شوقى أنا للبلد بى حالا والشوق لى تراب أهلى

 


 

 

(8)

 

 

بدأ القطار يتحرك من الكاسنجر إلى كريمة بعد أن قضينا يوماً كاملاً فى الكاسنجر واستمتعنا بهذه الأرض المباركة المفعمة بروحانياتها العالية وصوفيتها التى تستمد منها القوة وحب أولياء الله الصالحين ..... عندما تحرك القطار وشعرت أن جمعنا هذا سيفترق بعد وصولنا إلى كريمة شعرت بمرارة الفراق عن من تعرفت عليهم خلال هذه الرحلة التى إستمرت لستة أيام بلياليها ورغم المشقة التى لاقيتها إلا أن هناك إلفة وتوافقاً وسمراً وسياحة كل ذلك أنسانى هذا التعب ...

 

لاحت لناظرنا من على البعد ملامح مدينة كريمة وبدأت أشجار النخيل السامقة فى الظهور وكأنها ترحب بمقدمنا ... فجأة ظهر من بعيد جبل البركل الشامخ الذى يحكى تاريخ وعظمة شمالنا الحبيب ... إستنشقت رائحة تراب أهلى رائحة الحب وأرض العز ... أرض بعانخى وتهراقا ومهيرة بت عبود التى أنجبت الطيب صالح وأنجبت إسماعيل حسن والنعام آدم وفاطنة بت ود خير وحسن الدابى وعبد الله محمد خير وبقية العقد الفريد .... الذين تمددوا بطول أرضنا الطيبة ليكسوها لونا أخضرا يحكى سلام أهلى .... هذا هو التاريخ الناصع الذى يحكى سماحة بلادى .....

إستقبلنا أبى إسماعيل بمحطة كريمة وكان يحيط به مجموعة من أعيان البلد ورأيت نظرات أبى يشع منها بريقاً يحمل حباً بلا حدود .... إرتميت فى أحضانه وكأننى أدفن فى صدره كل مشقات الطريق ..... كل المجموعة التى كانت معنا صافحت والدى وكان يبادلهم كلمات الترحيب والحمد لله على سلامة الوصول ومال علىّ هامسا لى : أظنك الآن يا أحلام عرفتى المقولة التى يشير قائلها لبطىء أى إجراء أو حركة عندما يقول مستغربا أو مستنكرا ....: ليه التأخير ده أصلو جايى بى قطر كريمة ... ؟؟؟؟ إبتسمت وكأن هذه البسمة قد غسلت كل معاناة قابلتنى خلال الرحلة وكانت هى بداية أيام خالدات قبعت فى خلاياى وتسربت فى مسارب الروح بقت كــُلى ....ما أعظمكم يا أهلى ... ما أحلاكم يا عشيرتى .....

 

كان بصحبتنا فى القطار إثنين من السياح الأسبان تعرفوا على أخى وليد أثناء الرحلة وعند وصولنا لكريمة دعوناهم لمرافقتنا إلى الزومة لكنهما إعتذرا وأخبرانا أنهما سيذهبان رأساً إلى جبل البركل وقضاء الليلة هنالك ليتمكنا من مشاهدة الشروق فى الصباح الباكر .... تزاحمت أسئلة حيرى فى مخيلتى ... هل يـــُعقل أن يأتى هؤلاء الأجانب (الخواجات) من أقاصى الأرض للمبيت بجبل البركل لمشاهدة جمال الطبيعة بينما نغفل نحن أهل البلد عن ذلك ؟؟؟ كم من سكان المنطقة قضى ليلته هنالك أو فكر مرة واحدة فى المبيت تحت ظل الجبل العظيم ..؟

ألححت على الوالد لمصاحبة هؤلاء النفر لجبل البركل ليكون فاتحة الأماكن التى نزورها بالمنطقة ... حاول أبى إثنائى عن الذهاب للجبل فى هذه اللحظة ووعدنى بالمجىء إليه فى يوم آخر بعد أخذ راحتنا من عناء السفر .... لكن تحت إصرارى وتاييد إخوتى إستجاب الوالد لرغبتنا وهو يبتسم لهذا التعنت فأردف قائلاً ( إنتو القطر قلبكن خواجات ولا شنو ؟؟ ) ...

