بسم الله الرحمن الرحيم
هبطت بي طائرة "الخطوط الجوية لشرق إفريقيا" في مطار هيثرو لندن في أوائل أغسطس 1971 قادماً من كمبالا يوغندا دون توقف، أي overflying Sudan، وكان ذلك بتدبير من دبلوماسي متنفذ بالسفارة السوفيتية بعنتبي إسمه (الحركي) ألكساندر، لعله مندوب الكي جي بي هناك، وقد ألقى في روعي إنه مكلف من قبل "منظمة إنسانية" روسية بمساعدة ضحايا البطش والملاحقة في أعقاب انتكاسة حركة 19 يوليو، التى أوشكت أن تأتي بالشيوعيين مستفردين بالحكم في السودان، بعد التخلص من حلفائهم القوميين العرب، غير أن الأخيرين (النميري وخالد حسن عباس وأبو القاسم محمد إبراهيم وأبو القاسم هاشم وزين العابدين محمد أحمد عبد القادر ومامون عوض أبو زيد...إلخ وبعض حلفائهم مثل المقدم عمر الحاج موسي والدكتورمنصور خالد) عادوا للحكم خلال إثنين وسبعين ساعة، عبر إنقلاب مضاد بمساعدة حكومة السادات المصرية ونظام القذافي والمخابرات البريطانية المتواطئة MI6 :
(بإيعاز وتحريض من تايني رولاند رئيس شركة Lonrho "لندن/ روديسيا"، أكبر وسيط كاتاليستي للمخططات الإمبريالية البريطانية بالقارة الإفريقية - الذي اضطلع بعد يوليو 71 بالسمسرة في مشتريات السودان من الأسلحة والمعدات "بالتعاون مع عدنان خاشوقجي"، كما أصبح يتلقي عمولة ثابتة من الحكومة السودانية على مبيوعات السودان من سلعة القطن).
ولقد تمخض المخطط الذى تواطأت عليه الجهات المذكورة عن مسرحية ركيكة أُجبرت بموجبها الطائرة البريطانية على الهبوط في مطار بنين ببنغازي، لتقوم بتسليم إثنين من ركابها للسلطات الليبية - المقدم بابكر النور والرائد فاروق حمد الله، عليهما شآبيب الرحمة، أهم رمزين في قيادة حركة 19 يوليو. وقد عادت تلك الطائرة أدراجها للندن، بينما تم إرسال البطلين المختطفين مخفورين للخرطوم ليقعا في براثن النميري، الذي قام بإهانتهما وتعذيبهما وهو مخمور، وتم إعدامهما إثر محاكمة قرونوسطية صورية مكلفتة كان قضاتها ومعظم ممثلي الإتهام فيها ضباطاً من أصول مصرية، وكل الدلائل تشير إلى انتمائهم للمخابرات المصرية ول"لعقيدة" القومية العربية.
حللت بهيثرو كبدوي مندهش أنزله القطار بمحطة الخرطوم لأول مرة في حياته، وتلفت يمنة ويسرى بلا بوصلة، ولا أدري إلى أين أتجه؛ فقد كان إتفاقي مع الرفيق السفير محجوب عثمان (عليه رحمة الله) أن أعود لكمبالا من نايروبي لأشرف علي نقل أغراضه الخاصة كالملابس والأوراق...إلخ من منزله الرسمي لشقة الأستاذ عبد الرحمن أبوزيد بجامعة مكرري، وأن ألحق بهما هو والدكتور عز الدين علي عامر (رحمه الله) في لندن إذا تقطعت بي السبل، بمساعدة "المنظمة الخيرية السوفيتية". وما كنت أعرف عنوانهما بلندن، إذ كنت مختفياً بعينتبي لعدة أسابيع بمنزل المهندس المقيم بالري السوداني الفاتح أحمد حسن وممنوعاً من أي اتصالات هاتفية أو برقية مع أي جهة خارج يوغندا. ولكني على كل حال استغليت سيارة أجرة، وما كنت أعلم أن قطار الأنفاق Tube قد تناهي إلى هيثرو، وقلت للسائق20 King’s Street المتفرع من شارع ستراند من فضلك، وهو مقر كل من الحزب الشيوعي البريطاني ومجلة ماركسيزم توديي الشهرية Marxism Today التى كنت أتراسل معها من موقعي كمسؤول تنظيمي للحزب الشيوعي في الفترة 70/71، وذلك حتى تمكنت من الإشتراك فيها والتواصل معها، وفي تلك الأثناء حفظت عنوانها عن ظهر قلب.
