عبد الجليل عندما سقط عن جمله

 


 

 

 

قبل سقطته من جمله، كان عبد الجليل شخصية أخرى، غير التي صارت من بعد. صار يتبع حلقات العلم، وانتمى مستمعا كطالب غير متفرغ في المعهد العلمي بأم درمان. ولكنه كان يجالس الشيوعيين منذ ثورة أكتوبر ولكنه لم ينتم لحزبهم. اجتمعت كل النقائض فيه، صار تفكيره براجماتيا، وهجر أنصاريته السابقة التي يسميها العامة ( انصارية المبايعة على قص الرقبة)، إذ كان لا يرضى بدائلها أبدا، وتغيّرت روحه قد كانت من قبل ذا عصبية جافية وعدائية مفرطة. لم يجنِّ كما كان يعتقد الأهالي، أن من يسقط عن جمل فإنه إما يموت أو يجنّ لا محالة. ربما ظن الأهالي أنه قد جُن بالفعل، لأن سلوكه قد تغير بالكامل، وأصبح شخصا ودودا، لا يشبه ذاك الشخص قبل أن يسقط.

(2)
بدأ عبد الجليل يعيد دراسة نفسه من جديد. بدأ ينظر لعقيدته القديمة نظرة مختلفة، إن لم تكن ناقدة. رغم التحاقه بالمعهد العلمي بأم درمان، إلا أنه كان ينظر إلى القيم والمفاهيم الدينية نظرة متفرج. ما عساه يفعل بعد أن هجرته شابات الحي؟، فقد راج للعامّة أنه فقد عقله. هجر كل شيء لزيادة علومه التي يعرف. رغم سمعة الشاعر التجاني يوسف بشير التي لم تنمحِ من ذاكرة كل أساتذة المعهد، ذلك أنه قد فُصل عن المعهد لأفكاره الشاذة، إلى الحد الذي كفره أساتذة المعهد، بل طُرد من المعهد.
قرأ تاريخ ما يقصونه عليه، قراءة من أراد أن يعرف أكثر عن تلك الشخصية المتمردة. واحتمى بالتقيّة في المحافظة على تلقي العلوم في المعهد العلمي، دون أن يثير حفيظة أحد ضده. انكبّ على دروس في الفقه والحديث والقرآن في رواية حفص عن عاصم. واقترب مستواه من مستوى الطلبة النظاميين، لكنهم حجبوا عنه شهادة التخرج رغم اجتهاده، تعللوا بكبر سنه.
بعد دراسته تلك، بدأ يتعرف على الرأي الآخر، ولكنه احتفظ به في صدره. التحق بمعهد القرش ليتعلّم النجارة إلى أن حذقها. والتحق بورشة عبد اللطيف عاملا صناعيا. اعتاد على زيارة المكتبة الوطنية قرب سوق أم درمان. درس الشعر العربي وتاريخ الدولة الأموية ثم تاريخ الدولة العباسية، وعرف صراعات الدولة العباسية مع بني أميّة، كان يستطيع التمييز بين القبيلة والغنيمة والدين. درس كل ذلك دراسة نقدية، تقلُب الروايات التاريخية، ويعيد النظر فيها ببطء ورويّة.

(3)
صار عبد الجليل وقته مقسوما بين قراءته وعمله في ورشة النجارة، واستطاع في وقت فراغه في الورشة بأن يُنحِت رقعة الشطرنج، بدأ بالطابية والرُخ والحصان والملك والملكة للطرفين الذين يقتسمان اللعب ثم العساكر. وكان يخفي ذلك عن معلمه عبد اللطيف، إلى أن اكتملت قطع الشطرنج، ثم صنع صندوقا خشبيا لهم جميعا، ولونه من الداخل بمربعات الشطرنج. واشترى كتيّب عن مباريات الشطرنج وخططها، وصار يلعب لوحده، لأن كثير من الشباب في عمره لا يعرفون ما هي لعبة الشطرنج.
فتحنا ذاكرة عبد الجليل، واكتشفنا أنه قريب البروفيسور التجاني الماحي، وقد قضى طفولته برفقة بروفيسور التجاني الماحي. وكان يعيش في ذات ديوان الرجال الذي عاش فيه التجاني الماحي، وكان التجاني يختلف عن بقية أقربائه. وكان عبد الجليل نقيض التجاني الماحي، عاش طفولته بدويا عاشقا لحياة البدو. وكانت تنشب اختلافات بينهما في الميول والطباع، ولكن كان هذا حال صالون المضيّفة، يمتلئ بالمتناقضات.

