قبل أن تدور الأرض دورةً كاملةً حول الشمس بدأتُ أُعيد النظر كرة ثانية في التعازي والمراثي التي كتبها أناس أعزاء أفاضل بعد رحيل الوالد العمدة إبراهيم محمد أحمد أبوشوك، في العشرين من سبتمبر 2018م، ووجدتُ في كل واحدةٍ منها مأثرة من مآثر الفقيد التي لا تحصى. واستوقفني من جملة هذه التعازي الصادقة النصٌ الذي كتبه الأستاذ عبد الله عمر فقير، والذي يُقرأ هكذا: "أنا شخصياً كتبتُ عن بعض خصالة الحميدة في منشور على صفحتي الشخصية [في الفيسبوك]، بتاريخ اثنين وعشرين سبتمبر؛ لمن يريد الرجوع إليه، وعلقتُ على منشور محمد الحسن البشير في هذا الخصوص، وكذلك علقتُ على منشور البشير محمد الحسن البشير، وذكرتُ صفاته وخصاله الحميدة، لماذا؟ لأنه كان أبونا الروحي، لم يكن والدكم فقط [الإشارة هنا لأبناء الفقيد]، بل كان أبو الكل. هو شخصية عامة، وظَّف كل جهده، ووقته في خدمة البلد. لم نراه، ولم يراه أحد، يعمل في مزرعته، أو خلافها لمصلحته الخاصة؛ بل [كنا] نراه يعمل لصالح المنطقة. درسنا في المدارس التي أسهم في إنشائها مع الحادبين على مصلحة البلد. تربينا في المشروع الذي تعهد برعايته وصيانته، وولاة الجهد الأكبر من وقت، لأنه كان يعتبره شريان الحياة. أسهم مع غيره في إنشاء المستشفى، قام برتق نسيج كثير من العوائل في المنطقة. كان متواضعاً، لم يتأفف من التعامل مع العامَّة، كما يفعل كثير من المثقفين، الذين يقيمون سياجاً من حديد بينهم والعامة. كان طاهر اليد، لم تتلوث يده بالمال العام. البلد أوفته حقة لأنه وظَّف كل وقته لخدمتها، وتمنيت لو قام شخص وصور بالكاميرا مشهد التشييع الرهيب للمرحوم؛ لأن المشهد يندر أن يتكرر في القريب العاجل، ومن أجل أن تعرف الأجيال القادمة أن الجماهير الحالية قدرت من ذاب في خدمتها. نشهد الله قدرناه فقط من أجل هذه الصفات النبيلة. كثير غيره من العُمد في ولايات السودان المختلفة اغتنوا من المال العام؛ أما المرحوم كان يصرف من جيبه. بصراحة شخصية العمدة لا تكرر مثلها، ومثل غيرها من الشخصيات التي عاشت من أجل الناس وذهبت والناس راضون عنها. وعشان أكون صادقاً أنا وغيري وأبناؤه نوظف كل جهدنا لمصالحنا الشخصية، خلافاً لما كان عليه المرحوم. كان يتفقد أبناء المنطقة، ويسأل عن أحوالهم، ويزور مرضاهم، ويعزى موتاهم. هكذا كان المرحوم صوفياً في الروح والمسلك. لا نبتغى من ذلك إلا الحقيقة والوفاء، بالتزامنا تجاه من خدمنا، لا نريد جزاءً ولا شكوراً." حقاً شهد الأستاذ عبد الله عمر صدقاً بهذه الكلمات الطيبات، وألقى الضوء على مفاصل مهمة من حياة الفقيد، ترتبط في جوهرها بإسهاماته المتفردة في الشأن العام مع أناس خيرين من أهالي عمودية قنتي (سابقاً)، كانوا يعتقدون أنَّ الأوطان تُبنى بصدق أبنائها، وتجردهم في خدمة الشأن العام، بدلاً من أن يكون الشأن العام مطيةً للكسب الخاص والثراء الحرام في بلادي يموت صغارها من لسعات العقارب وحمى الملاريا، وبعضهم هجروا العلم والتعلم، وأضافوا كماً مهملاً آخر إلى نسب الأمية العالية في بلادي. رحم أولئك النفر الذين أشار إليهم الأستاذ عبد الله، والذين لا يمكن حصرهم