صفية إسحق: ارفعي رأسك ولنطأطئ نحن رؤوسنا !!
خالد عويس
روائي وصحافي سوداني
khalidowais@hotmail.com
مرت أربعة أيام على مقالي الأول الذي خصصته للاتهامات التي وجهتها السيدة صفية إسحق لثلاثة من أفراد جهاز الأمن السوداني باغتصابها وطالبتُ من خلاله بفتح تحقيقٍ عاجل حول الواقعة لجسامتها وفظاعتها وكونها عملاً غير مسبوق في تاريخ السودان حتى في عهود الاحتلال.
كان المأمول طبعاً من الحكومة السودانية أن تدير الأزمة هذه المرة بطريقة مغايرة نظراً للظروف الإقليمية التي تعيها جيداً. لكنها - أي الحكومة - لم تخيّب التوقعات أبداً، فهي كدأبها تستهين بكرامة الناس وتستهين بحقوقهم ولا تلقي لهم بالاً. الآخرون فعلوا الكثير. فصفية إسحق بادرت بالظهور في فيديو جديد شرحت فيه الواقعة وأكدت أن ثلاثة من رجال الأمن قاموا باغتصابها وضربها في مكاتب جهاز الأمن في الخرطوم بحري قرب موقف شندي.
واتضح أن صفية إسحق فنانة تشكيلية سلاحها هو فرشاتها وألوانها. قضية صفية إسحق التي غضت الحكومة السودانية الطرف عنها، ولم تتكرم على شعبها إلا بنفي خجول من مصدر في جهاز الأمن على الصفحة الأولى في صحيفة (التيار) عدد الجمعة 25 فبراير، تلقفتها أجهزة الإعلام العالمية، هيئة الإذاعة البريطانية، ووكالة رويترز للأنباء، وسي إن إن عبر (أي ريبورت) هذا إضافةً للمواقع السودانية على الإنترنت. والمتوقع أن تكبر كرة الثلج تدريجياً لتستحيل إلى قضية رأي عام عالمية.
الحكومة السودانية، إضافة إلى النفي الخجول في صحيفة (التيار)، بادرت إلى تزويد بعض أعوانها في المواقع السودانية بوثيقة طبيةٍ (أورنيك 8) في محاولةٍ للقول إن صفية إسحق كاذبة ومدفوعة من قبل المعارضة لتلطيخ سمعة النظام وكأن النظام تعوزه المزيد من السمعة السيئة !
أورنيك 8 الذي جلبه أعوان النظام تصدى له أطباء وطبيبات في (سودانيز أون لاين) بملاحظات:
أولاً: الدكتور عمر محمد إبراهيم، لفت إلى أن خروج هذا الأورنيك الذي يصف حالة أذى وعورة إحدى المريضات هو جريمتان، الأولى ضد المستشفى التي سمحت بخروجه وعرضه وبه تفصيل ووصف لمهبل إمرأة، وهذا حنثٌ بقانون المهن الطبية وإفشاء لأسرار المرضى. والثانية هي (اثبات اعتداء أكثر منه نفياً له حيث جاء فيه (وجود تقرحات حول المهبل) فما هي هذه التقرحات... ؟؟؟وهل هو ناتج استخدام قوة ؟؟؟ علماً بأنها تقدمت بشكوى تدعي فيها الاعتداء الجنسي على حد قول الدكتور عمر.
الدكتور عمر أشار أيضاً إلى أن الأورنيك لم ينف أو يؤكد وجود أو عدم وجود غشاء البكارة، وزاد بأن قناعته هي أن وجود أو عدم وجود غشاء البكارة لا ينفي وقوع اعتداء جنسي.
ثانياً: الدكتور مرتضى عبدالجليل أكد من خلال خبرته الطبية الممتدة لـ 14 سنة أن أورنيك 8 (يثبت وبصورة قاطعة وقوع الاغتصاب)، وتحدى الدكتور مرتضى أي طبيب ينتمي للسلطة اثبات العكس !
