ضرورة تأمين المناخ السياسي قبل الإنتخابات … بقلم: عمر الترابي
21 January, 2010
Omar Hamad [alnahlan_new@hotmail.com]
ظلت الديمقراطية خلال النصف الثاني القرن الماضي خياراً مُرتضىً لتوطيد حُكم الشعب في العديد من الفعاليات التنظيمية التي تتمايز شكلاً و مضموناً و تختلف صيغها و مراميها ومجالاتها من المجالسِ الشعبية والبلدية مروراً بمجالسِ الحُكم و الأحزاب صعوداً إلى مؤسسات الرئاسة وقمم الهرم القيادي في الأمم، وبذلك الإختلاف تتأثر الديمقراطية أيضاً فتختلف أشكالها ومسمياتها ولكنها تتحد في قيامها علَى أُسسِ التداول السلمي للسلطة و حكم الأكثريّة مع مراعاةِ حقوق الأقليّات والأفراد و حتماً فإن هذا المُسمى يضيق ويتسع في مخاطباته للمجتمع الحر أو الحكم الرشيد، و شارات الديمقراطية غالباً ما تُبشر بالرضى الشعبي و تخمد التأورات التي تُهيِّجُها نيرانُ الكبتِ ويُزكيها الطغيان- إلا أن كل أطوار هذه الممارسة يجب أن تكون محكومةً بضوابط التراضي و الإلتزام بنهج وطني ٍّمستقيم-، وقطعاً يأتي الإنتخاب واسطة عقدٍ في هذه الممارسة الهامة كإحدى آليات تداول الحكم بالتراضي في الديمقراطيات الحديثة نيابيةً كانت أم مباشرة، و نحمد إلى الله ان بلادنا بعد غياب طويل (نأمل) أنها تنحى اليوم نحو التحول الديمقراطي و تتأهب للدخول في الإنتخابات إمضاءً لميثاق السلام الذي وُقِّع في نيفاشا لتحقيقِ السلام الشامل والتنمية المستدامة في السودان.
والحق أن السودان عاش في السنين الأخيرة، سنوات حرجة؛ فالتطور المُتسارع للأوضاع وصل بالناس إلى مرحلةِ الأزمة الشاملة، حتى أن بعض الأجيال وهنت لديها الأحلامُ بميلادِ دولة عصرية يتساوى فيها الناس في الحقوق والواجبات وتهاوت الأمنيات صريعة، بل أن البعض اعتبر أن مشروع الدولة الوطنية مهدد بالسقوط حيال الأزمات التي دُبرت و أديرت لهذا الوطن، هذا الشعور وفّر أرضية مناسبة أقنعت كل أطراف الصراع في السودان بأهمية اللجوء إلى الديمقراطية، إذ أُعتبر أن غيابها هو سببٌ أصيل لجمة الكوارث التي ألمت بالبلاد، فولّدت هذه القناعة الإتفاق المشار عليه عاليه ومتمماته من اتفاقيات سلام، وميثاق نيفاشا هو الذي قرر إجراء تراتيب لتمكين السلام في الوطن أولاً ثم أعقبها بانتخابات لتضمن استمرارية السلام وبناء الدولة العصرية التي تعتز بهويتها السودانية ومكوناتها.
قطعاً تأتي هذه الإنتخابات في مرحلة مفصلية من تاريخ الأمة و التفاعل معها كحالة إستثنائية وتناول أمرها بفكر- ينفك عن إسار النصية وينهض بمقصدياتها- لهو ضرورة وطنية، فهذه الإنتخابات ستكون بوابة لتاريخ جديد و يعتقد البعض أنها ستكون من موجهات وحدة السودان من عدمها، ولا يتوانى أحد في إبداء تخوفه من ما ستفضي إليه إن لم تُجرى بالطريقة المستقيمة، فحتى تتحقق مقاصد الإنتخابات و قيم الديمقراطية يجب تأمين المناخ السياسي حتى لا ينالنا الندم بعد فوات الأوان متعذرين بإلتزامنا حرف عهد و تناسينا قصده، فالتجارب الإنتخابية التي انتظمت في العديد من الدول تجعلنا أكثر حرصاً على ضرورة تأمين المناخ السياسي، لنتجنب الفوضى و لنتعظ من التجارب في الدول الصديقة (كينيا، موزبيق، ايران)، التي تابعنا تجاربها بكثير من الأسى ورأيناها تتفلت عن القيم التي يبنبغي أن تتسم بها الممارسة الديمقراطية، وقد تسببت إنتخاباتها في حالة كان من الممكن تجنبها لو أُعملت الحكمة و وُفِّرَ المناخ السياسي الحميد لإجراء انتخابات، ورأينا كيف أثر ذلك في الإقتصاد المحلي لتلك الدول وغشى بالإضراب أثراً حتى على السلم والأمن العالميين.