وبعد رحلة كلفتني نصف المبلغ الذي كان بحوزتي، نزلت أمام شقة أرضية nondescript ليس بها لافتة أو أي شيء يميزها كدار لحزب أو مجلة، وضغطت على زر الجرس فجاءني فراش بملابس عادية قلت له إني أود أن أتحدث مع الرفيق جيمس كلوقمان رئيس تحرير المجلة؛ وبعد نصف ساعة عاد لي الجانيتر وأدخلني بعد تفتيش جسمي وحقيبتي، وأجلسني بغرفة صغيرة خلف الباب الخارجي مباشرة، وقال لي إن الرفيق كلوقمان سوف يأتي من بيته بعد ساعات، ولكن الرفيق جاك ووديس سوف يقابلني. ولقد استبدت به الدهشة لما أبديت علامات الفرح القروي المفرط، وأخبرته إنني على معرفة بالرفيق ووديس مسؤول العلاقات الخارجية وكذلك الأمين العام جون قولان اللذين زارا السودان قبل بضعة شهور، وكنت مرافقاً لهما بحكم وضعي التنظيمي و و و..إلخ. ولما دلف ووديس إلي داخل الغرفة لم يتعرف علي، (ودّرني تماماً)، وتطلع في كأني مخلوق فضائي قادم لتوه من كوكب المريخ، مما فاقم من دهشة الفراش. فعرّفته بنفسي ومسيرتي الملودرامية خلال الثلاثة أسابيع المنصرمة، وقلت له إني أبحث عن الرفيقين عزالدين ومحجوب؛ فطلب مني أن أجلس لبعض الوقت حتى يفرغ من اجتماع ما بالداخل، وزودني بالقهوة وصحف اليوم التى ما زالت تحمل المانشتات الخاصة بالسودان وأحداثه الدامية، وحركة التضامن العالمية مع القوى الثورية السودانية، والكثير المثير الذي استغرقني تماماً، خاصة ما ورد بالنسخة الإنجليزية من مجلة "لومانيتي" التابعة للحزب الشيوعي الفرنسي، حتى عاد الرفيق ووديس في منتصف النهار.
جاءني ووديس هاشاً باشاً منفرج الأسارير، وقال إنه كان قد ظن بي الظنون، وحسبني مبعوثاً جاسوسياً شريراً من قبل نظام النميري يضمر شراً للرفيقين محجوب وعزالدين؛ وقد خرج من الباب الخلفي وتوجه لهما بمنزلتهما في حي نايتسبردج خلف محلات هارودز، وأبلغهما بأمري؛ وقال إنهما فرحا للغاية بمقدمي، وتناقشوا حول وضعيتي المؤقتة بلندن، واتفقوا على ذهابي أولاً لتحيتهما وقضاء تلك الليلة معهما، وسوف أقضي بضع أيام بداخلية London House مع الدكتور م عبد العال حمور رحمه الله، ريثما يرتب لي ووديس السكن مع أسرة رفاقية كضيف دافع لأجره paying guest، وسوف يخصصون لي طاولة صغيرة بتوينتي كنقز ستريت حيث أقضي نهاري في القراءة و"الكتابة إن أمكن"، وقطع وأرشفة الأخبار والتعليقات الخاصة بالسودان، إلى أن يتم الإتفاق حول مصيري الآجل – خدمة في دولة عربية صديقة كالجزائر أو عدن أم دراسة بإحدى الدول الإشتراكية؛ (ولقد رسيت أخيراً على الذهاب لتشيكوسلوفاكيا للدراسة بجامعة سدومناست ليستيبادو "17 نوفمبر" الناطقة بالإنجليزية حيث قضيت عامين هما موضوع المقال القادم بإذن الله). وقدم لي ووديس شيئاً من الطعام، وأخذني لأحد المحلات العادية (أقل قليلا من مستوي شارع أكسفورد ملاذ البرجوازية) ودبجنى ببدلة عمل وملابس شتوية وأغراض أخرى بأريحية مذهلة، إذ يبدو أنني كنت بحالة متواضعة من حيث الهندام...حالة لا تستقيم مع شخص متنفذ بالحركة اليسارية السودانية التى كان الجميع يتضامن معها في تلك الظروف العاصفة.
