وداعاً هزار الربى والأكم أريش الجناح وسيق القدم يطوف بالقلب شتى المنازع هذا يطول وهذا اقتحم وذكرى تجيء وأخرى تمر وليل تقضى وفجر ألم
التجاني يوسف بشير
(1) ليس له موعداً مع وهج الشمس أو استراحة على هضاب القمر. هو كالصيف لا يتعب ولا يزيده التعرّق إلا قوة. كالحواريين القدامى، لا تفتُ عضدهم مصيبة، ولا يسترزقون إلا من قوة إيمانهم. آخر مرة لقيته تحدثت معه عن " صلاح" الذي ولج الفنون الأفريقية والثقافية ونثير الهويّات، وانتشر في الفلاة ، وعمّ القرى والحضر. قلت لك : - ألست أنت من كتب عن( مصرع الإنسان الممتاز) منذ سبعينات القرن العشرين؟، ألست أنت من علمتنا كيف نعيش مبدئنا ونحن نعمل له؟. وأن نفعل فعلنا السياسي، وتلك غير ممارستنا لفن الرسم؟ * لم أزل أذكر يوماً حضرت مساء لغرفتنا في داخلية جامعة الخرطوم، عام 1975، سلّمت علينا وكأنك تحمل الكرة الأرضية على كتفيك .قلت لنا : - كنت مع أمي في مستشفى الخرطوم . فعلت كلما يمكنني فعله كي تعيش وتحيا ، ولكن الحياة اختارت أن تغيب جسداً.
وأفرط بك ألم شديد ... وسكتْ
لم نعرف وقع الصدمة علينا أنا وصديقي " قاسم " . تركناك وحدك في الغرفة ، غطينا جسدكم المُنهك وتركناك تداعب الأسى والتعب ، ثم غادرنا لبحري . كانت الجلابيب تملأ الليل بالبياض . وعرفنا أن الخطب جلل .أن تموت أمك ، أكثر وجعاً من أن يغادر أبيك.
(2) هويتك تنطلق في البراري والهضاب ، تعرف أنحاء موطنك الأول والثاني . تسأل عنك الودائع الثمينة التي طبعت خاتمها في القلوب والعقول . كنت ولم تزل معلمنا الأول ، الكائنات تسبح وهي بين يديك رطباً ، يستطعم بها الفقراء الذين أحببتهم . في عام 1975 طلبت حواراً مع قادة الحزب الشيوعي، رغم أنك تنبأت بسقوط النموذج السوفياتي ، بعد أن أسقط الواقعية الاشتراكية في الفن ،نقدك البناء .
(3) من أين تفجر ينبوعك ؟ وعياً يطوف كل المدائن والقرى . آخيت تلامذتك ، ولم تمنن عليهم . كتب شاعر في وطننا الكبير بسعة الشِعر العربي ، وقال إنك عملاق ، وقد كنت إنساناً خرافياً تعيش معنا وتقتسم معنا الطعام ، بل وتمشي في الأسواق . حتى الأنبياء اجتمعوا يقرءون عليك من ذكرهم ، علّ خزانتك المغلقة تنفتح ، ورددوا مع الجميع " افتح يا سمسم " . وبقي الذهن مغلق لا مفتاح لنصل إليه ، غير أنك كتبت ما قدرت عليه . وتممت " نجاة " بعض أقوالك على التخوم ، فصارت كُتباً.
(4) لم تزل زيارتنا لمدرسة "المدينة عرب المتوسطة للبنات "ترن في أذني ، كأن 1975 مضت عليها يوم وليلة . " هاشم محمد صالح " كان يتمرّن على آلة " العود" وأنت عازف الطبل، وأنا أغني . كنت سيد الحاضرين والغائبين، والمنتصرين للمرأة في عجائب المقلدين للقوميين العرب المصريين . لا نعرف الكلمات التي نودع بها جسدك و(258 ) مليون مشرّد في عالم الأوطان تتحدث عنهم إحصائية الأخبار، والغربة والمهاجر وملاذ الأكباد المنفطرة. وثقل البعد عن الوطن الأول، يمنحك بعض الراحة ، أن الموت المجاني عُرساً لا يُنسى. وحين طفقت تذكر شِعر أبيك القومي ، عندما زرنا الكاتب " عثمان حامد سليمان" في شقته في أبوظبي، أطعمتنا من شعر " بربر" البدوي في عشرينات القرن العشرين. كانت خزانتك طافحة بذكريات قديمة.
(5) جاء موعدنا ، مع الأسى والحزن الذي لا يريد أن يفارقنا وإظلام النفس ، حين نودع الجسد ، وتبقى الروح شريكة لقائنا الأبدي، بلا اتفاق. بلا وداع . نصحو من نومنا ولا نجدك بيننا ،لنقرأ بعض نثرك القديم ربما تصادف الروح أريجها، خليط من علم الاجتماع والفلسفة وعلم النفس واللغة الخلوقة المبدعة. إن تكن أنت بعيداً عن يدي ، فخيالي يُدرك النائي القصيا. كأنك لا تريد أن تصبح عليك شمس العام 2019. وودعتنا في الطرف الأخير من العام .