عزف في مقامات الرحمة .. القاضي فرانشيسكو كابريو

 


 

 

تسنى لي حضور منتدى الاتصال الحكومي الذي أقامته إمارة الشارقة، وكان أحد ضيوف الشرف فيه القاضي الأمريكي فرانشيسكو كابريو، الذي عرف في وسائل التواصل الاجتماعي بقاضي الرحمة، وانتشرت المقاطع المصورة لأحكامه على امتداد الكرة الأرضية، كما ذاعت محاكماته التي تميزت بمستوى عال من التعامل الإنساني واتسمت أحكامه بالرأفة على المتهمين الذين يمثلون أمامه. وقد تم تكريمه بواسطة حكومة إمارة الشارقة لأدائه الملهم أثناء ممارسته مهنة القضاء قبل أن يتم إحالته للتقاعد في يناير 2023 بعد أربعين عاماً من العمل في ردهات المحاكم. وقد رأيت المئات من الشباب من الجنسين من مختلف الجنسيات ينتظرون في صف طويل للسلام عليه أو أخذ وصية منه أو التقاط صورة (سيلفي) معه، وكل ذلك دلالة على الشعور العميق والمحبة التي يكنونها له.

يبحث العالم عن نموذج للرحمة ونجم يجسد معانيه، وعن مواقف تمثل القيم الإنسانية الراقية، في عالم كئيب قاسي تذخر نشرات الأخبار فيه بالحروب ومآسيها الدامية، ويطل فيه الجفاء من كل ناحية. فكأنه يرنو إلى من يكفكف جراحاته ويزيل عنه الوحشة ولو على المستوى الافتراضي. وربما لهذا السبب احتفى بقادة مثل نيلسون مانديلاً فقدر نضالاته في سبيل شعبه إلا أنه قدر بصورة أكبر مستوى التسامح الذي جسده في مفهومه للعدالة الانتقالية، مما أدى إلى انتقال سلس لدولة جنوب أفريقيا من الدولة العنصرية إلى الدولة الديمقراطية، واحتفى لأسباب مماثلة بالأم تيريزا التي وهبت حياتها قرباناً في خدمة الفقراء والمرضى ورفع القهر عنهم. وربما لهذه الأسباب أيضاً فإنه قدر الأسلوب الذي اتبعه القاضي كابريو في التعامل مع المتهمين الذين يمثلون أمامه.

يقول السيد فرانشيسكو كابريو عن ذيوع سمعته عبر أشرطة الفيديو التي تحمل مقاطع لمحاكماته (أعتقد أن هناك شعور عام أن المؤسسات الحكومية لا تقوم بما يكفي لمقابلة احتياجات الناس، وهذا ليس في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها وإنما في كل العالم، وهو أمر مختلف حوله. وأدرك تماماً حقيقة عدم التناسب بين قوة سلطة الدولة في مواجهة قوة الفرد. فالعار لي إذا أصبحت مجرد ممثل للدولة وأعطيت أحداً شيئاً لا يستحقه. والتفسير الصحيح للقانون يجب أن يكون على هذا النحو) ويوضح منهجه في القضاء بناء على هذه الرؤية، أن هناك كثيراً من الظروف في حياة الأفراد التي يتعين تقديرها، ومن ثم يعتمد على هذه الظروف للتشكيك في المخالفات التي فرضت بحقهم ولا يلتزم بالنظرية التي تنظر إلى من صدرت مخالفة بحقه على أنه مذنب وفقط. وبالطبع فإن هذا الوجه الإنساني في التعامل مع القضاء يخالف بعض الرؤى التي تنظر إلى القاضي باعتباره حامل ميزان يجب أن ينظر إلى الوقائع وتطبيق القانون عليها بصورة آلية وبمستوى من الحيادية المجردة.

تأثر القاضي كابريو بعدة عوامل ساهمت في خلق شخصيته الرحيمة، وتركت بصماتها على أدائه المهني في سلك القضاء، ومنها أنه كان في الأصل معلماً في مدرسة ثانوية في الولايات المتحدة قبل أن يحصل على درجة جامعية في القانون مكنته من الانضمام للمحاماة ومن ثم القضاء. وطبيعة مهنة التعليم أنها تخلق شعوراً بالعطاء للطلاب والرأفة في التعامل معهم وتضع بصمات لا تنمحي في تكوين الشعور النفسي للمعلم. ويعزي القاضي كابريو أيضاً جزءاً من مزاجه العام وشخصيته إلى أسرته وبصورة خاصة والده ووالدته. فقد كانت والدته واحدة من تسعة أخوة وكان والده واحداً من عشرة أخوة وعاش بينهما وهما يضربان المثل في التراحم والعطاء والحياة من أجل الآخرين. كما أنهما من الجيل المهاجر للولايات المتحدة، وربما كان شعور التراحم ملجأ عكس حالة الغربة التي يعيشانها وقامت عليها تربية أبنائهما ومن بينهم كابريو.