كنت أعرف الدكتور عزالدين عن كثب، إذ كان المسؤول السياسي لمكتب العلاقات الخارجية وأنا مسؤوله التنظيمي، وكنت لفترة عام كامل....حتى تم اعتقاله عندما فصل النميري بابكر وفاروق وهاشم العطا من مجلس الثورة في 16 نوفمبر 1970....كنت أختلف إلي عيادته خلف مدرسة كمبوني لنتشاور، ونلتقي في "المديرية" – رئاسة فرع الحزب بالخرطوم، بالقرب من شارع الحرية. وقد أشرف مكتب العلاقات الخارجية علي النشاط المتعلق بالمنظمات الجماهيرية مثل هيئة السلام السودانية وهيئة التضامن مع حركات التحرر الإفريقية وهيئة التضامن مع الشعب اليوناني، ولجنة التضامن مع أنجيلا ديفيس وغيرها من الزنوج الأمريكان التقدميين المعرضين للسجون والإضطهاد في أمريكا، كما تواصلنا مع جمعيات الصداقة (مثل الصداقة مع الشعوب السوفيتية، ومع تشيكوسلوفاكيا...إلخ). وبعد اعتقال الدكتور في ذلك الشتاء داهمته آلام في الصدر، ووافق مجلس الثورة على انتقاله للقسم الجنوبي بستشفى الخرطوم، وكنت أزوره كثيراً خلسة وفي غياب أعين الكجر بقدر الإمكان، حيث أخرج النوتة وأدون ما لدي ال"ميم سين" من ملاحظات حول العمل الخارجي. ولقد وضع لنا الدكتور هيكلاً وبرنامجاً مرتباً للمكتب قدمناه للجنة المركزية لإجازته؛ ومن ضمن مهامنا كان الإشتراك في المجلات والصحف والدوريات والنشرات الصادرة عن كل الأحزاب الشيوعية والتقدمية بكافة أرجاء الدنيا، خاصة الناطق منها بالإنجليزية أو العربية، لنصنع منها أرشيفاً بمكتبة الحزب المزمعة ليصبح في متناول أيدي القادة والكوادر. ومن غرفته بالقسم الجنوبي توجه عزالدين رأساً للمطار ليغادر مستشفياً إلى لندن، التى بقي بها حتى قامت قيامة يوليو، فنجاه الله من المشنقة التى كان الطاغية المستأسد نميري سوف يرسله لها بلا أدنى شك.