كانت هناك قوة خفية تشدنى للذهاب إلى جبل البركل .... كنت اشعر أن هنالك رابط متين يــُملى علىّ أن لا أدخل للشمال إلا عبر هذه البوابة التى تضرب بجذورها فى التاريخ لتعلن أننا منذ الأزل نحمل جينات الريادة وأننا الجديرون بالقيادة للعالم الذى كان يعيش ظلاماً دامساً عندما كنا نحن أهل حضارة تشع علما وتملأ أخبارنا الكون وتنتشر سطوتنا فى كل إتجاه وقتما أردنا وكيفما شئنا .... كلما إقتربنا للجبل إزدادت الرهبة داخلى وتصاغرت أمام هذه الضخامة والفخامة والعظمة .... عندما وصلنا إلى أسفل الجبل كانت روحى تحلق فى عوالم أخرى عبر دهاليز التأريخ وعظمته رأيت الملوك تعلوهم التيجان وحول الجبل أناس كثرتهم تستعصى علىّ أن أحصيهم عددا .... هؤلاء القوم يتحركون دون توقف بنظام مرتب عجيب .... بعضهم يدور من اليمين إلى اليسار وبعضهم من اليسار إى جهة اليمين وآخرون من اسفل إلى أعلى وآخرون من أعلى إلى أسفل .... بعض حركاتهم لولبية وأخرى مستقيمة .... رغم هذا التباين إلا أن النظام كان هو السائد .... يحملون فى أيديهم مشاعل بألوان مختلفة ... بعضها متوهجاً وأخريات خافتة .... يترنمون بإيقاع يتناغم وحركتهم .... فى لحظة ما من عمر الزمان فقدت توازنى ...إرتجفت ...إستلقيت على الأرض شاخصة ببصرى إلى ألأعلى وهل هنالك غير العلو ؟ كل شيء هنالك يسمو ..... الروح .... البدن .... النخيل ...النيل .... الحـــُب ... مع كل هذا الجمال سمت روحى المنهكة ... أحسست أننى ذرة تلاشت وسط الأمواج والرمال.... رأيت نوراً أبيضاً ناصعاً يخرج من أعلى الجبل يصل السماء بالأرض .... كل الناس يتدافعون نحو القمة .... كيف اللحاق بهم ؟؟؟ أين أنا ... فجأة ترآى لى ابى يطل على الكون من هذا العلو ... بدأ الضجيج يهدأ رويداً رويداً .... بدأ السكون يعم المكان .... إتجه الجميع ببصرهم وسمعهم نحو هذا الصوت الذى صدح وردد معه الجبل صدى زاده حلاوة .... إنه صوت إسماعيل ..... يردد ...:

 

 

شرفات النور لقد جئنا

 

من أبعد بعد ألأبعاد

 

جئناك الشوق يواكبنا

 

والدندر زغرد فى الوادى

 

والنحل ينقر فى ألأجراس

 

كعشية يوم الميلاد

 

والطير يظلل موكبنا

 

ما بين الراقص والشادى

 

يا حسن الحسن بأودية

 

غنت للبرق (العبـــادى)

 

*******

 

جيناك اليوم وها نحن

 

عرسان الخيل ألأجياد

 

وسنابكنا عبر ألأجيال

 

ترن كأغنية الحادى

 

ســود كالجن ملأحمنا

 

فسلو (تهراقة) ميلادى

 

فوق الصيوان نقشناها

 

يا جبل (البركل) أسيــادى

 

*******

 

من جاء يفتش عن أصلى

 

ان رام الزاد فذا زادى

 

و اليوم نعيدك يا تاريخ

 

فى ثدى ألأم لأحفــــادى

 

شرفات النور لقد جئنا

 

من أبعد بعد ألأبعاد

 

والخيل صهيلآ وعراكا

 

لتدوس جماجم أجدادى

 

شرفات النور لقد تاهت

 

من قبل ضيائك أمجادى

 

ولكم داست أرضى الحبلى

 

أقدام عتاة ألأوغاد

 

وصهيل الخيل بأوديتى

 

وصليل سيوف الجلأد

 

وحلفت بحبك ياذاتى

 

قسمآ أتلوه بأورادى

 

سنعيد النور الى الشرفات

 

ليغسل ظلم ألأباد

 

ونقيم الدنيا ونقعدها

 

من أجل عيونك يا بلادى

 

عندها لملمت قواى .... إستلهمت كل جمال الشمال فى نقطة واحدة .... إتكأت على عظمة أهلى .... بدأت الآن الوقوف لأحكى لكم عن أيام قضيناها هناك

AHLAM HASSAN [ahlamhassan@live.ca]

 

آراء