ظاهرة فوضى الإفتاء الفضائي والإلكتروني في العالم العربي … بقلم: عمر محمد سعيد الشفيع

 


 

 


omar.alshafi@gmail.com
 إنتشرت  في الآونة الأخيرة في العالم العربي ظاهرة الإفتاء في الإعلام الإلكتروني و القنوات الفضائية و الظاهرة في إزدياد ملحوظ وتنوي بعض الدوائر السلفية أن تخصص قناة كاملة للفتوى والإفتاء ظناً منها أنها تقدم خدمة دينية لجمهور المسلمين.
 الملاحظ أن المستفتين يسألون في مجالات كثيرة تشمل الشعائر والأخلاق والثقافة والسلوك.  وتكثر الأسئلة في الأمور الخاصة وتقل في مجال المعرفة العلمية وبالطبع السياسية. وعلى امتداد رقعة الوطن العربي تسود ثقافة التحريم ولذلك نرى أن جل – إن لم يكن كل – المستفتين يسألون عن الحرام والحلال ليس لمعرفة الحكم المقرر بل لمعرفة رأي جديد وكأن الحرام مثل النهي ليس مؤبداً في الزمان والمكان.
 ولكن الأهم أن نسأل لماذا يسأل الناس هذه الأسئلة المكررة والساذجة عن أشياء وأحكام يفترض أن تكون معلومة ومعروفة في ملة المسلمين ومنها ما يتعلق بالشعائر كالصلاة و الصيام ومنها ما يتعلق بالأحكام كالطلاق؟
 ولماذا يجيب المفتون عن كل الأسئلة سواء كان السؤال في الطبيعة أو في الشريعة وكأنهم مطلعون على كل العلوم، فانعدم من يقول لا أدري وقلَّ من يقول الله أعلم؟
 ولماذا تكون الإجابات سطحيةً تدل على عدم الكفاءة العلمية و عامةً تدل على عدم معرفة خصوصية الزمان والمكان في تحديد نوع الإستشارة عند الإنسان؟
الفتوى والإستشارة
 الفتوى أو الإستشارة ظاهرة إنسانية منتشرة في كل بقاع المعمورة ولكنها منضبطة ويقوم بها متخصصون في كل المجالات ويضرب السائل مع من يريد أو يحتاج من هؤلاء المتخصصين ميعاداً محدداً ليسمح للمختص بدراسة الحالة من كل جوانبها ليكون النقاش بين الجانبين مثمراً ومفيداً لكليهما في عملية تعلم متبادل.
 والفتوى أو الإستشارة من حيث مجالها قد تكون في حقل القانون أو الطبابة أو الدين أو غيره مما يستدعي وجود المتخصصين في هذه المجالات. ودائرة الإستشارة قد تكون جزءًا من أية مؤسسة كما هو الحال في العالم الغربي، مثل الجامعات والمؤسسات والكنائس وربما المساجد.
قد يعترض البعض بأن الفتوى تختلف عن الإستشارة في أن الفتوى أمر ديني يسعى من خلاله المتدين إلى ترقية تدينه  والإستشارة تكون في أمور الدنيا ولكن هذا الإعتراض يجزئ الدين. فالدين نظام قيم (الدين القيِّم) متكامل يشمل مجالات الإيمان والعلم والعمل في تأثير وتأثر متبادل بين هذه المجالات.
 وحتى لو كان هذا الإعتراض صحيحاً فهو لا يبرر أن تكون الأسئلة مكررة وساذجة وعابرة للقارات ومتخطية لخصوصية السائل في سلبية أولى تتلوها سلبية أخرى هي انحصار معظم الأسئلة في الأحكام والشعائر وسلبية ثالثة هي ما يتصف به معظم المفتين أو المجيبين في أنهم يرسلون في أحايين كثيرة كلاماً عاماً يخلو من الجهد و الأدلة و المنطق ويتصف بالفوقية وعبارات افعل ولا تفعل مع أن الفتوى أو الإستشارة غير ملزمة أصلاً.
الفتوى مؤسسة للترقية
 من المؤسف أن المسلمين في غالبيتهم أميون سواء كانت هذه الأمية خطية أو ثقافية ولا يعرفون أنهم اتخذوا القرآن مهجوراً (لم نهجره فقط بل اتخذناه مهجوراً أيضاً). والأمية الخطية ليست مشكلة كبيرة بل الأسوأ هو أمية من احتكروا مصطلح العلماء أو الفقهاء ليقيدوه عند الذين يدرسون جزءاً من التراث ولم يتدربوا على طرق الإبداع في العلوم الإنسانية.
وعلاج هذا الواقع معقد ومتشعب ويهمنا منه ما يتعلق بنظام الفتوى والإستشارة. إذ في مقدور نظام الفتوى أن يساهم في تطوير نفسه ليكون واحداً من آليات العلاج المتعددة. وهنا نقاش لقليل من عناصر نظام الفتوى.
