في السودان تقلصت الدروس الخاصة بالتربية الوطنية ، إلى محض قضاء وقت فراغ بين الدروس . لا تُقدَم المادة الدراسية إلا في المرحلة الثانوية . ومحتوياتها ضعيفة المستوى كماً ونوعاً. في جميع الدول المتقدمة ، يتم تدريس مواد التربية الوطنية ، بشكل مُغاير. منذ مرحلة الطفولة يتم تعليم الأطفال الصحيح من الخطأ وعدم الكذب ، ويدرسون رعاية المُسنين والمعاقين وتقديم العون لهم وخدمات الأسرة والمجتمع وضرورة التقيد بالقوانين وضرورة انتشار العدل ووسائله . وضرورة التوعية الصحية والنفسية والاجتماعية وتنمية المهارات والفنون الإبداعية . وتدريب الأطفال على الخدمة العامة وأخلاق التسامُح . وتعليمهم أن الناس سواسية ، لا فروق بينهم بسبب الدين أو الجنس أو العرق أو اللغة أو الثقافة عامة . ولكننا ومن خلال نظامنا التعليمي والتربوي ،ذهبنا بعيداً وغرقنا في بحر أزرق يسمى سوء الأخلاق، لأنه لا توجد لدينا قدوة ، فكبير الدولة خرق الدستور وخرق القوانين ، بل يفاخر بذلك !.
(1)
نبدأ بشخصية عامة ، دعنا نسمها " أحمد " ، كان من المعماريين الذين درسوا هندسة العمارة في جامعة الخرطوم ، أوائل سبعينات القرن العشرين . نال أرفع الدرجات عند تخرجه ، وتم تعيينه مساعداً للتدريس بقسم العمارة بكلية الهندسة والعمارة بالجامعة. وبعد أشهُر تم ابتعاثه للمملكة المتحدة ، وأنجز درجتي ماجسير في علمين مُختلفين من علوم هندسة العمارة. كان من المؤمل عودته للجامعة ، ليمارس ضمن هيئة التدريس تأهيل الأجيال اللاحقة . فقد درس هو الجامعة مجاناً ، وكانت الجامعة توفر له المسكن والمشرب والمأكل . لكنه بديلاً عن ذلك ، رد جميل الدولة التي علمته وابتعثته من مال أهله الطيبين على نحو أناني خاص . غادر المملكة المتحدة إلى إحدى دول الخليج مباشرة .أي لم يسدد دين وطنه عليه وذهب بلا رجعة!.
(2)
نأتي لشخصية أخرى، ودعنا نسمها " أحمد الثاني " . هو سليل أسرة أجنبية ، يوغندي الأم ويمني الأب . درس في جامعة " ماكرري " بيوغندة ، ثم عمل سنة أو سنتين في يوغندة ويحمل الجنسية اليوغندية . التحق بجامعة الخرطوم ، وتم قبوله في السنة الثالثة في قسم هندسة العمارة منتصف سبعينات القرن العشرين . قضى سنوات البكلاريوس بالجامعة ، وتم تعيينه مساعداً للتدريس بها . خلال تلك المدة أنجز رسالة الماجستير في جامعة الخرطوم ، وتم ابتعاثه لكندا لاعداد رسالة الدكتوراه، عام 1984 ، ولكنه غادر لكندا وأيضاً لم يعد إلى السودان بعد انتهاء المهمة. و كانت جامعة الخرطوم قد قدمت له إضافة للتعليم ، السكن والطعام والشراب .أي لم يسدد دين السودان عليه وهو أجنبي!
(3)
الكثير من طلاب جامعة الخرطوم ، من الأرياف البعيدة الذين درسوا في المدارس الداخلية الوسطى . وكانت الدولة توفر لهم التعليم والسكن والطعام خلال تعليمهم الأوسط و الثانوي والجامعي ، وبعضهم كان ينال منحة شهرية لمصروفاته الخاصة " Bursary The"، وتذاكر سفر بالسكك الحديدية مجاناً لموطنه كل عام دراسي . وكان جزاء الدولة ، أن هربوا إلى الدول العربية ، دون أن يعملوا في السودان ،أو يؤدون ضريبة الوطن،بالعمل لرفعة أهله وبالثمن المدعوم ،ولكنهم آثروا العمل من أجل ذواتهم ومصالحهم الخاصة .
هذا الأمر ينطبق على كثيرين ، من الذين قدمت لهم جامعة الخرطوم من خيرها الكثير، وهي وسيط لأهلنا الطيبين الذين دفعوا فاتورة التعليم والسكن والطعام في الجامعة ، بعد رفضت السلطة القائمة في السودان قبول الإعانة التي تصلها من المملكة المتحدة منذ العام 1970، لأن الجامعة هي في الأساس " كلية غردون التذكارية " ونشأت كعمل خيري لتخليد ذكرى " غردون باشا". وكان الجزاء ، كما أوضحنا ، الهرب من أجل المنفعة الشخصية ، إلى أن جاء الإخوان المسلمين للسلطة بليل في يونيو 1989. وصار التعليم بالثمن ، والجامعة مثل أخريات ، بلا سكن وبلا طعام . وصار من الطبيعي أن يسعى الخريجون لمنافعهم الخاصة ، فقد دفع أولياء الأمور ثمن كل التعليم من الأولية إلى الجامعة.