بأسمائهم في كلمة عارضة مثل هذه. ترفع بعض المناطق في السودان السلاح في وجه السلطة المركزية، بغية الحصول على نصيبها في السلطة والثروة؛ لكن أهلنا في نواحي السافل زهدوا في عطاء الحكومة وقسمة سلطتها وثروتها الضيزى، وآثروا الاعتماد على أنفسهم، ودعم أبنائهم الخيرين في حواضر الصعيد. فحقاً أولئك المخضرمون الذين حضروا أيام الانجليز وعهد الحكومات الوطنية، كما يصفهم الأديب الطيب صالح، كانوا جيلاً فريداً، لكنهم أصيبوا بخيبة أمل، عندما أدركوا فشل الحكومات الوطنية التي أعقبت الاستقلال. فأضحوا يجترون مآثر المستعمر وانجازاته، لا حباً في سلطان الأنجلو-ساكسون وجبروتهم، ولكن تقديراً لبعض خدماتهم المتميزة في مجال الزراعة والصحة والتعليم. فعندما تدهور مشروع الكلد الزراعي، الذي كان ولا يزال يمثل شريان الحياة الرئيس، بدأ بعضهم ينادي بعودة المفتش الزراعي الإنجليزي قريفث، لينفخ الروح في المشروع العليل. فالمقصود هنا ليس قريفث في شخصه، لكن الإحباط الذي مكنته النخبة السودانية في نفوس المواطنين، بإدمانها للفشل المستمر، كما يرى الدكتور منصور خالد. ولذلك الأمل معقود على قيادة ثورة ديسمبر 2018م، أن تعبر بالبلاد من دائرة الإحباط والفشل إلى مرافئ الآمال العراض والنجاحات المقرونة بعزائم أهل البرامج والطموحات السامقة من بنات بلادي وأبنائها، إيماناً بأن العزائم تأتي على قدر أهلها. الشيء الآخر الذي استوقفني في منشور الأستاذ عبد الله، قوله: "تمنيتُ لو قام شخص، وصور بالكاميرا مشهد التشييع الرهيب للمرحوم؛ لأن المشهد يندر أن يتكرر في القريب العاجل." حقاً لقد حرمنا الاغتراب عن حضور مراسيم تشييع الوالد العزيز، وهذه مرارة حزن آخر باقية في النفس. لكن الشيء الذي يعزز الصبر الجميل والسلوان، هي الجموع الغفيرة التي شيعت الوالد إلى مثواه الأخير بمقابر هارون، وفاءً وعرفاناً لما قدمه لأهله وعشيرته الطيبين الأخيار من غير منٍّ ولا أذى، بل بمحبةً صادقة، يجسده قول أمير الشعراء شوقي: "وللأوطان في دم كل حر*** يد سلفت ودين مستحق." لا جدال في أنَّ موكب التشييع الرهيب الذي وصفه الأستاذ عبد الله وآخرون من الحضور، كان فيه تثمين وتقدير حقيقي لقيمة الرجل وعطائه. فجنائز الفضلاء لا تكذب، ولذلك كان الأمام أحمد بن حنبل (رحمه الله) يتحدى خصومه المبتدعة، بقوله: "قولوا لأهلِ البدعِ: بيننا وبينكم يومُ الجنائزِ." قد صدقت فراسته؛ لأن أهل التاريخ قد أجمعوا على أن جنازة الإمام أحمد حضرها عدد هائل من البشر، حتى نص بعضهم أن عددهم جاوز المليون. وتقديراً لذلك نشكر أهلنا الطبيين الذين استقبلونا بتعازيهم الحارة في مطار الخرطوم، والذين حضروا مراسيم التشييع والعزاء بقنتي، فهذا السلوك النبيل يعبر عن عظيم وفائهم، وكريم عرفانهم للفقيد، ولا يعرف أهل الفضل إلا أهله. ويحضرني في هذا المقام قول الأديب المصري نجيب محفوظ: "الموت حقيقة راسخة، والحياة فيض من الذكريات." ومن باب الذكريات كتب الإداري بشير حسن وقيع الله معزياً، وقائلاً: "منذ أن تلقينا النبأ، اهتزت دواخلنا، وذلك لما يتميز به العمدة إبراهيم من صفات متفردة، لا نستطيع نحن حصرها