ثالثاً: الدكتورة نفيسة عثمان الجعلى وقد أشهدت الله على أقوالها مشيرة إلى أدلة طبية بعينها تفيد بوقوع الاغتصاب حسب أورنيك 8 الذي عرضه أعوان النظام، وهي 1. وجود تقرحات حول فتحة المهبل يدل على وقوع اعتداء عنيف على منطقة المهبل
2. وجود دم في منطقة المهبل ، وحتى لو كان نتيجة الدورة الشهرية ، فذلك لا ينفى أن بعضه ناتج عن التقرحات الناتجة عن الاغتصاب والعنف الذي حدث
3. فتحة المهبل ضيقة للغاية نتيجة الخفاض الفرعوني حسب تقرير الطبيبة، وذلك لا ينفى وقوع الاعتداء.
4. فض غشاء البكارة من عدمه ، لا ينفى حدوث الاغتصاب الجنسي ، وذلك نتيجة للختان الفرعوني الذي لا يتيح الإيلاج الكامل إلا بعد تكرار العملية مرارا ،وقد يحتاج ذلك إلى تدخل جراحي لفتح جزء من الختان الفرعوني ، وهذا يحدث كثيرا في حالات الضيق الشديد لفتحة المهبل نتيجة الختان الفرعوني
وتختم الدكتورة نفيسة الجعلي بـ(عليه فهذا التقرير الطبي هو دليل طبي على وقوع الاغتصاب لهذه الشاكية ويؤكد صحة أقوالها).
رابعاً: الدكتورة شذى بلة محمد أشارت إلى أن وجود تقرحات حول المهبل يعضد دعاوي الاغتصاب خاصةً إذا ظلت هذه التقرحات مرئية للطبيب بعد مضي 3 أيام على الواقعة.
خامساً: الدكتورة أماني فرح أكدت أن التقرير يثبت بما لا يدع مجالاً للشك وقوع اغتصاب.
ولعل شهادات خمسة أطباء وطبيبات تعزز الاعتقاد لدى الغالبية العظمى من السودانيين بأن صفية تعرضت لاغتصاب فعلاً. ما فات على أعوان النظام هو تأكيد أو نفي واقعة اعتقال صفية في 13 فبراير 2011. جهاز الأمن ذاته – على لسان مصدره الذي تحدث إلى صحيفة (التيار) لم ينف واقعة الاعتقال، بل ذهب في اتجاهٍ (عنصريٍ) بعيد. فبحسب الصحيفة، قال المصدر الأمني(المطلع) الذي فضّل حجب اسمه إن (الفتاة المذكورة تتبع لإحدى حركات دارفور ولها سجلٌ حافلٌ بإدارة الأمن السياسي). ونفى المصدر – تبعاً للصحيفة – بشدة هذه الاتهامات وأكد لـ(التيار) أن الفتاة المعنية اختفت بعد أن سجلت مقطع الفيديو ولم تتابع إجراءات البلاغ الذي فتحته بقسم بحري شرق. وقال المصدر للصحيفة إن (كل من يشاهد الفيديو يلاحظ التمثيل في سرد القصة ومحاولة استغلال الظرف الحالي لإثارة العواطف سياسياً).
حسناً، إن تصريحات مصدر جهاز الأمن مليئة بالثقوب:
أولاً: لم ينف بشكلٍ صريح واقعة اعتقالها، بل نفى الاتهامات المتعلقة بالاغتصاب، وهذا يرجح الظن بأنها كانت معتقلة فعلا، وإلا لبادر المصدر الأمني واقعة اعتقالها من أساسها.
ثانياً: زجّ بحركات دارفور دون داعٍ إلا إذا كان الداعي عنصرياً، ما معنى السجل الحافل لها بالأمن السياسي كناشطة ضمن حركة دارفورية؟ هل هذا محرم؟ أليس من حقها أن تمارس عملاً سياسياً؟
ثالثاً: أكّد في سياق تصريحاته أن جهاز الأمن بحث عنها، وإلا كيف عرف هذا المصدر أنها اختفت؟
رابعاً: مضى المصدر الأمني بعيداً في تحليل الفيديو من الناحية النفسية ورمى صفية بـ(التمثيل) ! وهي إشارة تنبئ عن رغبة في حرف الأنظار عن لبِّ المسألة.
خامساً: لم يشر المصدر لا من قريب ولا من بعيد إلى أن جهاز الأمن سيجري تحقيقاً حول هذه الاتهامات !!
