صفات الملك والسلطان وعدم توفرها عند حكام أهل السودان (3)
10 May, 2010
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم - يارعاك الله - أن للملك والسلطان صفات لا بد لمن يروم حكم العباد ان يتصف بها حتى تستقيم ولاية الله فى الأرض بالعدل والقسطاس بين الناس وتعمر البلدان ويتجه الناس لعبادته سبحانه وتعالى وهي نهاية الغاية من الخلق. قال تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون", صدق الله العظيم. نعرض في هذا المقال لبعض من الصفات الضرورية التي لا بد للحاكم والسلطان ان يتصف بها كما جاءت في الإثر, ونتتبع سيرة حكام السودان الحاليين, ونخلص الى عدم توفر هذه الصفات فيهم.
أذن من القراء الكرام واليهم: أرجو من القراء الكرام تأمل العبر الواردة فى هذه الآتار, ومقارنة الصفات المذكورة بصفات وأفعال حكام السودان الحاليين لتبيان مجافاتهم العدل فى الحكم ومجانبتهم الحق وحيادهم عن الطريق القويم. وحيث قد أوردت مثالا أو اثنين فقط لتبيان المفارقة والاختلاف, آمل أن يضيف القراء الكرام ما يعنّ لهم من شواهد حتى تكتمل الصورة وتقوم الحجة. وأشكر جدا للقراء الكرام ان هم أمدونى بآرائهم تلك.
الخامسة/ الرأفة والرحمة بالرعية:
كتب أردشير بن بابك بن ساسان الأكبر الى خواص من رعيته وعماله فقال:
من أردشير بن بهمن ملك الملوك, الى الكتاب الذين بهم تدبير المملكة, والفقهاء الذين هم عماد الدين, والأساورة الذين هم حماة الحرب, والى الحراث الذين هم عمرة البلاد, سلام عليكم, نحن بحمد الله صالحون, وقد رفعنا إتاوتنا عن رعيتنا بفضل رأفتنا ورحمتنا, ونحن كاتبون إليكم بوصية فاحفظوها؛ لا تستشعروا الحقد فيكم فيدهمكم العدو, ولا تحبوا الاحتكار فيشملكم القحط, وكونوا لأبناء السبيل مأوى ترووا غداً في المعاد, وتزوجوا في الأقارب فانه أمس للرحم وأقرب للنسب, ولا تركنوا للدنيا فإنها لا تدوم لأحد, ولا تهتموا لها فلن يكون إلا ما شاء الله, ولا ترفضوها مع ذلك فان الآخرة لا تنال إلا بها (المسعودى, مروج الذهب: 189 – 193).
وكتب ملك الروم الى سابور بن أردشير: أما بعد, فقد بلغني من سياستك لجندك, وضبطك ما تحب يدك, وسلامة أهل مملكتك بتدبيرك- ما أحببت أن أسلك فيه طريقتك, وأركب مناهجك. فكتب إليه سابور: نلت ذلك بثمانٍ خصال: لم أهزل في أمر ولا نهي قط, ولم أخلف وعداً ولا وعيداً قط, وحاربت للغنى لا للهوى, واجتلبت قلوب الناس ثقة بلا كره, وخوفاً بلا مقت, وعاقبت للذنب لا للغضب, وعممت بالقوت, وحسمت الفضول.
ويقال إن سابور كتب الى بعض عماله: إذا استكتبت رجلا فأسن رزقه, وشد بصالح الأعوان عضده, وأطلق بالتدبير يده؛ ففي اِسناء رزقه حسن طعمه, وفي تقويته بالأعوان ثقل وطأته على أهل العدوان, وفي إطلاقه بالتدبير ما أخافه عواقب الأمور, ثم قفه من أمره على ماله قدمته ليمثله إماما ويحفظه كلاماً, فان وقع أمره بما رسمت فأوله غرضك, وأوجب زيادته عليك, وان حاد عن أمرك علقته حجتك, وأطلقت بالعقوبة عليه يدك, والسلام.
دونك فى السودان غلاء العيش وفقر الناس وقلة ما فى أيديهم, ومع ذلك ترهقهم الدولة بالضرائب والجبايات الباهظة فيشتد الغلاء حتى يطحن الناس. ثم أن الدولة لاتسنّ للمستخدمين لديها مايكفيهم من الارزاق مايحفظ عليهم أنفسهم من النظر الى ما فى أيدى الناس فيجورون. ولعل الروائح التى تزكم الأنوف من تعدى موظفى الدولة على المال العام الذى وثّقه المراجع العام أبلغ دليل على تقصير الحاكم فى سن الرزق الواقى للموظف من المفاسد. أم ربما أرادت الدولة عمدا بذلك فتح أبواب الفساد للأتباع والبطانة للتمكين والاثراء من أموال الناس بالباطل.
