عبد الله حمدنا الله: رحابة الفكر وأريحية الوجدان

 


 

 

Khaldoon90@hotmail.com

مضى حميداً الى جوار رب كريم قبل ايام قلائل، عالمٌ ومفكر ومثقف واكاديمي وكاتب من طراز رفيع، لا يجود الزمان بمثله الا نادراً، هو الاستاذ الدكتور عبد الله حمدنا الله ١٩٤٨ - ٢٠٢٢م، عميد كلية اللغة العربية بجامعة افريقيا العالمية سابقا، عليه رحمة الله ورضوانه من الغفور الرحيم، وصادق العزاء موصول في هذا المصاب الاليم والفقد الجلل، الى اسرته المكلومة، وجميع آله وذويه وزملائه وتلاميذه واصدقائه ومتابعيه وقرائه داخل السودان وخارجه.
لقد أسال الرحيل الفاجع للبروفيسور عبد الله حمدنا الله في الواقع، دموعاً غزيرة ، ومداداً كثيرا ايضا، أهريق في تأبينه نثراً وشعرا ، وفي تعداد مآثره العديدة، وخصاله الحسنة الجمة. كما عرض بعض الكتاب الى جوانب من سيرة الفقيد ونشأته، ومسيرته التعليمية والمهنية، فضلا عن بعض خصائص ومميزات تركته الفكرية، وتراثه العلمي والنقدي. ومما يحضرني بصفة خاصة في هذا الباب، مقال السفير الاستاذ: خالد موسى دفع الله بعنوان:" سياحة الأشباه والنظائر في عقل البروفيسور عبد الله حمدنا الله "، وقصيدة الشاعر الدكتور خالد فتح الرحمن العصماء في رثاء الفقيد، التي جاء فيها قوله:

إلى أيّ ذكرى منك أدنو فأسعَدُ
وقد كان منك الكلّ يدنو فيسعَدُ
حبيباً تُساقيكَ القلوبُ ودادَها
فيُطربُها منك الرضا والتودّدُ
أنيساً يفيض الأنسُ صفواً مرقرَقاً
بما ينتضيه منك قولٌ منضّدُ
جهيراً برأيٍ واثبَ الشمسَ صبحُهُ
فرأيك في كلّ أغرٌّ مسدّدُ
فكم قولةٌ منك استطال دويّها
على إثرها الدنيا تقومُ وتقعدُ