إن عملية التحول نحو النظام الديمقراطي ليست عملية محسومة سلفاً، ولا تأتي في إطار (نقل) تجربة الآخر من الأمم ذات السبق الديمقراطي حرفياً، بل هي مسعىً تراكمياً يُوالى بالتطور و النقد والمراجعة والتنقيح، ويُراعى فيه دوماً ضرورة تحقيق مقاصد العملية الإنتخابية واستدرار الرضى الشعبي، وأي ممارسة تخرج عن هذه المقصدية لا يصح وصفها بالديمقراطية إلا تجملاً!
حالة الإستقطاب السياسي و ما أفرزته من مناخ سياسي مشحون وما أزاكها من جدال سياسي وقانوني أخير بين شريكي الحكم و حلفائهما، زادت من وتيرة التوجسات التي دعت المراقبين إلى المطالبة بعمل سريع يُنقذ الإنتخابات ويضمن سلامتها، هذا بدوره أحيا معاني الوفاق وضرورته بين الأحزاب السياسية، لذلك كان لا بد من ظهور تيار وفاقي عام يُعاصِي حالة التوتر المتأججة التي تهدد سلام وأمن الوطن ومكوناته.
جاءت مبادرة مولانا الميرغني القديمةُ الجديدة، لترفع راية السلام وشارة الوفاق وبرّاق الأمان، وهي مبادرةٌ متجردة من حزب ديمقراطي يجِدُ في تنزيل معاني الديمقراطية وقيمها في السياق الذي يحفظ للأمة هويتها ويضمن وحدتها ويؤيد سعيها نحو الخير، فتاريخه المشرق انضاف إليه مثابرته الحالية في دعم التحول الديمقراطي نضالاً ثم مشاركة في التحول بالطرح و النقد البناء ومن ثم التلمس لعلاج أدواء الأمة، فقد كان أول الأحزاب تحديداً لرمزه الإنتخابي (العصى) وكان أول من قاد حملات التوعية بأهمية التسجيل في الإنتخابات ودبت قواعده حركة دؤوبة ونشطة، و بالتزامن مع ذلك كان يرفع شعار (أولية الوطن) وضرورة أن تكون الإنتخابات منزهة عن التلبيس والغرض، و تزامن مع ذلك عرضه للوحدة الوطنية الذي قدمه للحيلولة دون انفصال الجنوب.
لم يُخيب شريكا الحكم في السودان الظن الشعبي بهما فقد أعلن المؤتمر الوطني دعمه وتأييده للمبادرة، و بحكم العلاقة التاريخية بينهما يبقى دعم الحركة الشعبية القديم (متجدداً)، فقد كانت الحركة الشعبية أول من دعم المبادرة في طرحها الأول فالأكيد أنها اليوم ستجدد دعمها فما بينها وبين الإتحادي أصيلٌ منذ أن تواثقا على وحدة السودان أرضاً وشعباً في 1988م، والقيمة الحقيقة التي ستحققها مبادرة صاحب السيادة السيد محمد عثمان الميرغني "حفظه الله
"، هي أنها ستُعيد أجواء الحوار الوطني وتُعيد البريق للحل (السوداني- السوداني)، وعودة الحوار الوطني ستؤدي إلى وفاق وطني عام، وحدٍ أدنى من الإجماع الوطني الذي سيكون بدوره صمام أمانٍ للوطن.
لعل سياق الطرح في هذا المقال كان القصد منه تكرّيس المبادرة لعلاج أزمة المناخ السياسي بإعادة الوفاق لضمان تحقيق مقاصد الديمقراطية وتأمين عواقب الإنتخابات، وإن كانت مقاصد المبادرة تتسع لأوسع من ذلك ولكن لفت النظر لهذه الجزئية يُضاعف من جهود القائمين عليها ويُسارِع بخطواتهم نحو تحقيق مؤتيات الوئام، فمسؤولية المبادرة اليوم أن تخاطب التيارات السياسية كلها، وكما أُعلن فإنها ستخاطب الجميع بلا ممايزة ولا إقصاء، وجلوس أهل السودان في صعيد واحد هو نصف الحل بلا شك.
