغومة قدمت له!

سؤال ثالث: ترى ما هي حقيقة الأحداث؟

هيكل، وصفه بعض كتاب مصر بأنه نجيب محفوظ الإعلام المصري. ولكن ما يكتبه يصدق عليه كثيرا ما قاله أبو الطيب رحمه الله حول شعره:

أنام ملء جفوني عن شواردها               ويسهر الخلق جراها ويختصموا!

وقد اطلعنا على مقالة منشورة في عدد من المواقع الإسفيرية للكاتب د محمد عباس بعنوان: نخبة مدمَّرة في أمة مخدَّرة: هل يتنبأ هيكل أم يؤلف أم يخرف؟ وفيها عنوان جانبي: رسالة خطيرة يسرّبها هيكل!

يعلق الكاتب على حديث قاله هيكل في حلقته يوم الخميس 25 مارس 2010م وهو يعرض لمشاهديه صورة قديمة جمعت الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر بالرئيس الحالي حسني مبارك مع بعض قادة الجيش المصري ويقول إن الصورة تحمل في طياتها نبوءة مستقبل مذهلة، ففي خلال أشهر مات أو أبعد كل من فيها وبقي الرئيس مبارك، مشبها لموقفه وهو ينظر للصورة (كأن عرافة دلفي بتديني نبوءة عن شكل المستقبل في مصر في السنين الطويلة القادمة، طول ما أبص في هذه الصورة أنا لأنها صورة في لحظة خطيرة في وقت حرج لكنها صورة منبئة عن الكثير جدا مما كان خافيا ومما جرى ولا يزال يجري. تصبحوا على خير(! ثم طفق الكاتب يذكر نبوءات دلفي في الأساطير اليونانية، وهي التي تقول نبوءات لا يفهما إلا الكهنة. قال عباس: (محمد حسنين هيكل ذكي وحصيف. دعنا الآن من الصواب والخطأ والصدق والكذب بل ومن الحلال والحرام. ولنكتف بالاتفاق على أنه ذكي وحصيف. وأنه لا يتسم بالرعونة والحماقة والطيش. لذلك لن يتورط كما تورط مصطفى الفقي عندما أعلن أن موافقة أمريكا وعدم ممانعة إسرائيل شرطان أساسيان لاختيار الرئيس القادم). وأوّل عباس كلام هيكل بأنه ربما كان يشير لنبوءة دلفي حينما قالت لسائليها عن الحروب الفارسية: ويحكم لا يوجد أمل! أو ربما كان يشير لنبوئتها الأخرى حول أوديب الذي قتل أباه وتزوج أمه بأنه ربما كان يشير للمؤامرات في وسط النخبة الحاكمة وللتوريث في مصر!

ينام ملء جفونه عن شواردها.. ونسهر ونختصم؟ إن خصومتنا نفسها ليس مما يأبه له  هيكل.

إنه كان أكثر (رعونة وحماقة وطيشا) معنا من موقفه حين ذكر طرف الحديث وصمت يوم الصورة وقال: تصبحون على خير! هنا، عن السودان وعن الأنصار، فإن هيكلا يجري وحده، والقوم لا يُخشى منهم!

مكثنا في مصر التي آوتنا سنين وفتحت أبوابها لنا بعد أن ضاقت بنا بلادنا بيد العسكر الإنقاذي، وهناك أذهلنا ما في مصر من مؤسسات ضخمة ومنها الأهرام المؤسسة الإعلامية الراسخة، ووجدنا في مصر أخوة تاريخية متجذرة، ووجدنا مجتمعات تكاد تكون استنساخا للسودان في النوبة، مجتمعات مضطهدة اطلعنا على أدب كتابها فكأنهم ناسلون منا أو نحن منهم يتحدثون عن (دوامات الشمال) وهذا اسم رواية للأديب النوبي حسن نور، يذكر كيف يستخف أهل شمال مصر بهم.. وقرأنا كتابا ممهورا باسم الدكتور ع.ع بعنوان: تراث العبيد في حكم مصر المعاصرة. يحلل الدكتور -الذي أخفى هويته خوفا من غضب مواطنيه وبطش السلطة – تاريخ بلاده مستندا لأثر فترة المماليك في المجتمع المصري، ويقول إن من أثرهم –وقد كانوا ينشأون في جماعات من الرقيق الأبيض المجلوب من جنوبي أوربا- فكرة البتوع فلكل قائد تبع، وفكرة الرئيس والمرئوس في التعامل بين الناس على أدنى مستوى!

ويقر في ذهن كثير من أهل شمال مصر أن النوبة السفلى والعليا من أهل جنوب مصر والسودان تبّع لهم وعبيد لا غير. كما يقر في ذهن النخبة الحاكمة أن أهل شمال الكرة الأرضية غربيها أو شرقيها للدنيا رؤساء!

هيكل، حينما يؤرخ لأسياد الدنيا بالتصنيف المذكور –الأمريكان- يحرص ويدقق، ويطلع حتى على آخر وثيقة ويعرف التطورات وينبه لها الغافلين عما جرى من مياه تحت الجسر منذ أيام عبد الناصر وحتى الآن. لكنه حينما يؤرخ للعبيد في عرفهم، لا يهم.. هل مات الإمام الذي يدين له الملايين بالولاء بالمانجو، بلدغة عقرب أم بسلاح ناري؟!

يروى عن هيكل قوله: "سلامك مرتبط بمعرفة الآخرين أنك قادر على المواجهة".

هيكل يعرف أننا لسنا قادرون على المواجهة! لا نملك الأهرام ولا الجزيرة، ولا دور النشر البراقة، نحن نقرأها ونشاهدها فقط! كان يعرف يوم عيّر الرئيس أنور السادات بدمائه السودانية أننا لسنا قادرون على المواجهة.

ويوم كذب في تاريخنا ذلك الكذب الفاضح. كان يعرف أننا لسنا قادرون على المواجهة!

سؤال رابع: متى يُخشى منا؟

والسؤال الخامس: لماذا يذكر هيكل ما يذكره الآن؟

هذه الأسئلة الخمسة ملقاة على قارعة الطريق، وسنحاول فقط الإجابة على السؤالين الثالث والخامس لأن بقية الأسئلة تتعلق لا بالحقائق التي جرت بل بالأوجاع والآمال! وهي مما لا تحده عبارة!

نواصل بإذن الله.

وليبق ما بيننا

Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]

 

آراء