السادسة/ الملوك أخوة تجب معزتهم والغيرة عليهم:
بنى سابور بن هرمز الأيوان المعروف بايوان كسرى على الجانب الشرقي من المدائن من أرض العراق, ثم أتم بناءه ابرويز بن هرمز. نزل الرشيد على دجلة بالقرب من الأيوان, فسمع بعض الخدم من وراء السرادق يقول للآخر: "هذا الذي بنى هذا البناء ابن كذا وكذا أراد أن يصعد عليه الى السماء". فأمر الرشيد بعض الأستاذين من الخدم أن يضربه مائة عصا, وقال لمن حضره "آن الملك نسبه, والملوك به أخوة, وآن الغيرة بعثتني على أدبة لصيانة الملك وما يلحق الملوك للملوك" (المسعودى, مروج الذهب: 197 – 198). أما حكام السودان فلا يرعون هذه اللحمة التي تربط بين الحكام والملوك, بل يسيئون إليهم أيما إساءة, ويجعلون "كل حكام وملوك الأرض تحت أحذيتهم" "جزمتهم". والله يؤتى ملكه من يشاء وهو أحكم الحاكمين.
السابعة/ من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة:
فعل الخير هو المناسب للسياسة. إن المجد ينبني على العصبية والعشير, لكن له فرع يتممه ويكمله وهو الخلال. لأن وجود الملك دون متمماته بكريم الخلال هو كشخص مقطوع الأعضاء أو ظهوره عريانا بين الناس. واذا كان عدم انتحال الخلال الحميدة يعد نقصا في البيوت والأحساب, فما ظنك بأهل الملك الذي هو غاية لكل مجد ونهاية لكل حسب.
فإذا نظرت في أهل العصبية ومن حصل لهم الغلب في كثير من النواحي والأمم, لوجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله من الكرم والعفو من الزلات, والاحتمال من غير القادر, والقرى للضيوف, وحمل الكل وكسب المعدم, والصبر على المكاره والوفاء بالعهد, وبذل الأموال في صون الأعراض وتنظيم الشريعة واجلال العلماء الحاملين لها, والوقوف عندها يحددونه لهم من فعل أو ترك وحسن الظن بهم, واعتقاد أهل الدين والتبرك بهم, ورغبة الدعاء منهم, والحياء من الأكابر والمشايخ وتوقيرهم واجلالهم, والانقياد الى الحق والتواضع للمسكين, واستماع شكوى المستغيثين, والتدين بالشرائع والعبادات, والقيام عليها وعلى أسبابها والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد وأمثال ذلك, علمنا أن هذه خلق السياسة قد حصلت لديهم واستحقوا بها أن يكونوا ساسة لمن تحت أيديهم, أو على العموم, وأنه خير ساقه الله تعالى إليهم مناسب لعصبيتهم وغلبهم, وليس ذلك سدى فيهم, ولا وجد عبثا منهم؛ والملك أنسب المراتب والخيرات لعصبيتهم؛ فعلمنا بذلك أن الله تأذن لهم بالملك وساقه إليهم. وبالعكس من ذلك إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل, وسلوك طرقها؛ فتفقد الفضائل السياسية منهم جملة, ولا تزال في انتقاص الى أن يخرج الملك من أيديهم, ويتبدل به سواهم ليكون نعيا عليهم في سلب ما كان الله قد آتاهم من الملك, وجعل في أيديهم من الخير:(واذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً) صدق الله العظيم."سورة الإسراء الآية:16". واستقرىء ذلك وتتبعه في الأمم السابقة فتجده كثيراً مما قلناه ورسمناه. والله يخلق ما يشاء ويختار (ابن خلدون, المقدمة 1: 133 - 134).
دونك في السودان الغش, الخداع, نقض العهود، تسفيه العلماء وبخسهم, ظلم المستضعفين, المكابرة على الحق, الحياد عن العدل, إذلال الناس واهانة القبائل (دارفور, الشرق, الجنوب), الاستعلاء على الآخرين, إفقار الناس وأكل أموالهم بالباطل, محاربة التجار (ممن لا ينتمون لجماعة السلطان).
اللهم أصلح حال عبادك باصلاح حال ولاة أمورهم, وأنت المستعان.
(يتبع)
د. أحمد حموده حامد.
07/05/2010 الجمعة
fadl8alla@yahoo.com