صراع الهويات في السودان – البجا نموذجا (2/2)
3 February, 2009
د. أوشيك آدم علي
osheikali@hotmail.com
الثقافة المحلية ودورها في تشكيل الإنسان
ما نود أن نصل إليه هنا هو تثبيت قاعدة عامة لا يختلف عليها اثنان وهي لا ينبغي هضم حق أحد في الدفاع عن ثقافته أيّ كانت هذه الثقافة شريطة أن لا يتعدى ذلك حدود الحوار الهادف والاحترام المتبادل وعدم الإسفاف في الطرح والنقاش , كما ينبغي لهذا "الأحد" أن يتسع صدره لتفهم وقبول الآخر من ذوي الثقافات الأخرى ولا سيما إن كان هذا "الآخر" شريك أصيل مثله في هذا الوطن الرحب الذي يجب أن تتعايش فيه كل الأعراق. كذلك عندما يجاهر شخص ما , بل ويطالب بإلحاح لتغيير المشهد الثقافي الحالي في السودان ليكون أكثر ملاءمة للواقع وأدق تمثيلا لأهل السودان فلا بد أن يكون هذا مطلبا مقبولا ومشروعا. هذا السلوك ليس بغرض هضم حقوق الآخرين وتطفيف بضاعتهم وإنما لمنفعة أهل السودان كلهم بشتى أعراقهم وثقافاتهم حتى لا يشعر أحد بتهميش في هذا الوطن الواحد . وما يلح علي هذا الطلب هو أن اللغات السودانية ما هي إلاّ أوعية جامعة وحافظة لتأريخ وثقافة الشعوب السودانية التي لا يكتمل عطاؤها إلاّ بتفعيل لغاتهم وثقافاتهم . من هذا المنطلق نحن ننادي بتغيير المشهد الثقافي السوداني الحالي لدرجة يسمح فيه لمواطن إقليمي أن يفصح بما يلج في صدره بلغته ( وليكن ذلك حتي عبر مترجم ) أو بعربية "مكسّرة ", كما نريد أن ُيفسح المجال لطفل دون السابعة من العمر أن يعبر عن نفسه بلغة أمه المحلية من غير وجل أو خجل أو عقاب أثناء الدراسة . وللأسف أن بعض المعلمين من ذوي الخبرات الضحلة في علوم التربية وسيكولوجية الطفل يفسرون صعوبة بعض تلاميذ الأقليات في مواكبة مناهج القراءة والكتابة في بداية المرحلة الإبتدائية لقصور في مقدراتهم الذهنية أولعلة في خلفيتهم الثقافية والإجتماعية مما يحول بينهم وبين الإستيعاب الذهني المطلوب .هم في هذا لايضعون اعتبارا في أن هؤلاء الأطفال قدموا من بيئة غير التي تعودوا عليها أوتعاملوا معها . غير أن الواقع يقول عكس ذلك وبناءا علي مشاهدات ودراسات مستفيضة في هذا المجال . الطفل من هذه المجموعة إذا فُهم الفهم الصحيح ووضع اعتبار خاص لخلفيته التي انحدر منها وأتيحت له الظروف الموضوعية كما هو متاح له في أسرته ومجتمعه فإنه سوف يكون ( بعد فترة وجيزة ) في مستوي قرنائه من متحدثي العربية , علي أقل تقدير, إن لم يكن أفضل منهم . الأمثلة كثيرة ولا مجال لسردها هنا . تحضرني هنا ملاحظة هامة وردت علي لسان الإداري الإنجليزي أندرو بول عن إخفاقات بعض أبناء البجا في التعليم النظامي . وبول هذا هوالذي حكم إقليم الشرق ردحا من الزمن في فترة الحكم الإنجليزي وله دراية كاملة عن البجا شعبا ولغة , يقول بول عن البجا في مؤلفه " تأريخ قبائل البجا في شرق السودان "قد ينتج هذا –أي الإخفاق الأكاديمي - عن غباء محض , غير أن البجا أبعد ما يكونون عن الغباء كما يتصور البعض , إذ أن شعورهم الكثيفة تغطي أذهانا وقادة ولكنها ليست مستغلة ويكفي أن لغتهم الغنية بالقواعد ومفردات الخيال دليل علي أنها ليست لغة أغبياء , بل أنها تنم عن ثقافة متكاملة وحضارة ناضجة , وتتصف كلتا اللغتين البداوييت والتقري بذخيرة وافرة من الفصاحة والبلاغة " . يوضح هذا أن العلة ليست في الثقافة المحلية وإنما في البيئة اللغوية الجديدة (العربية هنا) التي يجب أن