هذا النفي من قبل مصدرٍ في جهاز الأمن علاوةً على التسريبات (غير الأخلاقية) من قبل أعوان النظام يؤكد أن الحكومة السودانية ستتبع الأساليب ذاتها التي اتبعتها حيال اتهاماتٍ سابقة لاحقتها بانتهاك حقوق الإنسان على نحوٍ غير مسبوق. الحكومة كذّبت تلك الاتهامات كلها ثم اعترف رأس النظام أخيراً بـ(بيوت الأشباح). الحكومة السودانية تلجأ في كلِّ مرة إلى اتهام المعارضة بـ(الفبركة) و(الكذب) وهما تهمتان عجيبتان حين تصدران من قيادات كذبت على الشعب السوداني منذ اليوم الأول للانقلاب المشئوم.
الحكومة السودانية، طالما أنها انتهجت هذا النهج، فهي لن تجري على الأرجح تحقيقاً، بل ستسعى إلى محاولة تلطيخ سمعة صفية إسحق. والحقُّ إن صفية إسحق تستحق الإنصاف من خلال تحقيقٍ شفاف وعادل من أجل الحقيقة. الشعبُ السوداني كلُّه يريد أن يعرف الحقيقة. إما أن صفية إسحق كاذبة فتُعاقب، أو أن ثلاثة من جهاز الأمن اغتصبوها بالفعل، فيُعاقبوا وتُعاقب الحكومة التي مكنتهم عبر قوانينها وأجهزتها القمعية من فعل كل شيء دون خوف، فمن أمن العقوبة أساء الأدب.
وإذا كانتِ الحكومة السودانية وأجهزة أمنها لا تريد إجراء مثل هذا التحقيق، في وجود أدلة طبية اعتبرها خمسة من الأطباء والطبيبات برهاناً ساطعاً على الاغتصاب أو الاعتداء الجنسي على الأقل، وهو اغتصاب أيضاً في نهاية المطاف، فإن ذلك يعني نفي نفيها الذي جاء على لسان مصدر أمني مطلع. وفي هذه الحالة ستكون صفية إسحق بنظرنا جميعاً بطلة قومية، والشواهد كلها تقول ذلك بالفعل. صفية إسحق لم تُغتصب، بل أُغتصبت الأمة التي خرجت صفية إسحق من أجل كرامتها وحريتها في 30 يناير !
صفية إسحق لن تطأطئ رأسها، لأن من يتوجب عليه ذلك هو الشعب الذي ضحت صفية من أجله بأغلى ما لديها وهو لا يحرك ساكناً !
صفية إسحق ستنضم إلى ركبِ الأبطال الكبار في تاريخنا، في ما سيبصق تاريخنا على وجوهنا وجهاً تلو الآخر، لأن فتاةً من أمتنا تقدمت وضحت بنبل، ونحن لم نفعل شيئاً سوى الصمت والإدانات الخجولة !
وفروا إداناتكم وشجبكم، فهي لن تفيد شيئاً، ومَن تقدمت لتضحي نيابة عن شعبٍ بأسره، لن تكون في حاجةٍ للشجب والتنديد، فهي أقوى من ذلك، أقوى منّا جميعاً. هي خرجت من أجل حريتكم وكرامتكم، وأنتم اخترتم أن تعيشوا - في صمت - تحت حذاء الطاغية !
صفية إسحق اختارت أن تحيا بكرامة مرفوعة الرأس، واخترتم أن تموتوا بحياة الذل والخنوع والخوف.
صفية إسحق إمرأة من بلادي نفاخر بها الأمم، وأمتنا استحالت في غضون 21 سنة فحسب إلى أمةٍ تعيش على الفساد وموت الضمائر والجبن من عصا الشرطة !
صفية إسحق هي (سبارتاكوس) أمتنا، فهي مضت في طريق رفض حياة العبودية فحطمت أغلالها وحاولت تفجير طاقات الخير والرغبة في الحرية لدى عبيد (روما) الخانعين تحت (القيصر)، ونحن اخترنا أن ندفن رؤوسنا في الرمال.
ليست صفية إسحق المجللة بالعار، بل نحن !