قضيت ليلتي الأولي في لندن مع الدكتور والأستاذ محجوب بشقة نايتسبردج التى خيم عليها الحزن والحسرة وعلامات الاستفهام، في معية د. علي نور الجليل ود. حمور، مع شيء من الذكريات والأنس المرسل؛ وكنت أرتشف حتى الثمالة من الخبرة الثرة والحكمة المتدفقة من ذينك الطودين الراسخين، ومن تناولهما العفوي بين الفينة والأخرى لما حدث في ذلك الشهر الكئيب – يوليو 1971 – دون التعرض لما يخدش ذكرى الرفاق الأحباء الذين اقتطفت رؤوسهم مقاصل النميري، فوقت التقييم والنقد الذاتي والملاومة recrimination لم يحن بعد، خاصة وأن الحزب حتى ذلك الوقت، ولأربعة شهور بعد ذلك، لم يصدر أي بيان أو دراسة خاصة بأحداث يوليو – الحركة الهاشمية ثم إنقلاب النميري المضاد. ولقد تعشينا ب"سخينة" شهية بلا رتوش من صنع الأستاذ محجوب، وكان من الواضح أن الرفيقين في رقة من الحال وشح في الموارد (إلى أن جاء شقيق لعز الدين إسمه علي بالنجدة من السودان، "سمي علي لأن والده علي توفى وهو في بطن أمه"، كما جاء الأستاذ بشير محمد سعيد يحمل نصيب محجوب في "شركة الأيام" التى كانت الحكومة قد صادرت مطابعها ودفعت تعويضاً لا بأس به لبشير، الذى حمل جعل محجوب وحوله لعملة صعبة وجاء به بنفسه للندن ليعزيه ويسلمه له، والمعروف أن ملاك الأيام الثلاثة هم بشير ومحجوب عليهما رحمات الله، ومحجوب محمد صالح أطال الله عمره ومتعه بالعافية التامة).
ولقد هيأ لي الرفيق ووديس سكناً بحي "سويس كوتيج" بشمال لندن، حي اليهود، مع رفيق عمالي متقاعد قضيت معه وزوجه العظيمة قرابة الشهرين، وعلى الرغم من أن الإتفاق كان فقط bed and breakfast، إلا أن الأسرة كانت تنتظرني بشاي المغرب "العشاء" كذلك وبإصرار شديد، وكلما أصعد لغرفتي أجد أن تلك الزميلة الفاضلة قد غيرت فرش السرير وقامت بغسل ملابسي وكيها. وقد تواصل الأنس بيننا آناء الليل وأطراف النهار، وعرفت أن مضيفي كان من قواد إضراب 1926 المشهور الذي نظمه المؤتمر العام للنقابات Trade Union Congress – TUC والذى استمر لتسعة أيام حاول خلالها أن يركع حكومة المحافظين ويجبرها على التراجع عن تخفيضات الرواتب المزمعة، ولكن الحكومة لم تتنازل، عناداً ومكابرة، وعاد العمال لمناجم الفحم والمصانع والورش، غير أنهم حسبوا الإضراب ناجحاً بكل المقاييس، فقد ارتفعت المعنويات إلى عنان السماء، وتمت وحدة فولاذية مستدامة بين جميع مكونات الحركة النقابية العمالية والفنية والمهنية.....ما كانوا يحلمون بها، وأصبح المؤتمر العام TUC قوة تفاوضية ذات شوكة تعمل لها الحكومة والمخدمون ألف حساب، كما حدث إنعطاف جماهيري نحو حزب العمال الممثل الأساس لليسار البريطاني الذي كان الحزب الشيوعي وكافة التيارات التقدمية تسير في ركابه؛ ومن نتائج الزخم الذي أفرزه الإضراب العام أن حزب العمال حقق نجاحاً تاريخياً باهراً في انتخابات 1929 وحاز على كمية من المقاعد هي الأولى من نوعها في تاريخه بمجلس العموم. وقد شملت إسقاطات الإضراب تحسناً في حظوظ الحزب الشيوعي الذى فاز منه نائبان في الإنتخابات البرلمانية للمرة الأولى والأخيرة في حياته، فالحزب الشيوعي البريطاني منذ تأسيسه عام 1920 وحتى حله عام 1991، بعد انهيار الإتحاد السوفيتي مباشرة، كان أضعف الأحزاب الشيوعية الأوروبية على الإطلاق رغم أنه أقدمها، بعد الحزب السوفيتي، وشتان بينه وبين الحزب الشيوعي الفرنسي وصنوه الإيطالي اللذين شاركا في حكم بلادهما عدة مرات فيما بعد الحرب الكونية الثانية، وكان لهما وجود واضح المعالم في البرلمانين وفي الساحات الثقافية والفكرية وقي كافة الأنشطة السياسية والدرامية والإجتماعية ببلديهما، وذلك بفضل الشخصية التي تمتع به كل من الرفيق تولياتي (مدعوماً بمساهات أنتونيو قرامشي) بإيطاليا، والرفيق موريس توريز بفرنسا....شخصية ميزها النزوع نحو الإستقلالية والتصالح والتأقلم مع بيئتيهما، وليس الخنوع والسير في ركاب الحزب الشيوعي السوفيتي صماً بكماً، والإنصياع للكي جي بي. فالأحزاب التى آثرت الخضوع غير المشروط لتعليمات الروس لم تقم لها قائمة، مثل البريطاني والهندي "باستثناء فرعه بولاية كيرالا الذي ما انفك يكتسح انتخابات حكومة تلك الولاية بأقصى جنوب الهند طوال العقود الخمسة الماضية" والإيراني (تودة) والعراقي والسوري؛ أما الأحزاب المتمردة وذات النزعة الإستقلالية مثل الصيني والفيتنامي والكوبي و"الكوري الشمالي"، فقد أسست أنظمة لا زالت موجودة ومزدهرة، على الرغم من تشوه وفاشية وخواء بعضها الفكري، مثل الكوري الشمالي، بينما تلاشت الستالينية والبريجنيفية واندثر الإتحاد السوفيتي "العظيم" ومنظومة حلف وارسو كأنها أعجاز نخل خاوية.