يتعامل معها الطفل البجاوي . لعله من المفيد ان نشير هنا أن الحاجز اللغوي هو أكثر الحواجز الثقافية مناعة في الحيلولة لاندماج الأقليات السودانية وصهرها في بوتقة واحدة وتكوين ثقافة سودانية جامعة ليس بإلغاء الثقافات واللغات السودانية الأخري أو إحلالها وإنما بالإعتناء بها رغبة في صهرها في ثقافة سودانية مشتركة ليس فيه بغي ولا تغول علي الآخر. فمثلا عندما يحضر التلميذ البجاوي للمدرسة في مراحله الأولي يتحدث العربية بخلفية لغوية خاصة به كتقديم الفاعل علي الفعل علي سبيل المثال وبلكنة مميزة لأهل الشرق في نطق بعض حروف وكلمات العربية . مثل هذا الأداء اللغوي الغريب يكون لدي بعض المعلمين الذين لا يدركون حقيقة هذا التلميذ وخلفيته الثفافية والإجتماعية مدعاة للتندر والسخرية مما يقلل من مشاركته في الفصل وإبداء رأيه بحرية كما ينبغي ومن ثمّ ترسخ فيه الإنطوائية والشعور بالغيروعدم المحاولة في أن يصير مثل الآخرين في المشاركة والتعبير السليم . هنا تقع المسؤولية علي معلم الفصل ومن خلفه مؤسسته التعليمية التي يقع عليها العبء الأكبر في إزالة هذه الحواجز وتخفيف حدتها وتقليل تبعاتها المستقبلية بفهم متكامل لهذا التلميذ وخلفيته الثقافية التي انحدر منها حتي يأخذ بيده أول بأول ويشجع بشتي الطرق للانخراط السلس في العملية التعليمية في المدرسة.
هنالك أيضا بعض السلوكيات الإجتماعية الأخري لاتقل أهمية عن الإختلافات اللغوية التي يجب أخذها في الإعتبار. نشير هنا إلي أن بعض المعلمين الذين عملوا في مدارس شرق السودان وبالذات الداخليات يذكرون جيدا أن التلميذ البجاوي , حتي دون العاشرة من العمر , يحضر إلي المدرسة ومعه عصي أوسكين , إن لم يُحضر هذه " المرفقات الحياتية " إلي المدرسة , كما يراها مجتمعه , فإنه يضعها في مكان معلوم لديه بالقرب من المدرسة ويلجأ إليها متي ما استدعي طارئ أو بعد إنتهاء الدراسة. وبالمثل فالفرد البجاوي يحمل معه هذه المستلزمات في حله وترحاله .
ُيستمد هذا الفهم منذ الصغر من سلوك المجتمع الذي يري في عدم التسلح إنتقاصا للشخصية السوية وتمثلا بالمرأة وأنه سلوك غيرمحبب ويجب تجنبه . كما يذكرون أيضا أن تلاميذ البجا في الداخليات يجتمعون في فناء المدرسة في العصر أو الصباح الباكرحول فناجين القهوة التي يعدونها بأنفسهم , وفي تلك الأثناء يجب أن تتوقف كل أنشطة المدرسة من مذاكرة ورياضة وغيرها لحين الفراغ من هذا النشاط الأهم . هذا مطابق لمشاهدة أخري وهي أن القادم من أهل شرق السودان إلي العاصمة أو المدن الأخري أول ما يفكر فيه , وقبل البدء في مهمته التي جاء من أجلها , هو التعرف علي أماكن بيع الجبنة في السوق .
هذه فقط نماذج من الخلفيات الثقافية للمجتمع البجاوي , وبطبيعة الحال نجد مثيلاتها في المجتمعات السودانية المشابهة , وعلي المؤسسات التعليمية والثقافية التي تعمل في هذه البيئات أن تتفهمها , بل تحترمها لكي لا تجعل بينها وبين المجتمع الذي تتعامل فيه حواجز وشروخ يصعب تجاوزها في المستقبل , كما يحب أن تتكيف مع هذا الواقع بما يحمله من سمات واختلافات مميزة ومحاولة المحافظة وتطوير ما هو مفيد منها والتغاضي عن غير المرغوب فيه أو إصلاحه , إن أمكن , من غير إستهجان أو ذم . بهذه الطريقة يمكن فتح قنوات واسعة للتواصل والإنخراط الطبيعي في المجتمع وما ينطبق علي الشرق ينطبق علي أقاليم السودان الأخري شمالا وجنوبا وغربا.
