شعب فقد إنسانيته

 


 

 


بسم الله الرحمن الرحيم
علامات استفهام



لا اكتمكم اننى قد ترددت طويلا بعد مقالى عن محاكمة الفتاة الخرساء٠ فقد أردت بذلك المقال الحزين ان يكون فاتحة جولة جديدة من الكتابة٠ ولم يكن المقال هياما عاطفيا او سياحة خيالية او صرخة حماسية غوغائية يطلقها سياسى  بديلا لفعل غائب او حكاية مسلية لازالة الملل عن القارئ٠ و لم ارد بها مدح شخص او ذم آخر٠ كان المقال دعوة للحراك و أستثارة لنخوة كنت اعرف أنها كامنة فى قلوب السودانيين٠ أردتها نجدة لفتاة سودانية معاقة ظلمها أهلها و ظلمها القضاء ثم ظلمها المجتمع حين أغلق الاذن عن صرخاتها و أستكان للصمت و اللامبالاة٠
ولكن الامر انتقل عندى من الخاص الى العام و من قضية فتاة مظلومة الى قضية انسانية أخفق فيها شعب باكمله٠ نشر المقال على اوسع نطاق وانتظرت اسبوعا ثم اسبوعىن ولم يفكر احد من المسئولين فى القضاء او مكتب النائب العام فى رفع ذلك الظلم او انكاره او تبريره، كانما الظلم الذى حاق بها حين استغلت عاهتها، و امر القاضى بجلدها ١٠٠ جلدة دون تحديد مسؤليتها الجنائية، و رفض القاضى الاثبات العلمى الذى اكد دعوتها، ووجود قاض يعترف فى القرن الواحد و العشرين انه  لا يؤمن بقرائن العلم و لا ياخذ  الا بقرائن الاقرار و الشهود ، كانما كل تلك امور عادية لا تثير استنكار احد
و لقد كنت اعتقد لسذاجتى ان الامر لا يحتاج لاكثر من اعلان يعيد الحق لاصحابه و ان قلوب اهلى ستخفق و انا اعرفهم طيبين معافين لا يظلمون و لا يتركون احدا يظلم٠ ولكن خاب املى : عرف اهلى وسكتوا٠ حتى الذين وقعت عليهم المسئولية٠ و لم يستيقظ احدا من الناشطين و الناشطات فى لجان حقوق الانسان و حقوق المراة و حقوق المعاقين و حقوق الطفل كأنما عضويتهم فى هذه اللجان لمجرد المباهاة و حضور المؤتمرات الدولية و صرف البدلات فى اسواق العالم٠
لماذا يكتب الكاتب  فى بلادنا و لأى هدف او غاية؟ مؤذن مالطة اصبح مادة للسخرية لانه يؤذن فى بلد لا يذهب فيه احد الى الصلاة؟ و لماذا يحقق المحققون فى جريمة لا يعاقب على ارتكابها احد 
و صاحب الكلمة اكان كاتبا او داعية او شاعرا لا ينشط للكتابة اذا لم يستطع ايصال كلمته لمن يخاطبهم او ينجح فى نقل شعوره اليهم٠ و المجنون وحده هو الذى يخاطب جمعا من الخرس الذين لا يسمعون٠ و كما تقول الناقدة الامريكية اليزابيث درو ان القراءة - او تلقى الكلمة باى صورة - يجب ان تكون كشفا جديدا يؤدى الى مزيد من دراية الانسان بنفسه ، و دعوة لكى يتمعن و ينصت للكلام وهو مشدود اليه بقوة تاثيره و سحره. و كما يقول تولستوى ان الفن عملية انسانية فحواها ان ينقل انسان الى الاخرين الاحاسيس التى عاشها فتنتقل اليهم
بهذا الارتباط العضوى بين صاحب الكلمة و جمهوره كان المبدع يحس بعظمته و اهميته٠ كما قال احدهم : نحن صانعو الموسيقى و نحن اصحاب الاحلام. نهيم على سواحل البحار المقفرة. و مع ذلك سنظل نحكم العالم و نهزه الى الابد . وقد اعلن الشاعرالرومانتيكى شللى ان الشعراء هم المشرعون لهذا العالم . و يشاركه الرأى ييتس الذى يراهم صوت الضمير الاكبر.
و فى اطار هذا الشعور الطاغى بعظمة المبدع يقول بليك : 
الى بقوسى من الذهب الملتهب، فلن اوقف صراعى الفكرى
و لن   يغفو   سيفى فى  يدى   حتى    نبنى   دنيانا  الجديدة 
و كان شاعر العرب الاول ابو الطيب المتنبى يعلن للعالم فى فخر :
و ما الدهر الا من رواة قصائدى      اذا قلت شعرا اصبح الدهر منشدا
فسار  به  من  لا   يسير  مشمرا     ؤغنى   به  من  لا   يغنى   مرددا
و جئنا نحن فى عالم الخرس و اللامبالاة . وتلك مصيبة كما قال المتنبى
و من البلية عذل من لا يرعوى         عن جهله و خطاب من لا يفهم
و ماذا اجدى حديثنا عن الفتاة الخرساء و ماذا سيجدى حديثنا عن المقهورين . و ما فائدة كشف الظالمين و الجاهلين و الفاسدين، ماذا يجدى ما يكتبه الكتاب و تنشره هذه الصحف التى تتوالد و تتكاثر و لا يقرؤها احد الا من وزعت عليه مجانا او استاجرها لبعض الوقت
مثل هذه اللامبالاة تقتل اى كاتب جاد يكتب ليقول شيئا. و اللامبالاة حين تبلغ هذا الحد فى امة من الامم          تصبح مرضا قاتلا كنقص المناعة فى الانسان و التى تجعله عاجزا عن مقاومة جراثيم الامراض التى تغزوه حتى ترديه قتيلا
و هل جئت بغير الذى قاله رب العزة فى الذين لا يرون و لا يسمعون. وان رأوا و سمعوا لا يابهون
تقول الاية  "و كأى من قرية اهلكناها وهى ظالمة فهى خالية على عروشها " و قوله تعالى "الم يسيروا فى الارض فتكون لهم قلوب يفقهون بها او آذان يسمعون بها فانها لا تعمى الابصار و لكن تعمى القلوب التى فى الصدور" صدق الله العظيم

mohammed shoush [mi_shoush@hotmail.com]

 

آراء