من مِنكم سيستل عصاه ويتجرأ أن (يعرض صقرية) أمامها على وقع (شدولو وركب) أو (من عصراً كبير حس الرصاص قحّ..الفارس برز..والخايف اتنحى) أو (الفينا مشهودة) (أبواتك قبيل بيحلوا للعوجات) وهل من (عوجة) على البسيطة أكبر منا؟ وأي فارس هذا الذي تكمن كل فروسيته في هزِّ عصاه و(العرضة) في الحفلات فحسب، وحين يحتدم الوطيس فعلاً يلوذ ببيته خائفاً مرتعداً من الموت؟
إن صفية إسحق هي مسؤوليتنا جميعاً، مسؤولية الجبناء والخائفين الذين دفنوا رؤوسهم في الرمال طويلاً، وغضوا الطرف عن الظلم والفساد. إنها مسؤولية (الغفلة) واللا مبالاة والبطولات الزائفة التي لا تظهر إلا في الحفلات الغنائية التافهة حين يندفع العشرات لهز عصيهم وكأنهم فرسان فعلاً. إنها مسؤولية كل فرد في هذه الأمة المنكسرة الخانعة التي تحيا على هامش القيم وهامش الشرف وهامش الفضائل وهامش الأخلاق.
صفية إسحق هي العنوان الأبرز لمرحلةٍ جديدة في تاريخنا، هي عيشنا خارج الشرف، هي أننا أمةٌ بلا شرف !
هل بقي فينا إحساس؟
من نحن؟ من أين أتينا؟ لماذا نفاخر بقيمنا وإرثنا؟ أي إرث ولو أحيا الله الإمام المهدي أو عثمان دقنة أو بعانخي أو عبدالفضيل ألماظ لبصقوا على وجوهنا ولطردونا من هذا التراب الطاهر كما يُطرد الكلب الأجرب؟
أي قيم ونحن عراة كما ولدتنا أمهاتنا أمام بوابات التاريخ؟
ألم تتشدقوا زمناً طويلاً بأنكم أنتم الفرسان وجيرانكم جبناء؟ ها هم قدموا للعالم أجمع ملحمة أسطورية وأنتم كأنما على رؤوسكم الطير، وليت الطير ذاته قنع بالحط على الرؤوس ولم يتبول عليها.
ألم تتشدقوا زمناً طويلاً بأنكم أنتم صناع الثورات، وجيرانكم الآخرون لا يعرفون الثورة؟ ها هم يقدمون الآلاف في سبيل حريتهم وكرامتهم في مواجهة طاغية متجبر مثل القذافي، وأنتم تزحفون على الأرض طلباً لرضا طاغيتكم !
حكومتكم تستهين بكم، قتلت أولادكم في الجامعات وفي معسكر العيلفون، قتلت خيرة الضباط وخيرة الشباب بدعوى الاتجار في العملات الأجنبية، عذّبت الآلاف في (بيوت الأشباح) حتى ضرب واحدٌ منهم أستاذه في الجامعة، ضيّقت عليكم في المأكل والمشرب، فرضت ضرائب باهظة، زوّرت ارادتكم، قالت لكم (الحسوا كوعكم) إذا أردتم الخروج إلى الشارع، سخرت من رجولتكم ونخوتكم، ألغت مجانية تعليم أبنائكم، ألغت مجانية علاجكم، ساقت عيالكم بالآلاف إلى محرقة الحرب في الجنوب، قسّمت وطنكم، أخرجت لسانها لكم وهي تنهب وتكتنز الأموال في ما أنتم في فقرٍ لم تتخيلوه في حياتكم، والآن تحاصرها اتهامات بتدنيس آخر ما تبقى لكم، الشرف، فهل أنتم بلا شرف؟
حكومتكم حتى الآن لا تريد أن تتعطف عليكم بتحقيق في واقعة اغتصاب بنت من بناتكم، وأنتم ساكتون. تعلمون جيداً ماذا سيكون مصيرنا جميعاً إن صمتنا، وإن لم يتعد فعلنا الإدانات الخجولة والشجب والاستنكار.
تعلمون ذلك جيدا، وحينها ستدركون أن الوقت تأخر على فعل أي شيء سوى مواراة جثامينكم الثرى هذا إذا قبل بكم تراب السودان الطاهر !