(4)
لن ننسى قيادة الإخوان المسلمين التي تحكم السودان الآن ، الذين درسوا جامعة الخرطوم في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن العشرين . قدمت لهم الجامعة التعليم والسكن والطعام ، وكان جزاء الجامعة ، بل السودان أشرّ من العقوق . ليس الهجرة للمصالح الشخصية ، بل هدم الدولة ومؤسساتها !. وبيع أراضيها وباطن ثرواتها الطبيعية . وطرد العاملين في الدولة واستبدالهم بمن يوالي الإخوان المسلمين السودانيين، وصارت سياسة " التمكين " ، أو بمعنى أدق تمكين غير المؤهلين للصعود لوظائف الدولة . ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بنهب موارد الدولة وخزانتها ، وصار المال العام نهباً للتنظيم وقادته ، وعبر المال المسافر إلى القارات البعيدة ،دعماً للتنظيم العالمي! .
(5)
نسأل أنفسنا كيف الخروج من كل ذلك العبث ؟ إنه الجهل بالتربية الوطنية دون شك ، وجهل بالقوانين العامة، وهو جهل قاصِد ، وتدمير بسوء قصد وتخطيط مُسبق . وهو في محصلته النهائية ضعف في الأخلاق التي يتبارى أهل السلطان في تبيان أنهم أصحاب العقيدة السمحاء ، وأنهم القائمون على أمر الأخلاق ! هذا الحديث وأمثاله معروف لدى العامة من الناس . وهو ليس بالأمر الذي نحفر فيه بطون المعرفة ، بل أمر عام ومعروف منذ زمان. وكيفية الخلاص من هذا الداء هو الأمر غير المعروف ، وفي حاجة لقدح الأذهان ، فقد طفح الكيل . فكيف نعود بالفرع المعوّج إلى الإستقامة وأصله خَرِب ملتوٍ!.
وفدت إلينا أخلاق جديدة ، أسّسها " الربّانيون" الذين يُمسكون بالسلطة في السودان .أصبح النهب من المال العام " شطارة ". والغنى السريع بعمل أي شيء " فهلوة " .والرِشوة " خدمات " . وجُرعات المخدرات " بهجة ". والغنى السريع بأي وسيلة ، هو سبيل الشباب لتلبية الطموح . لا أخلاق تحبس الطموح ، ولا سقف للحاجات . وكما يقول أهلنا في الماضي "ما بيخُتُوا الرحمن في قلوبهم " أو " هم مارقين للرِبا والتلاف "!.
(6)
توسع هائل في الوظائف التي لا يُنتج أصحابها ، وسموها " وظائف سيادية " . أكثر من ثلاثة آلاف وزير ، وعضو برلمان ، في الاتحاد وفي الأقاليم، دعك من المدراء ونوابهم ، والجيوش الجرارة من التابعين وتابعي التابعين . مال سائب لا حدّ له . وليسأل أحد عن حاكم ولاية كاليفورنيا ، ذات الأربعين مليون نسمة ،كم عدد مساعدي حاكم الولاية ؟ ، علماً بأن أمريكا هي بلد التجربة الفدرالية التي يقتبس الإخوان معرفتهم وكسبهم " الفدرالي " عنها!. أما عن جهاز الأمن والمخابرات ، فقد صار هو الدولة الحقيقية القابضة على مفاصل السلطة . إدارات وأقسام وبنية تحتية من المباني والسيارات والدبابات والأسلحة والنظام الرقمي بمعداته ، ومجموعة هائلة من المؤسسات التجارية داخل السودان ولا تدفع ضرائب أو زكاة أو دمغة الشهيد! . انتشرت في العاصمة والولايات وخارج السودان في الدول المجاورة !. وصرف لا سقف له " من مطبعة النقود إلى الجيوب " مُباشرة ! . وميزانية لا تحرق النار أوراقها المالية من كثرتها. ونجد الوافدين بلا تراخيص يدخلون السودان من شرقه وغربه وجنوبه ، بمئات كل يوم ، ويظلون مقيمين بالسنوات في السودان ، معظمهم لا يضيفون كفاءة ولا معيار يطور البلاد . وفي ريح الفساد العاصف ، يتجنسون ويمتلكون المال والأراضي ويتسلقون سلم السلطان كما يشاءون . وعندما تسأل ، تجيبك المنشورات ، بأننا قبضنا على مهربي المخدرات ، وقبضنا على مزوري العملة وألقينا القبض على الأدوية التالفة . سلسلة من المنشورات هي كل عمل الجهاز الأمني الاستخباراتي !. (7) إقتصاد الإخوان : بقي لهم باب واحد ، جرّبوه من قبل : إنه إعادة سرقة المال من المواطنين ، تحت مسمى " تبديل العُملة ". كما صار الأمر في تسعينات القرن العشرين. ففيها سرقوا الأموال ، وفتحوا للمواطنين حسابات في البنوك ولا يصرف الواحد منهم إلا 5000 جنيه كحد أقصي أسبوعياً ، والجنيه لم يكن يعادل " 1000 جنيه " كما هو الآن. وأعلموا أهل التنظيم سراً أن فئة الخمسين قرش والجنيه لن تتغير . واستخدم التنظيم السلطة في شراء الأراضي والشركات بثمن بخس بعد انعدام السيولة . كل ذلك تمّ بعلم وزير المالية الإخواني " عبد الرحيم حمدي " . أغرب شيء أنه يتحدث الآن عن انهيار قيمة الجنيه !!. وقصصهم لا أل لها ولا آخر ،ومنها تجريبهم " الدينار " كعملة تأصيلية !!! . وتلك قصة من قصص ألف ليلة وليلة إخوانية . بقي أن نقول أن وقوف سلطة السودان مع " صدام حسين " في الماضي عند غزو العراق سببه ، قيام "صدام " بتمويل وتبني تنفيذ مصنع العملة في السودان وتجهيز ملابس للقوات النظامية للإنقاذ والدفاع الشعبي !. وبناء عليه بصموا على أن تكون " الكويت " المحافظة رقم ( 19 ) لدولة العراق!. " ما بنفع كلام يا ريتْ لا برجِّعنا لا بعيدنا " مع الاعتذار للشاعر .