صفات الملك والسلطان وعدم توفرها عند حكام أهل السودان (5) … بقلم: د. أحمد حموده حامد
12 May, 2010
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم - يارعاك الله - أن للملك والسلطان صفات لا بد لمن يروم حكم العباد ان يتصف بها حتى تستقيم ولاية الله فى الأرض بالعدل والقسطاس بين الناس وتعمر البلدان ويتجه الناس لعبادته سبحانه وتعالى وهي نهاية الغاية من الخلق. قال تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون", صدق الله العظيم. نعرض في هذا المقال لبعض من الصفات الضرورية التي لا بد للحاكم والسلطان ان يتصف بها كما جاءت في الإثر, ونتتبع سيرة حكام السودان الحاليين, ونخلص الى عدم توفر هذه الصفات فيهم.
أذن من القراء الكرام واليهم: أرجو من القراء الكرام تأمل العبر الواردة فى هذه الآتار, ومقارنة الصفات المذكورة بصفات وأفعال حكام السودان الحاليين لتبيان مجافاتهم العدل فى الحكم ومجانبتهم الحق وحيادهم عن الطريق القويم. وحيث قد أوردت مثالا أو اثنين فقط لتبيان المفارقة والاختلاف, آمل أن يضيف القراء الكرام ما يعنّ لهم من شواهد حتى تكتمل الصورة وتقوم الحجة. وأشكر جدا للقراء الكرام ان هم أمدونى بآرائهم تلك.
الحادية عشر/ الحلم والعفو وعدم الافتتان بالقوة والتجبر على الناس:
جاء فى الأثر أنه لما استوثق الأمر ليوسف –عليه الســـــــلام- بعد أن مات عزيز مصر- وافتقرت زليخا وعمى بصرها فجعلت تتكفف الناس, فقيل لها لو تعرضت للملك؟ ربما يرحمك ويعينك ويغنيك فطالما كنت تحفظينه وتكرمينه. ثم قيل لها: لا تفعلي لأنه ربما يتذكر ما كان منك إليه من المراودة والحبس فيسيء إليك ويكافئك عما سبق منك إليه. فقالت: أنا أعلم بحلمه وكرمه, فجلست له على رابية على طريقه يوم خروجه, وكان يركب في زهاء مائة ألف من عظماء قومه وأهل مملكته. فلما أحست به قامت ونادت: سبحان من جعل الملوك عبيداً بمعصيتهم, والعبيد ملوكاً بطاعتهم؟! فقال يوسف- عليه السلام- من أنت؟ فقالت: أنا التي كنت أخدمك بنفسي, وأرجل شعرك بيدي, وأكرم مأواك بجهدي, وكان مني ما كان وقد ذقت وبال أمري, وذهبت قوتي, وتلف مالي, وعمى بصري, فصرت أسأل الناس فمنهم من يرحمني ومنهم من لا يرحمني. وبعدما كنت مغبوطة أهل مصر كلها, صرت مرحومتهم بل محرومتهم وهذا جزاء المفسدين. فبكى يوسف- عليه الســـــــلام- بكاءً شديداً وقال لها: هل في قلبك من حبك إياي شيء؟ قالت: نعم, والذي اتخذ إبراهيم خليلاً لنظرةٌ إليك أحب إليّ من ملء الأرض ذهباً وفضة, فمضى يوسف وأرسل إليها يقول إن كنت إيّماً تزوجناك, وإن كنت ذات بعلٍ أغنيناك. فقالت لرسول الملك: أنا أعرف أنه يستهزئ بي, هو لم يردني في أيام شبابي وجمالي, فكيف يقبلني وأنا عجوز عمياء وفقيرة. فأمر بها يوسف- عليه الســــــــلام- فجهزت وتزوج بها. فأدخلت عليه فصف يوسف-عليه الســلام- قدميه وقام يصلي, ودعا لله تعالى باسمه العظيم الأعظم فرد الله إليها حسنها, وجمالها, وشبابها, وبصرها كهيئتها يوم راودته. فواقعها فإذا هي بكر فولدت له إفراثيم بن يوسف, ومنشا بن يوسف وطاب في الإســــــــلام عيشهما حتى فـرق المــــــــوت بينهما.
فينبغي للقوي أن لا ينسى الضعيف, والغني أن لا ينسى الفقير فرب مطلوب يصير طالباً, ومرغوب فيه يصير راغباً, ومســـــــؤول يصير سائلاً, وراحماً يصير مرحوماً فنسأل الله تعالى أن يرحمنا برحمته, ويغنينا بفضله. ولما ملك يوســـف- عليه الســــــــلام- خزائن مصر كان يجوع ويأكل من خبز الشعير. وقيل له: أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال: أخاف أن أشبع وأنسى الجائع (الأبشيهى: المستظرف: 193 – 194).
أين نحن من حكام السودان الذين كانوا فقراء فتعلموا من اموال الشعب, ثم ملكوا ثم أثروا ثراء فاحشا من ظلمهم الناس وأكل أموالهم بالباطل فنسوا العباد ونسوا ماكانوا فيه من الفاقة والعوز, بل غرّهم ماصاروا إليه من الغنى والجاه وافتتنوا ببهرج الدنيا فتونا اغواهم عن اقامة الحق والعدل وتجبروا على الناس الذين علموهم ومكّنوهم فجازوهم جزاء سنمار. أين نحن من خلق الحكام الأفاضل الكرام الذين يصفحون ويجازون السوء بالاحسان من حكام السودان الذين يجازون الاحسان بالسوء والنكران. ألم يعلمهم الشعب من ماله بكرم وطيب خاطر؟ فاذا هم يتنكرون لابناء الشعب ويحرمونهم التعليم الذى صار لايقدر على تكاليفه الباهظة إلا هم واتباعهم واشياعهم وارسال أبنائهم الى الجامعات فى الخارج.