(4)
بدأنا نكتشف ما صار يجمعه مع قريبه التجاني الماحي، فلم تكن تلك الفروق الا قشرة، وتقاربت تلك الفروق إلى أن التحمت، وصارت لحمة لا يفرقها إلا الشكل، فكان عبد الجليل بدويا لا يتقن إلا الشفاهة، ولا يقرب القراءة والكتابة، فقد هجر الخلوة، حيث كانت عقوبات المتفرعنين جلدا مبرّح، وكان التجاني الماحي خريج كلية غردون ويحب القراءة، على العكس منه. ولكن بعد سقطة عبد الجليل عن جمله، عاد من جديد محبا لنهج قريبه التجاني الماحي. لذلك نجده التحق بمعهد أم درمان العلمي، في محاولة حثيثة ليلحق ما فاته من علم ومعرفة. ولما جابهه المعهد برفض منحه الشهادة، التحق نجارا بعد تدريبه في معهد القرش.

(5)
كيف نشأ معهد القرش الذي التحق فيه عبد الجليل ؟:
من ضمن أوجه النشاط الذي انصرف إليه مشروع ملجأ القرش، وهو المشروع الذي قام وعاش إلى عهد قريب التاريخ. وقليل من الناس من يعلم كيف قام. والذي يعرفه الناس أن الفكرة فكرة عبد الفتاح المغربي، والحقيقة أن الفكرة اشترك فيها مع عبدالفتاح رمضان عبد الرحمن. ويكاد يكون هو النذير الذي قربّها إلى التنفيذ ودفع بها إلى العمل على نجاحها.
لقد كان عبدالفتاح المغربي ينوب عن الشيخ أحمد عثمان القاضي في تحرير " الحضارة"، فكتب مقالاً فيه أنه شاهد في المنصورة بمصر ملجأ يضم الأيتام، ويقوم على نظام حسن ويعلّم الأطفال تعليماً صناعياً، وفي اعتقاده أن مثل هذا الملجأ لا يكلف أكثر من مائتي جنيه، التي أشار فيها الأستاذ عبد الفتاح في مقاله. واستهوت الفكرة عدداً من الشبان، كانوا يركبون الترام في طريقهم إلى المكاتب من أم درمان. وكانوا على ما أذكر ستة أو يزيدون في الغرفة الصغيرة من الدرجة الأولى. قرأوا المقال وكان اليوم آخر الشهر، ونحن على أبواب صرف المرتبات فاستهوتهم الفكرة، وقالوا لم لا ننفذها. ثم اتفقوا على أن يجمع كل منهم قرشاً من زملائه في المكتب. واقترح عليهم أحدهم أن يجتمعوا في المدرسة الأهلية عصر اليوم لمعرف النتيجة.
كان بغرفة الترام " محمد عبدالرحمن محمد "، " خضر حمد"، " إبراهيم يوسف" ،"عبدالرحمن النور"،" الشريف كرار محمد"،" يوسف المأمون"،" عبدالله ميرغني". وفي العصر اجتمع هؤلاء الزملاء وكانت حصيلتهم 111 مائة وأحد عشر قرشاً، سلموها لأحدهم واختاروه أميناً للصندوق. ثم فكروا في زيادة عددهم، وفي دعوة الأستاذ عبدالفتاح لينضم إليهم، وجاء فعلاً عبدالفتاح ثم أضيف إلى هذا العدد " محمد أحمد محجوب"،و " يوسف التني" ،و "عثمان شندي"، و" حسن داوود" وبدأت الحملة.