الإقصاء السياسي والإقتصادي هو سبب الأزمات وليس التنوع الثقافي والعرقي
ما كان للتباين الثقافي والعرقي في السودان أن يقف حجر عثرة أمام الحركة القومية في السودان لو استقبل الناس ما استدبروه من الأمر ولو تداركوا الوضع من أوله ولو أخذت الأمور بأولوياتها . لم يحدث ما نعيشه اليوم من شتات وفرقة وتناحر إذا شخصت كل حالة علي حدي وتم التعامل معا كما ينبغي لا كما يريده بعض الذين أورثهم الله مرضا عضالا في قلوبهم . حقيقة الأمر أن ما نصنفه اليوم علي أنه صراع عرقي وثقافي في السودان ما هو في واقع الأمر إلاّ صراع حول السلطة والثروة وتكالب علي منفعة آنية لا تصب في مصلحة الوطن والمواطن. الأمر في مجمله إن مجموعة محددة تداولت السلطة فيما بينها علي مدي العقود المنصرمة دون إشراك ا لآخرين بل غيبتهم تغييبا كاملا تحت مسميات ابتدعوها لتقنين إقصائهم. والحق يقال أنه لم يكن هنالك إستئثار كامل ومطلق لمقاليد السلطة من قبل مجموعة عرقية أو ثقافية واحدة . كانت هنالك مشاركة لللأقاليم في السلطات المركزية والإقليمية ولكنها كانت إنتقائية وهامشية وكانت دون مستوي التمثيل النوعي والكمي لثقل جماهيرالأقاليم. وفوق ذلك فمشاركتهم كانت إنحيازا كاملا للجهات والتوجهات التي أتت بهم لا لغرض التفاعل مع قضايا أقاليمهم التي انحدروا منها. ومن الواجب أن لا نعمم حيث أن التعميم مجاف للحقيقة ومخل بالموضوعية والواقع . لذلك من الإنصاف أن نقر بأن ممثلي الأقاليم لم يكونوا جميعهم علي شاكلة واحدة إذ أن حماسهم وتبني قضايا أقاليمهم تفاوت من شخص إلي شخص , ولكن حضور غالبيتهم اقتصر لإضفاء شرعية غير حقيقية لنظام مركزي قابض أتي بهم لتكملة الإطار العام لأوركسترا لا يُسمح فيه لعزف موسيقي لا تطرب سمار الحي المركزي. كما ذكرنا فإن القائمين علي أمر هذه السلطات لم يكونوا من عرقية واحدة , وإن كان غالبيتهم من الشمال والوسط , إلاّ أن الذي جمع بيهم هو السلطة وما يسيل له اللعاب من إغراءات شتي . الأخطر ما في الأمر أن تهميش ممثلي الأقاليم في السلطات المركزية والإقليمية أو تهميش أنفسهم أدي إلي طرح ثقافة شمال ووسط السودان علي أنها الثقافة المثلي لأهل السودان قاطبة مستبعدين بذلك ثقافات أهل السودان الأخري مما جعل الآخرين يشعرون بأن لا دور لهم وإن مكانهم الأفضل هو مقاعد الفرجة والتصفيق.
هذه الممارسات وغيرها هي التي نقلت التنوع الثقافي والعرقي في السودان من خانة المسالمة والمعايشة لعدة قرون من الزمان إلي خانة الواقع المرير الذي يطفح بالعداوة والبغضاء . ما كان أن يؤدي كل هذا إلي ما نعيشه اليوم من إحتقانات عرقية مدمرة وبإحساس يرفض ويقصي الآخر ويهمش دوره سياسا واقتصاديا. لهذا يكون من الصعوبة بمكان وضع التنوع العرقي كإطار أو مسبب للإحتقانات العرقية في السودان . لعل الباحث كلافام وفق في تفسيره للإضطرابات في القرن الإفريقي حيث يقول " إن التهميش الإقتصادي هو السبب الرئيس للحروب في تلك المنطقة ولا سيماعندما يرتبط ذلك بإقصاء سياسي ". وبالعكس فالتنوع الثقافي والعرقي إذا أحسن استغلاله للسعي نحو التراضي الإجتماعي وتقبل الآخر , بما يمثله من إفكار ورؤي , يكون كفيلا لخلق أرضية مشتركة ونواة مركزية تتعايش حولها قوميات السودان المختلفة بعيدا عن الإحتكاكات العرقية والإنزلاق نحو الفوضي والإنفلات الأمني الأعمي الذي سوف لن يسلم منه أحد بصرف النظر عن إنتمائه العرقي أو الجهوي.