الثانية عشر/ الشرف والسؤدد وعلو الهمة أصل الرياسة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من رزقه الله مالا فبذل معروفه, وكف أذاه, فذلك السيد". وقيل لقيس بن عاصم: بم سدت قومك؟ قال: لم أخاصم أحدا إلا تركت للصلح موضعا. وقال سعيد بن العاص: ماشاتمت رجلا مذ كنت رجلا, لأنى لم اشاتم ألا أحد رجلين, اما كريم فأنا أحق أن أجلّه, واما لئيم فأنا أولى أن أرفع نفسى عنه. وقالوا من نعت السيد أن يكون يملأ العين جمالا والسمع مقالا.
وممن علت همته, وشرفت نفسه, عمارة بن حمزة قيل أنه دخل يوماً على المنصور وقعد في مجلسه فقام رجل وقال: مظلوم يا أمير المؤمنين. قال: ومن ظلمك؟ قال: عمارة بن حمزة غصبني ضيعتي. فقال المنصور: يا عمارة قم فاقعد مع خصمك. فقال: ما هو لي بخصم, إن كانت الضيعة له فلست أنازعه فيها. وإن كانت لي فقد وهبتها له ولا أقوم من مقام شرفني به أمير المؤمنين ورفعني, وأقعد في أدنى منه لضيعة. ومن الشرف والرياسة حفظ الجوار وحمي الذمار وكانت العرب ترى ذلك ديناً تدعوا إليه, وحقاً واجباً تحافظ عليه. وكان أبو سفيان بن حرب, إذا نزل به جار قال: يا هذا إنك اخترتني جاراً واخترت داري داراً, فجناية يدك علي دونك, وإن جنت عليك يد فاحتكم حكم الصبي على أهله (الأبشيهى, المستطرف: 235).
دونك فى السودان بذئ القول وفاحش الشتائم حتى تميّز قاموس حكّام السودان على سائر خطاب الحكام فى العالم بلغته المنفّرة يمتلأ بالعبارات والألفاظ التى يندى لها الجبين من الأسفاف والمهاترة. أمثلة ذلك كثيرة من مثل "شحادين, تحت جزمتى, لحس الكوع, حز الرقاب, تقطيع الأوصال, تجهيز المقابر للأحزاب وأقامة صلاة الميت عليها, والاغتسال فى ماء البحر" وغيرها الكثير الذى يخدش الحياء يتأفف أن ينطق به حتى الدهماء, ناهيك أن يقول به من هم حكام الدولة. ثم دونك تهافت القوم على كل ما من شأنه أن يجلب لهم منفعة آنية دونما اعتبار لرفعة المقام أو حرمة السلطان. حتى صار علية القوم يطلبون "عمولات" و"رشاوى" تدفع لهم للقيام بواجباتهم التى هى من صميم مسؤولياتهم فى القيام على خدمة الناس وتصريف شؤون الدولة.
الرابعة عشر/ الاستبداد بالحكم إيذان بهرم الملك وانفصام الدولة:
اعلم أن أول ما يقع من آثار الهرم في الدولة انقسامها. وذلك أن الملك عندما يستفحل ويبلغ من أحوال الترف والنعيم إلى غايتها, ويستبد صاحب الدولة بالمجد وينفرد به, يأنف حينئذ عن المشاركة, ويسير إلى قطع أسبابها ما استطاع, بإهلاك من استراب به من ذوي قرابته المرشحين لمنصبه. فربما ارتاب المساهمون له في ذلك بأنفسهم, ونزعوا إلى القاصية واجتمع إليهم من يلحق بهم, مثل حالهم من الاغترار والاسترابة. ويكون نطاق الدولة قد أخذ في التضايق ورجع إلى القاصية؛ فيستبد ذلك النازع من القرابة فيها. ولا يزال أمره يعظم بتراجع نطاق الدولة, حتى يقاسم الدولة أو يكاد : (ابن خلدون: المقدمة:267).
أورد ابن خلدون أمثلة كثيرة من تاريخ الدول الاسلامية وانفصالها لدويلات. اذ نزع عبد الرحمن الداخل الى الاندلس واقتطعها من دولة بنى العباس, ثم نزع ادريس الى المغرب وأقام بها دولة الأدارسة على البرابرة من اوربة ومقيلة وزناتة, ثم مروق الأغالبة من دولة الشيعة, ثم مصر والشام والحجاز. فصارت الدولة العربية ثلاث دول: دولة بنى العباس, ودولة بنى أمية فى الأندلس, ودولة العبيديين بافريقية ومصر والشام. الشاهد أن الاستبداد بالحكم ايذان بهرم الملك وانفصام الدولة. ولعل فى هذا عبرة لحكام السودان الذين استبدوا بالحكم وابعدوا الآخرين فوقع الظلم والحيف على عامة الناس, فنهض أقوام يطالبون بحقوقهم ويخرجون على طاعة الدولة, فاخذت البلاد تتناقص من قواصيها وتنفصم عراها. وما نراه اليوم من انفصال الجنوب الوشيك وانفصام الغرب المحتمل إلا شاهدا على ان الاستبداد بالحكم نتيجته تفكك الدولة وانفصام عراها.
اللهم أصلح حال عبادك باصلاح حال ولاة أمورهم, وأنت المستعان.
07/05/2010 الجمعة
fadl8alla@yahoo.com