أول ما طرق سمعي اسم الدكتور عبد الله حمدنا الله على ما اذكر، كان بالقاهرة اما في خواتيم عام ١٩٨٧، او في النصف الاول من عام ١٩٨٨م، وقد كنت أنا آنئذ، امضي فترة دراسية وتدريبية بالمعهد الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية المصرية، وكان هو اذ ذاك، اما أن يكون قد فرغ من مناقشة رسالة الدكتوراة في اللغة العربية من جامعة الازهر وحصل على الشهادة للتو، او انه كان على وشك المناقشة والحصول عليها. احسب انني سمعت اسمه وصيته الطائر كعالم ومثقف ومحاضر مكتمل الآلة، مفوه ولبق وحسن الحديث، من بعض الطلاب والمبعوثين السودانيين هناك، الذين كثيراً ما درجوا على دعوته في انديتهم وجمعياتهم المختلفة، لكي يحاضرهم في مختلف المواضيع التي يختارونها، او تلك التي تروق له.
وخلال النصف الاول من العشرية الثانية من القرن الحالي، جمعتني الصدفة السعيدة بالعمل مع البروفيسور عبد الله حمدنا الله في اللجنة الاستشارية لمنشورات هيئة الخرطوم للصحافة والنشر، التي كان يديرها حينئذ المثقف والنجم الإعلامي الهمام، الاستاذ غسان علي عثمان. وقد كان البروف عبد الله رئيساً لتلك اللجنة التي ضمت في عضويتها اربعة اخوة افاضل اخرين هم: المرحوم الروائي الكبير الاستاذ ابراهيم اسحق ابراهيم، والناقد الاستاذ مجذوب عيدروس، والاعلامي الشاب الاستاذ منتصر النور، وشخصي.
بيد ان صلتي بالبروفيسور عبد الله حمدنا الله، كانت قد انعقدت قبل ذلك على نحو اوثق، بجمهورية تشاد التي عملت بها دبلوماسيا خلال النصف الاول من تسعينيات القرن الماضي، بينما كان هو استاذاً بجامعة الملك فيصل بالعاصمة انجمينا في نفس الفترة تقريبا.
هنالك تعرف احدنا على الاخر، ومن ثم نشات بيننا علاقة اخاء وصداقة ملؤها الود والاحترام والتقدير ، وآنست فيه دماثة الخلق، وسعة العلم، ورحابة الفكر، والتواضع الجم، والاكناف الموطأة للجميع بلا استثناء. وسرعان ما اصبحت تلميذا وحواريا له في مجالسه العامرة التي كانت تجمع بين الفائدة والمتعة معا، شأن الادباء الكبار في كل عصر ومصر.
ولما كان عبد الله حمدنا امرءاً ذا عقل كبير، من ذلك النفر ذوي الجرأة الفكرية، الذين يجسرون على التفكير المجدي والمثمر خارج الصندوق كما يقال، ولا يقنعون بترديد اقوال الاخرين فحسب، من دون اية نظرة نقدية موضوعية فاحصة، فقد تجرأ - على سبيل المثال - بكل براعة واقتدار ولأول مرة في التاريخ، على اجتراح منهج دراسي جامعي متكامل، عن الادب التشادي المكتوب باللغة العربية الفصحى نثرا وشعرا، وقام بتدريسه لطلابه بجامعة الملك فيصل، وتركها مأثرةً حميدة، و سنة حسنة مضى على اثرها ثلة من تلاميذه المبرزين الذين جرى استيعابهم كمساعدي تدريس بقسم اللغة العربية بتلك الجامعة، فصاروا من بعد اساتذة ومحاضرين كاملي الاهلية لتدريس تلك المادة الجديدة.
والامر المدهش حقا بهذه المناسبة، ان عبد الله حمدنا الله الذي تعود اصوله الى ارض الجزيرة الخضراء بوسط السودان، قد استوعب الثقافة التشادية بسهولة ويسر، وعلى نحو واع وشامل وخلاق بصورة ملحوظة. بل انه قد لجّ نوعاً ما في تقديره لعملية استعراب تشاد مقارنة بالسودان، فابعد النجعة في نظر البعض ، وذلك عندما وصف تشاد ذات مرة بأنها أكثر عروبة من السودان نفسه. ذاك، ولم اجد هذه القدرة على دقة الفهم والاستيعاب، وحسن التعاطي والأريحية مع الآخر غير النيلي، او " الغرباوي " بالتحديد، بين المثقفين من وسط السودان وشماله مثل الدكتور حمدنا الله ، الا عند الدكتور مصطفى احمد علي الخندقاوي، ربما لان له سابقة اقامة في فترتي الطفولة والصبا، بدارفور، عززه بعمله لاحقاً، مديرا لمكتب الايسيسكو بانجمينا أيضا.
تقابلنا هذه الجرأة الفكرية في شخصية عبد الله حمدنا الله في الواقع أيضاً، في عبارة سارت بها الركبان، واثارت عليه حفيظة ابناء ام درمان بصفة خاصة، وذلك عندما وصف مدينتهم الاثيرة لديهم بانها " مدينة مصنوعة ". ولكن البروف حمدنا الله، تخلص من هجومهم ببراعة، وهدّأ من ثائرتهم عندما أكد لهم ان المدينة المنورة ذاتها مصنوعة صناعة، وانها ما كان لها ان تكون شيئا مذكورا لولا ان النبي صلى الله عليه وسلم قد اتخذها مهاجرا له، وعاصمة لدولة الاسلام في القرن السابع الميلادي ، وهو عين ما فعله الامام المهدي بالنسبة لمدينة ام درمان في خواتيم القرن التاسع عشر.