إن حاجة الأمة السودانية اليوم للوفاق تفوق حاجتها إلى أي شئ آخر، فالمشكلات الحقيقة التي ينبغي أن تُفرغ فيها الجهود و توجه إليه العقول، ما تزال بعيدةً عن التناول بسبب غياب جو الوفاق الوطني، وهي مشكلات في عمق المجتمع و بين أوساطه، و إنشغال النُخبة السياسية بتأطير الأُطر العامة و ترسيخ المبادي وتقويم المباني يحرم الأمة من عطائهم في هذه الجوانب الحية، فبلادنا بفعل عوامل عدة دخلت إلى دائرة مشكلات اجتماعية مثل العنف المدرسي! و مشكلة المخدرات مثلاً وغيرهن من القضايا التي لا تُحل بسن القوانين وإنما تحتاج إلى جلسات وندوات ومؤتمرات فكرية وتنمية لكل البواعث الأيدلوجية لتخاطب المشكل الإجتماعي والتعليمي والسياسي.
لذلك يأتي عشمنا بأن تتوافق هذه النُخب، خاصةً وأنه قد تهيأت لنا الآن مبادرة وطنية خالصة لا شروط فيها، و قد اكتسبت موافقة وتأييد من فعاليات المجتمع و قيادات الأحزاب، حتى يتواثقوا على الحد الأدنى من الإجماع الوطني، ويتنادوا إلى مواثيق شرف تعصم التجربة الديمقراطية من الإنزلاق إلى وحل الفشل، فيأمنوها عبر تمليك السلطة-المنتخبة المقبلة- قدرةً على فض التراعات، و الإسهام في توفير بنية اقتصادية فعالة، و كبح محاولات تغيير البنية الأساسية للمجتمع.
مما يُبشر بإمكانية إختراق الوضع المأزوم والتقدم نحو الحل عبر هذه المبادرة، عبقرية الزمان الذي أُنعشت فيه، فالبلاد تحتفل هذه الأيام بفواتح عام هجري وميلادي، و ذكرى الإستقلال المجيد و أيضاً أعياد السلام (نيفاشا)، وتأتي أيضاً هذه المناسبة لنرفع مناشدتنا بضرورة تفعيل اتفاق القاهرة الذي وقع بين التجمع الوطني الديمقراطي و الحكومة السودانية، وهو اتفاق قومي مجيد، انفك عن إسار الجهة و الإثنية وخاطب مشكل السودان بقومية واضحة، فالإحتفاء الرسمي به يُبشر بوحدة السودان ويمجدها، خاصةً وأنه شمل توقيع فخامة نائب رئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان محمد طه نيابة عن حكومة السودان و صاحب السيادة مولانا السيد محمد عثمان الميرغني نيابة عن التجمع الوطني الديمقراطي و الراحل الدكتور جون قرنق نيابةً عن الحركة الشعبية لتحرير السودان، وكانوا في معية الشقيقة مصر المضيافة و شرفها بالحضور فخامة الرئيس محمد حسني مبارك، فإتفاق بهذا العمق ينبغي أن يُعمم خيره و يُرعى تنفيذه، ليتمم عمل مبادرة مولانا الميرغني للوفاق الوطني بإعتباره الأساس الأول للمصالحة الوطنية.
إن أمل جميع بني السودان اليوم أن تُتَوج جهود مولانا الميرغني و حزبه العملاق بوفاق سوداني شامل، فعبر هذا الوفاق الوطني الشامل سنمضي واثقين من أن تجربتنا الديمقراطية القادمة ستصب في تدعيم الرضى الشعبي و سيتقبل أهل السودان –كما العهد بهم- نتاج العملية الإنتخابية (المنزهة عن التلبيس والتزوير) و الذي سيكون حكومة رشيدة ورصيفتها معارضة وطنية يعملان سوياً من أجل الوطن، فعلى قادة الأحزاب الوطنية أن يغتنموا هذه الفرصة؛ فإن لهذا الشعب حقاً ينبغي أن يؤدى، فأعيدو بالوفاق الحلم لأبناء هذا الوطن، إنهم يحلمون بوطن يسع الجميع متصالح و متسالم يسوده العدل والأمان، وهذا سادتي لا يتأتى إلا بالوفاق، والوفاق لا يتأتى إلا بتصافي النوايا واستحضار التقوى التي تربي في النفوس معاني إصلاح ذات البين و تنأى بهم عن الحوالق والمهالك والمزالق التي تجلبها المماحكة والشحناء والبغضاء والعداء، إن المسؤولية الآن هي العمل على تهيئة مناخ يُدَّعم مساعي هذه المبادرة، والله المسؤول أن يُصلح ذات بيننا و يرحمنا بالوفاق وينجينا من الشقاق، به الإعانة بدئاً وختاماً.