في جميع مناحي الحياة. إنَّ عملي الطويل بالمنطقة ضابطاً إدارياً خلال السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات قد مكنني من الالمام الدقيق بالقيادات والسكان، وكان لي ارتباط خاص ببيوتات الإدارة الأهلية وزعاماتها، وكان العمدة إبراهيم في مقدمة أولئك، خاصة عندما عملت محافظاً مكلفاً للدبة، فقد كنت ألبي دعواته، وأجلس معه الجلسات الطوال في داره العامرة في الحصاية، فنمت بيننا علاقة خاصة، وكنتُ أفضل أن استمع له، وهو يطوف بنا في كل مناحي الحياة في سرد جذاب، وبثقافه عالية. أنني أعجز تماماً أن أعبر عن هذه الشخصية المتفردة ... إنما كتبته أخي أحمد في حديثك [عن الوالد]، يعتبر ملخصاً لكتاب يجب أن يكتب؛ ليكون في متناول الأيدي، وليحكي قصه هذا النموذج الفريد في المجتمع، وخاصه أنَّ الإدارة الاهلية وقياداتها لا تزال في حاجة إلى التوثيق، ومن ذلك ما سطرته عن العمدة أحمد عمر كمبال؛ ولكن بانتقال العمدة إبراهيم، آخر جيل عمالقة الإدارة الأهلية؛ أصبح الأمر ملحاً، وليكون التوثيق أوسع وأشمل من خلال شخصية المرحوم العمدة إبراهيم والسالفين من القيادات من أسرتكم الكريمة، وبقيه بيوتات الإدارة الأهلية بالمنطقة." تشعرنا تعزية الإداري بشير حسن وقيع الله من طرفٍ بنوعٍ من الندم، لأننا لم نسجل إشراقات التراث الشعبي وقضايا العرف والأرض والناس التي كانت تختزنها ذاكرة الوالد الفتوغرافية، وتحثنا من طرفٍ آخر بضرورة توثيق تاريخ منطقة مروي الكبرى. ولا شك في أنَّ هذا الاقتراح اقتراح مهم، ويحتاج إلى فريق من الباحثين في مجال الدراسات الاجتماعية والإنسانية، آمل أن يحظى باهتمام كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بكريمة. وقد سبق أن شرعنا مع بعض الإخوة في جمع بعض أدبيات الأنساب عن تاريخ قنتي (قنتي الأرض والناس)؛ لكن هذا المشروع لا يزال قيد الجمع والتنفيذ. فضلاً عن ذلك، قد بدأ أستاذ الأجيال خضر سيدأحمد مكاوي بتدوين ذكرياته بعنوان: "ذكريات الفتي المعهدي"، لكن توقف بعض الشيء، نأمل أن يواصل إلى أن يرى هذا العمل الجليل النور، ويكون في متناول القارئين والباحثين. وكذلك ديوان الشاعر خضر محمود سيدأحمد جدير بالعناية والنشر. كل هذه الإشراقات تمثل جزءاً من تاريخ المنطقة المهم، وتاريخ قنتي الذي نأمل يتمَّ جمعه وتوثيقه حتى يكون مادة حية متداولة بين الأجيال. بقدر ما كان العمدة إبراهيم محمد أحمد أبوشوك شخصيةً عامةً، قصدتُ أن أتذكَّره في عام رحيله الأول خارج نطاق أسرته الصغيرة؛ بل في الفضاء العام الذي كان يعشق الحراك فيه. ومن الشواهد التي تدل على ذلك خطاب بتاريخ 7 مايو 1999م، لابنه محمد (حميد)، والذي يقول في إحدى فقراته: "أما إذا سألت عني فالحمد لله صحتي كويسه، ولا أشكو من شيء سوى هوس المحاكم، ومجلس إدارة المشروع، ومجالس الآباء. وهذا العمل العام لا نستطيع الفكاك منه." رحم الله إنساناً كان يقدم العمل العام على العمل الخاص، وتستهويه خدمة الآخرين، والإسهام في حل مشكلاتهم الحياتية. ربي أرحمه من فيض رحمتك، وأسكنه فسيح جناتك مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.