لعبد الله حمدنا الله مقال نشره في احد اعداد مجلة " دراسات افريقية " التي تصدرها جامعة افريقيا العالمية بالخرطوم، في قمة النفاذ والسداد في بابه، عن انتشار القوالب التعبيرية الادبية الشعرية منها والنثرية، وتداولها هي نفسها بين سائر الكتاب، على طول بلاد الحزام السوداني المسلم، الممتد من لدن بلاد سودان وادي النيل شرقاً ، وحتى اقصى بلاد السودان الغربي غربا. وقد مثل لذلك بالتشابه المدهش بين مضمون بيت شعر نظمه الشيخ عثمان دان فوديو ١٧٥٤ - ١٨١٧م، في مدح شيخه جبريل بن عمر الطارقي الاغاديسي ( ت ١٧٨٩م )، وهو قوله:
إن قيل فيّ بحسنِ الظنّ ما قيلا
فموجةٌ أنا من أمواجِ جبريلا
وبيت آخر نظمه الشيخ محمد بن عيسى سوار الذهب في التسرية والتضامن مع صديقه الشيخ ادريس بن محمد الارباب ( ت ١٦٥١م )، في وجه اتهامات باطلة وجهها له بعض خصومه وشانئيه ، هو قوله:
والله لو كان بين الناس جبريلا
لا بدّ فيه من قال ومن قيلا .. الخ
وهذا الخبر مذكور بتمامه وملابساته جميعها، في كتاب الطبقات في خصوص الاولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان، لمؤلفه الشيخ محمد النور بن ضيف الله ( ت ١٨٠٩م )، في معرض ترجمة المؤلف للشيخ ادريس ود الارباب المشهور.
كان عبد الله حمدنا الله، بحكم دراسته فوق الجامعية بالقاهرة، ذا معرفة مكينة وعميقة بتاريخ ورموز وتيارات الحركة السياسية والادبية والفكرية في مصر عموماً، وقد كان هو نفسه - على سبيل المثال - احد الاعضاء المداومين على ارتياد ندوة عامر العقاد ، التي هي امتداد لندوة عملاق الادب العربي الاستاذ عباس محمود العقاد، كما كان أحد أحلاس مجلس الاستاذ محمود محمد شاكر.
وقد جلب البروفيسور حمدنا معه من مصر ، مكتبة ضخمة في مختلف الوان الفكر والادب والفن ، ناءت بها ارفف مكتبته الملحقة بصالون منزله العامر بحي الطائف بالخرطوم. وكان قد أهداني منها مشكوراً منذ ان كنا معاً بانجمينا ، كتاب تاريخ الادب العربي للرافعي باجزائه الثلاثة.
ومع معرفته وتقديره واعجابه بحركة الشعر الحديث في مصر، كان عبد الله حمدنا الله يكن تقديراً عظيما لرواد الحداثة الشعرية في السودان، لا عن محض شوفينية وحمية وطنية، وانما عن ذوق عالٍ وتقييم موضوعي ايضا. ولقد سمعته يقول مرة: إن صلاح احمد ابراهيم اشعر من صلاح عبد الصبور، وان محمد المكي ابراهيم اشعر من أمل دنقل، وكان هذا هو رأيه على كل حال. وما أشبهه بقول عبد الله الطيب ذات مرة ان محمد سعيد العباسي أشعر من البارودي. !
كان عبد الله حمدنا الله من رواد وضع وتدريس منهجي الادب السوداني وتاريخه ونقده ، والصحافة السودانية وتاريخها في الجامعات السودانية، وكان ذا باع طويل في مجال دراسات السير الذاتية والغيرية معاً ، وله تلاميذ وحواريون أفذاذ نهلوا من علمه، وحذوا حذوه في ارتياد هذا المجال على نحو حصيف وعميق، من بينهم - على سبيل المثال - الناقد المتمكن الدكتور مصعب الصاوي.
هذا، وعلى الرغم مما كان يتسم به البروفيسور عبد الله حمدنا الله من تدين حقيقي عميق، وركانة ، ورزانة ، وورع، الا انه كان مع ذلك، ذا بصر شفيف، واطلاع واسع على مجمل التراث الادبي والغنائي الشعبي في السودان عموماً، وخصوصاً تراث منطقته بشمال الجزيرة، فتجده يحدثك حديث العالم الخبير عن تراث رقية بنت ود امام واشعارها في شقيقها البطل عبد القادر ود حبوبة، وغناء بابا الحماسي في مدح مناقب النعيم ود حمد الذي أحيا سنن البرامكة في الجود والكرم، فضلا عن غناء خلف الله حمد وجذوره بمنطقة شمال الجزيرة، مثل الشاعرة زينب التي اوصت فتيان قريتها بالثبات في أرض المعركة التي احتدمت وحلقت نسورها في انتظار وليمة دسمة من لحوم القتلى قائلة لهم:
اركزوا .. زينب وراكم
أنا ليهم بقول كلام
دخلوها وصقيرا حام … الخ
ولعمري ، فإن الراحل المقيم البروفيسور عبد الله حمدنا الله عليه رحمة الله ورضوانه، قد قال لنا كلاما كثيرا ومفيدا، ولكن شاءت ارادة الله ان يصمت اخيرا ، فالحمد لله على ما أراد الله، وسلام على أستاذنا عبد الله حمدنا الله في الخالدين.

 

 

آراء