أولا - يفترض في المسلم أن يكون عارفاً بما جاء في القرءان العظيم عن الحرام و المحرمات؛ إذ أن المحرمات مفصَّلة في القرءان العظيم وواضحة ولا تحتاج إلا إلى قليل من المدارسة في الأسرة أو المدرسة أو حتى في اللقاءات العادية. ووظيفة المفتين هي تذكير السائلين - إن استدعى الأمر - أن المحرمات محدودة ومحدَّدة في القرءان و لا تحتاج إلى زيادة أو نقصان من أي إنسان حتى من النبي الكريم صلى الله وملائكته عليه. ولكن المشكلة هي أن معظم من يفتون في القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية لا يعرفون (نظرية النهي و التحريم في القرءان العظيم) ونتيجة لجهلهم الفرق بين (تحريم الله والرسول) و(نهي الله) و(نهي النبي) و(نهي الناس، خاصة الفقهاء والمشرعين منهم) فإنهم يخبطون خبط العشواء في الليلة الظلماء مثل من "حرَّم" منذ سنوات قليلة زواج المسلم (يقصد به السني) من المرأة الشيعية لأنها كافرة و الأمثلة كثيرة و مؤلمة. هذه المعرفة سوف تساهم في تلاشي ثقافة التحريم التي تجعل المسلم يسأل عن حكم الجديد دون أن يختبر وظائفه.
 ثم على المسلم أن يعرف أن الفتوى والإستشارة هي في مجالات المباح أو المسموح في الحياة وليست في مجال الحرام وذلك بتوضيح الإمكانيات المتاحة ليتمكن الإنسان من زيادة مساحة حركة تدينه في الحياة. وبالتالي فالواجب يحتم أن يتلقى من يقوم بالفتوى أو الإستشارة دراسةً شاملةً و تدريباً جيداً في المنهاج التوحيدي لتدبر القرءان العظيم وفهمه وفي كيفية التعامل مع الحياة في شروطها الزمانية و المكانية وتأثيرها على الإنسان مجتمعاً و فرداً.
ثانيا - معظم من يتصدون لهذه الإستشارات هم خريجو المؤسسات الدينية العتيقة التي يظلمها نظام القبول للتعليم العالي بتغذيته لها بالطلاب ذوي الدرجات العلمية المتوسطة او المتدنية. والظلم الثاني الذي يتعرض له هؤلاء المفتون هو أنهم لا يعرفون كثيراً عن العلوم السلوكية والنفسية والإجتماعية التي لها الدور الأسمى في دراسة حالة المستفتي أو المستشير، وحتى لو قامت هذه المؤسسات العتيقة في مناهجها بتدريس هذه المواد فإنها لا تربط بين هذه العلوم وترقية حياة الإنسان. والمشكلة أساساً هي في النظام والمنهاج الذي تؤسس عليه هذه المؤسسات بحيث أن أحدثها مثل جامعة القرءان في السودان لا تختلف عن الزيتونة أو الأزهر مثلاً. وعليه فيجب إصلاح هذه المؤسسات بأن يتولى المجتمع و الدولة توجيه جزء من الطلاب ذوي الدرجات العلمية المرتفعة للدراسة في هذه المؤسسات بعد إصلاحها نظاماً ومنهاجاً وأن يكون هؤلاء الطلاب ممن يتمتعون بروح نقدية عالية و يحبون دراسة العلوم الإنسانية ذات التأثير الأكبر في حياتنا. أما تجديد المناهج (بعد إصلاح المناهيج) وربطها بالحياة و عزلها من سطوة الفكر الآبائي فهو حجر الزاوية في عملية الإصلاح التي أصبحت ضرورة ملحة. ومن ثم يمكننا أن نرى أثر المفتين المتخرجين من هذه المؤسسات في حياتنا.
ثالثا - يقل بين من يتصدون للإفتاء و الإستشارات معرفة اللغات الأجنبية أو معرفة تاريخ وحضارات الشعوب الأخرى رغم أنهم يجيبون عن أسئلة تردهم من مسلمي هذه الشعوب في أوروبا وأمريكا وآسيا ولا يدرسون جزءاً من العلوم الطبيعية (عالم الخلق) التي تتبادل التأثير والتأثر مع العلوم الشَّرِيعِيَّة (عالم الأمر) في ترقية حياة الإنسان في هذا العصر الإتصالي العولمي. وهم لا يدرسون كل ذلك لأن المناهج العتيقة للدراسة في هذه المؤسسات قاصرة فقط على تدريس التراث الإنساني في فهم النص الديني ولا توجد مناهج لتعليم الدارس كيفية فهم الوثيقة الدينية حسب الزمان والمكان الخاص بالإنسان في سيرورته وصيرورته رغم التكرار المملّ أن الوثيقة الدينية صالحة لكل زمان ومكان. ومن يتخرجون في هذه المؤسسات هم في الحقيقة علماء مذاهب وليسوا علماء دين حيث أن الدراسة في كل هذه المؤسسات من المغرب وحتى ماليزيا لا تخرج عن التراث الآبائي المذهبي.
وعليه - رابعا - أن يعاد النظر في دوائر الإستفتاء من حيث النظام والمنهاج والمنهج كأن تلحق بمؤسسات متخصصة تربط الفتوى بشؤونها، وتوفير كفاءات لها تتمتع بنظرة شاملة للدين في أبعاده الإيمانية والعلمية والعملية، ونظرة أخرى نقدية لما يسود بيننا من علوم دينية زائفة حولت الإيمان إلى "عقيدة" والعلم إلى "خرافة" وفرغت العمل من فاعليته. وإذا آمنت الكفاءات الجديدة بالتعلم المستمر وبالشورى، فقد تصبح الفتوى استشارة مجدية تفيد السائل في تحديد الإمكانيات المتاحة أمامه في المجال الذي يسأل فيه مما يسمح له بترقية حياته في هذه الحياة الدنيا استعدادا لملاقاة الملائكة فرداً حين يموت ولملاقاة الله فرداً يوم القيامة.
والله أعلم.

 

آراء