(6)
المهم .. أن عبد الجليل التحق بمعهد القرش، أملا في تعلم مهنة يرتزق منها. وكانت النجارة هي التي جذبته، وكان مؤملا أن يفتح ورشة متعددة الأغراض، منها أعمال الأسرة وخزانات الحائط ونجارة خزانات الملابس ( السحارّة). ويمكنه أن يجمع الشاف والطلح لجذب النسوة. وكان له ما أراد. وهجر ورشة عبد اللطيف وفتح محلا بحي العباسية بأم درمان. وقسمه لقسمين أحدهما ورشة نجارة ومعرض، والجزء الصغير لبيع الطلح والشاف.
*
توسعت أعماله من خلال الدكان الصغير. وتقدم بأوراقه إلى أن تم منحه قطعة أرض. وانتقل للمنطقة الصناعية بأم درمان. سوّرها بحائط من الطين، ثم بنى غرفة معرض لمنتجاته في الواجهة، وصنع راكوبة لورشته. وتطور واشترى ماكينة لخراطة الأخشاب، وماكينة للنظافة والتوضيب. وبنى محلا لتجارة الأخشاب بأنواعها. وصار لديه عدد خمس من الصنائعية لورشته.
تطور محله وصار يصدّر منتجاته إلى الأقاليم. ومع كل ذلك لم يتوقف عن القراءة، وبدأ يكتب مقالات قصيرة في كراسة يحتفظ بها لنفسه. احتفظ بعزوبيته ولم يستمع لحديث والدته العازّة بت حامد، وإلحاحها عليه بالزواج، خاصة بعد أن تيسر حاله وصار من الطبقة العالية. التحق بالمدرسة الثانوية ليلا، ونجح في نيل الشهادة الثانوية من منازلهم. التحق بجامعة القاهرة فرع الخرطوم للدراسة في كلية التجارة وتخرج ببكالوريا التجارة. وحذق تجارته عمليا وتوسعت أعماله.
وحلّ ميعاد انقلاب المشؤم لجماعة الإخوان المسلمين في السودان في 30 يونيو 1989.وكان لها وقعا غير الذي يمكن تصوره، فقد صُودرت ورشة عبد الجليل، وظهرت في التلفزيون يدخلها نائب معتمد الولاية، وصودرت أرض الورشة، واتهموه بأنه يمول الحزب الشيوعي السوداني!. وسجنوه في بيوت الأشباح التي كانت في الطابق تحت الأرضي من عمارة وزارة الخارجية القديمة.

(7)
تم تعذيب عبد الجليل، وفي إحدى المرات من تكرار الجلوس والوقوف مُكرها، سقط على الأرض وارتطمت رأسه بالأرض، مما أدى لغيبوبته لست ساعات. وعند صحوه لزم الهدوء والصمت. وخرج من بيوت الأشباح بعد شهر. ذهب لوالدته وقد عادت إليه فجأة محبة البادية، واشترت له والدته ناقة، وجمع في جرابه "كسرة" ناشفة وثلاثة أرباع ذرة فتريتة، وسعن الماء، وجمع حاجياته في علب للقهوة والسُكر والشاي وموقد كاروسين ولمبة إضاءة، وحمل معه كبايتين وكوب من الألمنيوم، واقتنى سيفا وحربة وسكين، وربط الأخيرة حول ذراعه اليسار. وركب ناقته وودع أهل بيته، وانطلق عبر شرق النيل إلى بادية البطانة. وبدأ ينظم شعره وهو يقود ناقته:
أنا البحر الدمير طَفَش القُدَاحَة
أنا البَشّار إن رَقَصَت سَماحة
أنا البِكوِي العِرِق من الفَصَاحة
أنا مورِد صَفاي ما عِندُو ساحة
*
وذلك مُجاريا للشاعر إبراهيم ود الفراش حين أشعر:
أنا البحر الكبير جَابَ الكُليتَة
وأنا رحل الكُحُل مَتمُوم شِطيطَة
أنا الجِنَّ الوَقَع في زولُو عيطَة
وأنا إبراهيم أخو المَحزُوم ريحيطَة
*
رجع عبد الجليل عن كل تراثه المكتسب، ورجع بدويا كما كان عند المبتدأ.

عبدالله الشقليني
17 يونيو 2020


alshiglini@gmail.com

 

آراء