وعندما تصرمت فترة إقامتي بسويس كوتيج وشددت الرحال إلى براغ، أصر مضيفي الكومريد مارزونسكي إصراراً جعلياً لا لبس ولا تردد فيه على عدم استلام أجرة الغرفة؛ ولما عدت لبريطانيا في زيارة عام 1976 ومررت ببيت مارزونسكي بسويس كوتيج اكتشفت أن الرفيق العظيم وزوجه الرؤوفة الرؤوم قد توفيا قبل ذلك ببضع سنوات واحداً وراء الآخر مباشرة، وحزنت عليهما حزناً شديداً كأنهما من دمي ولحمي.
ومن خلال إقامتي بمكاتب ماركسزم توديي، وتجاذب أطراف الحديث مع محررها المتقف الهرم الظريف جيمس كلوقمان، ومع الزعيم والرمز التاريخي راجي بالم دات Palme Dutt أدركت أنه حزب ذو إمكانيات لوجستية وكادرية مكتنزة وراسخة، ولكنه رغم ذلك بلا أي نفوذ في المجتمع البريطاني. ربما ثمة أفراد في قيادة بعض النقابات، خاصة عمال مناجم الفحم، ولكنه ليس مثل الحزب الشيوعي السوداني الذى كان حتى طوفان يوليو 1971 مسيطراً ومحركاً وملهماً للحركة النقابية والجماهيرية، منذ بداياتها في أربعينات القرن العشرين. ولقد ولد الرفيق بالم دات بانجلترا عام 1896 وكان صديقاً لفلاديمير لينين فيما بعد، وذهب للإتحاد السوفيتي بعد الثورة مباشرة وجلس هناك لعدة سنوات، وكان من مؤسسي وقادة الأممية الثانية، وعاد ليشارك في بناء الحزب البريطاني، وكذلك البلجيكي والهندي إذ أن والده كان طبيباً هندياً مهاجراً لبريطانيا، وأمه سويدية، وقد ترعرع راجي بلندن وذهب لجامعتي أكسفورد وكيمبردج؛ وكان رئيساً لتحرير صحيفة الحزب الشيوعي Workers’ Weekly منذ تأسيسها عام 1922 وكذلك مجلة Labour Monthly منذ عام 1921. ويبدو أن الذى أقعد الحزب البريطاني وأعاق نموه ورزأه بالشيخوخة المبكرة هو انصياعه الكامل للحزب والحكومة السوفيتية ممثلة في الكي جي بي، وليس أدل على ذلك مما لمسته أثناء ترددي على 20 كنقز ستريت، وما قرأته لاحقاً - عام 2004 - في كتاب المؤرخ جوف أندروز Goeff Andrews الموسوم (نهاية اللعبة Endgames and New Times, the Final Years of British Communism – 1964/1991. Published by L & W, London, 2004.)