يثور سؤال حول قدرة كل القضاة على تقمص شخصية القاضي كابريو واتباع ذات الأسلوب الرحيم والإنساني في التعامل مع المتهمين. بالطبع فقد كان القاضي كابريو محظوظاً جداً حين عمل في محكمة بلدية بروفيدنس، في ولاية رود آيلاند بالولايات المتحدة الأميركية، وهي محكمة تتعلق بقضايا ذات طابع إداري مثل قضايا الحركة والمرور على الطرق ومخالفات المواقف، ويكون أحد أطرافها الدولة باعتبارها صاحب السيادة، في مواجهة الأفراد الذين يخلون بنظامها الإداري. وهامش تحرك القاضي في النظر للظروف الشخصية في مثل هذه القضايا كبير ويتيح فرصة أكبر للنظر للظروف الشخصية للمتهمين. ويضيق هذا الهامش في القضايا الجنائية الصرفة والقضايا المدنية التي يتعين المساواة فيها بين الأطراف، وضمان عدم صدور أي شعور يدل على الرأفة بطرف منهم على حساب الآخر. وعلى قول سيدنا عمر في صيته لأبي موسى الأشعري في مثل هذه القضايا (آسِ بين الناسِ في مجلسِك ووجهِك وقضائِك ، حتى لا يطمع شريفٌ في حَيْفِك ، ولا ييأسُ ضعيفٌ من عدلِك). وما يميز القاضي كابريو ليس نظره للأسباب المخففة وإنما التعاطي الإنساني مع المتهمين وإظهار الرغبة في مساعدتهم.

تتضمن أدبيات القانون كثيراً من العبارات التي لها رنين وتنحو للرحمة في تطبيق الأحكام على شاكلة (الرحمة فوق القانون) و(المتهم فتى المحكمة المدلل) و(المتهم برئ حتى تثبت إدانته دون شك معقول) وغيرها من العبارات الشائعة التي ترد ضمن أدبيات تطبيق القانون بما يراعي الحكمة منه ويقدر الظروف الخاصة للأفراد المعنيين والمرونة عند تنفيذ مقتضياته. ورغم النكهة الأخاذة التي تنبعث من هذه المبادئ إلا أن وضعها موضع التنفيذ يجعل القضاة في موقف حرج في كثير من الأحيان، حيث أن التشريعات تقف حوائط صد تغل يد القاضي التوسع في استخدام صلاحياته لمراعاة الظروف الخاصة للمتهمين. ومن حسن حظ القانون السوداني أنه ورث قاعدة موضوعية وتفسيرية تسمح للقاضي استخدام صلاحيات تقديرية تميل لتحقيق الرحمة المطلوبة وهي قاعدة (العدالة والانصاف والوجدان السليم)

لا شك أن القانون السوداني خلال تطوره في العهد الوطني قد مد بجذوره في عدة نظم قانونية خلاف الشريعة العامة الإنجليزية مثل منظومة القوانين الفرانكفونية خاصة في التشريعات المدنية، أو الشريعة الإسلامية أو حتى نظم أخرى لم يكن يربطه بها رابط، ومن ثم أصبح نظاماً قانونياً هجيناً له عدة أصول، لكن ذلك لم يفقده ميزة الاستفادة من قاعدة (العدالة والانصاف والوجدان السليم) التي أكد عليها قانون أصول الأحكام القضائية لسنة 1983 فألزم القاضي بتوخي معاني العدالة التي تقرها الشرائع الإنسانية الكريمة وحكم القسط الذي ينقدح في الوجدان السليم. وستظل هذه القاعدة على الدوام عنواناً لما يجب أن يتميز به القاضي في مراعاة الظروف الشخصية التي يؤدي مراعاتها إلى حسن تطبيق القواعد القانونية

أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب

abuzerbashir@gmail.com
///////////////////

 

آراء