لذلك يري كثير من المهتمين بنشوء الإضطرابات الإجتماعية وأسبابها بأن التعدد الثقافي والعرقي لا ينبغي أن يكون سببا مباشرا للإزمات والإضطرابات ولكنه يصير ذلك عندما يرتبط بإقصاء سياسي وهضم حقوق الآخرين و بعدم المساواة الإجتماعية والإقتصادية. هنالك نماذج يستشهد بها في هذا المجال وهي أن التنوع العرقي والثقافي إذا ُوظف التوظيف الصحيح وُوضعت له الأرضية المناسبة علي أساس المواطنة والعطاء والكفاءة ولم يستبعد أحد بسبب الدين والعرق أواللون فإنه يكون عندئذ قوة دفع خلاّقة نحو نمو اقتصادي متكامل ومنشود وإثراء عميق لثقافة مشتركة كما هو مشاهد اليوم في موريشس وماليزيا علي سبيل المثال .الأخيرة أصبحت رقما إقتصاديا عالميا هاما ونمرا جسورا من النمور الأسيوية التي يعمل لها ألف حساب لما تتمتع بها من كفاءة إقتصادية عالية ُتحسد عليها واستغلال أمثل للطاقات البشرية والمادية ولجذبها المتنامي للإستثمارات الأجنبية .
ماهو الحل؟
السعي لإيجاد بيئة كالتي ذكرت آنفا ليس من المستحيلات إن صدقت النوايا وتجاوز الناس طموحاتهم الذاتية من أجل وطن جريح يرفل في التخلف والخلاف والغرائز وتتجاذبه المشاكل من كل حدب وصوب . يجب أن ينصب البحث لإيجاد نظام يخفف من حدة التنوع العرقي والثقافي ويقلل من دورهما كمسبب للحروب والأزمات الطاحنة . كل هذا لا يتأتي إلاّّ بالإقرار الصريح والتسليم بأن السودان بلد متعدد الهويات والأعراق والأديان , وفي نفس الوقت ليس هنالك ما يمنع أن تعمل كل هذه المتناقضات في فناء واحد وجنبا لجنب من غير تهميش أو تغول علي الآخرولا سيما أن الأعراق المختلفة , ولكنها المتجاورة والمتعايشة لفترة طويلة من الزمان لا بد أن ربطت بينها أواصر القربي وأنها أوجدت لنفسها بيئة ثقافية مشتركة كالتي نشاهدها في أبيي بين الدينكا والمسيرية أو البجا وقبائل شمال ووسط السودان, وكما هو الحال أيضا فيما يسمي بالقبائل العربية وغير العربية في كردفان ودارفور. في هذه المناطق وما يشابهها نجد قواسم مشتركة بين القبائل المتجاورة قوامها أواصر المصاهرة والمعايشة ونمط الحياة المتشابه والتجارة المتبادلة , كل هذه جسورتربط بين هذه المجموعات العرقية المختلفة وهي سبب في تقريب الناس أكثرمن تفريقهم . ويأتي هنا دورالسلطة بأجهزتها المختلفة وفي معيتها الشرائح المثقفة في هذه المجتمعات في أن تستغل هذه القواسم وتجعل منها إطارا جامعا لتقارب إجتماعي وثقافي ولوحدة طوعية تكاملية .
قد يكون أمثل وعاء لمثل هذا التوجه هو النظام الفيدرالي الذي يكفل لكل أقاليم السودان حقهم في إبراز هويتهم الخاصة وإرضاء طموح أبنائهم في حكم أنفسهم بأنفسهم ومشاركتهم الفعلية في الأجهزة المركزية فضلا لإستغلال مواردهم المحلية بالشكل الأمثل من غيرنهب أوإستغلال من المركز , وفي نفس الوقت يسعي لتنمية إقتصادية وبشرية متوازنة ولبناء علاقات وصل وبني تحتية لربط أقاليم السودان وشعوبه مما يساعد علي حركة تجارية وبشرية نشطة بين المجموعات العرقية المختلفة . يتطلب ذلك إيجاد كوادر بشرية مؤهلة من أبناء الأقاليم ليأخذوا هذه المسؤولية علي عواتقهم ولايتأتي ذلك من غير تأهيل أكاديمي ومهني مبرمج لهم حتي وإن دعي ذلك تغاضي بعض متطلبات القبول بالجامعات والمعاهد , ولكن من غير التجاوز المخل بالقواعد العامة . هذا التناغم البشري والمادي يجب ترشيده وضبط إيقاعه تحت سلطة مركزية رشيدة تجمع أهل السودان علي كلمة سواء وتحتكم لسلطة القانون وتعمل تحت مظلة الشفافية والمحاسبة . تجارب السودان السابقة فيما سمي بالحكم الإقليمي حينا وبالفيدرالية في حين آخر لم تجلب للسودان إلا الشتات والإحن و الدمار المزمن لأنها كانت ممارسات مبتورة مشوهة تدور في فلك مركزية متسلطة غاشمة جشعة استأثرت بالثروة والسلطة وافقرت البلاد والعباد وأخصت الرجال وسلبتهم القدرة والإرادة وأفرغت الحكم الإقليمي من محتواه . إن كان ما يراد للسودان في عهده الجدِيد اجترارالماضي بسوءاته الممقوتة لعقود قادمة فلنا الرحمة وعلي السودان السلام .