إذ جاء في صفحة 94 من هذا السفر: (إن الحكومة السوفيتية كانت تدفع هبة سنوية للحزب الشيوعي البريطاني قدرها 15000 جنيه إسترليني يسمونها "مال الإعاشة" pensions money وكان راجي بالم دت أحد المتلقين لتلك المنحة بانتظام).
وعرفت من الرفاق الإنجليز أن راجي المفكر والكاتب الذي عاش متقشفاً وعلى الكفاف تقريباً كناسك زاهد، على الرغم من الهبة السوفيتية، كان مناصراً للينين ولجوزيف ستالين من بعده كأنه ينصر أخاه ظالماً أو مظلوما. ولما كان جوزيف ستالين على وفاق مع أدولف هتلر قبيل الحرب الكونية الثانية ببضع شهور بهدف ضم روسيا البيضاء للإتحاد السوفيتي واقتسام بولندا بين الإتحاد السوفيتي وألمانيا الناهضة، وبينما كان اليساريون واللبراليون بكل العالم يحذرون من النازية الصاعدة بألمانيا، كان راجي متعاطفاً مع هتلر (متناغماً مع الموقف الستاليني)، مما جعل الأمين العام هاري بوليت Harry Pollitt يستقيل من اللجنة التنفيذية ومن الأمانة العامة ليحل مكانه راجي سكرتيراً عاما للحزب من عام 1939 حتى 1941، أي حتى انقلب هتلر على روسيا، فتبدلت المواقف واستدار بالم دت 180 درجة وأصبح ضد النازية، فأزيح من سكرتارية الحزب ليعود إليها الأمين العام السابق هاري بوليت.
وعندما توغلت القوات السوفيتية في المجر عام 1956 لتجهض الإنتفاضة التى قام بها شباب ومثقفو تلك الدولة، وقف راجي ضد الإنتفاضة وأيد الجيش الأحمر الذى وأدها في مهدها وفتك بالمعارضين المجريين فتكاً وحشياً. ونفس الشيء تكرر في 1968 عندما دخلت جيوش حلف وارسو بقيادة القوات السوفيتية....عندما دخلت براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا لتقضي على انتفاضتها التى قادها الإسكندر دوبشيك وآخرون.
ولقد حاولت أن أسوّق انتفاضة 19 يوليو لبالم دات، وحكيت له عن تطور الصراع الظاهر والمستتر داخل الحزب، وبينه وبين القوميين العرب الذين رميتهم بكل النعوت التى يطلقها الشيوعيون على كل من يخالفهم الرأي، خاصة من الفئات الموسومة بالبرجوازية الصغيرة، متطرقاً لإنقسام اللجنة المركزية ذات الثلاثة وثلاثين عضواً، والذى خرج بموجبه ثلاثة عشرة عضواً تابعين للإنقساميين أحمد سليمان ومعاوية سورج وعمر مصطفي المكي....إلخ، وترجمت له ما جاء في "الشيوعي 156" من أطروحات للفريقين – جناح عبد الخالق vis-a-vis ما أصبح يعرف بجناح معاوية. فقال لي الرفيق العجوز صاحب الذهن المتقد والمستمسك كإيمان العجايز بماركسيته - لينينيته - ستالينيته: ( لقد سوّقتم لنا من قبل نظام الديمقراطيين الثوريين الذين جاءوا للسلطة في 25 مايو 1969 عن طريق إنقلاب عسكري محض، وقابلت أمينكم العام عبد الخالق في نوفمبر من ذلك العام بمؤتمر الأحزاب الشيوعيةوالتقدمية الأوروبية المنعقد بموسكو، وقد خاطب عبد الخالق ذلك المؤتمر مدافعاً بحماس ومنطق سديد مقنع وبيان ساحر عن النظام المايوي، وأفلح في استقطابنا لصالح تلك المجموعة التى تصفونها الآن بالطغمة البرجوازية الصغيرة الإنقلابية الآثمة. ماذا فعلتم في 19 يوليو؟ أنتم كذلك دبرتم إنقلاباً عسكرياً محضاً في وضح النهار هذه المرة، وتريدون أن تنسبوا أبوته للقوى الديمقراطية الثورية ببلادكم. يبدو أنكم تحتكرون الحقيقة وتمتلكون مانترا سحرية تدخلون بموجبها من تشاؤون في زمرة الديمقراطيين الثوريين، أو تلفظونه إذا اختلفتم معه في أبسط تكتيكات المسيرة النضالية. إنكم تشبهون لاعب القمار الذى يستشيط غضباً ويطعن في أصول اللعبة وقوانينها السارية إذا خسر أمواله على الطاولة الخضراء، ويرمي اللاعبين الآخرين بالتزوير والغش؛ أما إذا ربح....فكل شيء على ما يرام، ولا يلتفت للتذمر أو التشكيك الصادر عن الجهات الخاسرة).
ولقد تركني راجي في حيرة من أمري، وزرع في سويداء قلبي بذرة الشك الذي ترسخ بعد تجربة قاسية خلال سنتي الدراسة بتشيكوسلوفاكيا، ثم تبلور بعد ذلك بعقد من الزمان في شكل استقالة من الحزب تقدمت بها في ديسمبر 1984 لفرعه بالمملكة المتحدة، التي قدمت لها مرة أخرى عام 1979 مبعوثاً من جامعة جوبا التى التحقت بهيئة تدريسها.
وثمة جهبذ أكتوجيناري مصقول آخر هو جيمس كلوقمان رئيس تحرير ماركسزم توديي، فقد كان شجي الحديث ومعلماً مدهشاً ومفيداً؛ طلب مني أن أكتب مقالاً مطولا لمجلة الحزب الشيوعي لجنوب إفريقيا The African Communist وما انفك يشجعني ويشد من أزري حتى فعلت ذلك، بالإسم الحركي "مهداوي Mahdawi" ونشرته المجلة في عدد سبتمبر "على ما أذكر"، متناولاً بالتحليل ما حدث في السودان، سابقاً للبيان الذى صدر بعد ذلك من سكرتارية المكتب السياسي عن أحداث يوليو، وأشفعته بمقال آخر ظهر في عدد ديسمبر من تلك المجلة المناضلة.
وقال كلوقمان إنه التقى السودانيين في العلمين والصحراء الليبية وبمعسكرات الجيش البريطاني بمصر أثناء الحرب العالمية الثانية، ووجدهم صنفاً متفرداً يفيض نبلاً لم يشهد مثله من قبل لدي العرب والأفارقة الآخرين، فهم شجعان لدرجة التهور وكرماء وخفيفو الدم: "easy to take to heart"، وطفقت أردد هذه الكلمات لكل من التقيت خلال العقود المنصرمة داخل وخارج السودان.
ولقد مررت على فروع منظمة الشبيبة الشيوعية البريطانيا بكافة أحياء لندن، أحدثهم عن السودان وعن ما حدث مؤخراً من انقلاب وانقلاب مضاد في يوليو الكئيب، وعجبت كثيراً لأن الشيوعيين الإنجليز يقبلون في وسطهم مستخدمي المخدرات والمثليين من الجنسين، وقلت لهم إن ذلك السلوك يؤدي للفصل من الحزب لدينا، وكان عقلاؤهم يدركون أننا متأثرين بالخلفية الدينية لمجتماعاتنا، فكان لسان حالهم يقول لكم دينكم ولنا دين، واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
وهكذا قضيت بضعة أسابيع في لندن تعلمت فيها الكثير وفاتني الكثير، وكان قلبي يتقطع على زوجي وإبني عثمان اللذين تركتهما خلفي بسنار، ولم أتمكن من إحضارهما للعيش معي في براغ، فعدت للسودان في أغسطس 1973 بعد أن أفرج نظام النميري عن اليساريين والديمقراطيين الذي تم اعتقالهم إثر انتكاسة حركة 19 يوليو 1971، لأواصل الدراسة بجامعة الخرطوم.
والسلام.
الفاضل عباس محمد علي.
fdil.abbas@gmail.com