عصر الهضربه: ثرثرة بحريه مع بحارة سودانيين .. بقلم : بدرالدين حسن علي
بدرالدين حسن علي
19 August, 2013
19 August, 2013
إقرأ جيدا ، فحسن القراءة نصف العلم لو قرأت كل ما يكتب ، لأن الكاتب لن يستطيع أن يقول ما يكتب في سطر ، و لن أنسى أبدا تلك الأيام الجميلة الرائعة التي جمعتني مع بعض الأصدقاء السودانيين ومعظمهم من البحارة ، وكنا في رحلة ترفيهية على متن باخرة يونانيه أقلعت بنا من الإسكندريه نحو أثينا ، المدينة التي لي فيها ذكريات كثيرا ما تجيش في داخلي لروعتها وعظمتها منذ أيام سوفوكليس ويوربيدس وأسخيلوس وأرسطو وأفلاطون وأوديب ملكا وإلكترا ، وجميع هؤلاء قرأت لهم وأحفظ عن ظهر قلب مسرحية أوديب ملكا وأكاد أعرف لايوس وجوكاستا ويا ليت لو كان اسمي أوديب ، كان ذلك في ستينات القرن الماضي ، صراحة نسيت الأسماء فذاكرتي ضعيفة جدا في الأسماء ولكنها قوية جدا في القصص والحكايات ، ولكني إلتقيت بعضهم في القاهرة في إحدي الشقق المفروشة وسط المدينة ، وقضينا سهرة عامرة بالحب والغناء الجميل حتى الصباح ، ولا أدري لماذا مضت الأيام سريعة دون أن تمنحنا الفرصة لمزيد من اللقاءات .
مرت سنوات وسنوات ، وفي ذات يوم جلست في " بلكونة " شقتي في تورنتو الكندية أجتر بعض ذكريات قديمة ، كانت أمسية شديدة البرودة ، بدأ الثلج يتساقط مع زخات مطر وقبل تساقطه هذا تساقطت كل أوراق الشجر ، التي كانت مفرهدة مزهوة بلونها الأخضر تعطي للحياة معنى ولتحقيق الأماني بصيص أمل ، تذكرت روما وألقها وألق الفتيات الإيطاليات فضحكت ، ضحكت من أعماق قلبي لأني تذكرت طيشي وجنوني . .
عاندت نفسي وجلست في البرد القارس أعود بالذاكرة إلى سنين خلت ، تعمدت أن تكون العودة بلا ترتيب زمني ، وإنما قفزات فوق العقود والحقب مشحونا بذاكرة متعبة من الجلد والقهر والمنفى والسجون والمعتقلات وأنا بطبعي لا أحب الحديث عن السجون والمعتقلات وإدعاء البطولات ، مر شريط سينمائي طويل يعرض صوراّ باهتة لوجوه دخلت التاريخ ولم تخرج ، ووجوه خرجت من التاريخ قبل أن تدخل ، ووجوه منعت من الدخول وأخرى منعت من الخروج وبعضها تراوح بين الدخول والخروج ونشبت معركة بين كل الوجوه واجتاحتني عاصفة من الهوس ورغبة مكتومة في الإنتحار ورغبة اخرى في المقاومة، الموقف كان صعباّ .
بدا لي أن الزمن في السودان يحفل بالموت وتقل فيه الحياة وأننا مجموعة كبيرة من المنافقين والكذابين أحياء ولكننا موتى بلا قبور ، ونعيش على صدقات أحياء ولكنهم موتى ، وليس أمامنا سوى أن نرفع شعارات هي في النهاية جلد الذات ، نحن بصراحة نجيد صناعة الموت ولنا سجل طويل غير مسبوق في موت المبدعين المبكر .... من التجاني يوسف البشير ومعاوية محمد نور والمجذوب ومحمد عمر بشير وصلاح أحمد إبراهيم وخالد الكد وليلى المغربي وخوجلي عثمان ومحمد رضا حسين وأحمد عاطف وأحمد قباني وجيلي عبدالرحمن وأحمد الجابري ورمضان زايد وأحمد المصطفى وعبد العزيز العميري ومصطفى سيداحمد وحورية حاكم وعلي عبدالقيوم وعمر الدوش ونادر خضر وزيدان إبراهيم والأمين عبد الغفار ومحمد وردي ومحمد سالم حميد ومحمد إبراهيم نقد و..و.. قائمة طويلة من الموت ليس بسبب الكبر والشيخوخة والزهايمر
وإنما بسبب القهر والحرقة على البلد !!!!!!!
ويا لحظ السودان يموت الشعراء والأدباء والفنانون وكبار المثقفين مبكراّ ويعمر السياسيون يرأسون أحزابنا ويحكمون بلادنا عقود وعقود وما يزالوا يحلمون ليس بحسن الخاتمة وإنما بصفقة مال تزيدهم وجاهة ،وآخرون يسقطون من طائرة وهم أحياء ، يصابون بمرض السرطان وهم ما زالوا أحياء !! وأستغرب جدا لماذا لا يموت هؤلاء الديناصورات أمثال الصادق والميرغني والترابي ونافع !!!!
وها هم مفكرونا وكتابنا وشعراؤنا وطليعة مثقفينا يغسلون الصحون في لندن ، ويكنسون الشوارع في باريس ، ويجمعون القمامة في واشنطون ، وتطحنهم مصانع الأسمنت و البلاستيك في كندا ، ومن حالفه الحظ يعيش مطعونا في الشرف والكبرياء بدنانير ودراهم النفط ، ويجلدهم أمراء السعوديه والإمارات ، السودان مليون ميل مربع كما كانوا يدرسونا في حصص الجغرافيا ، وقطر كانت صفر .... يا لتعاسة مهيرة والخليل وعبداللطيف وحوه الطقطاقه وكل الأسماء الخالدة في تاريخ السودان القديم والحديث .
هل المشكلة في النفط ؟ طيب ما أهو دلوقت عندنا نفط ؟ طيب المشكلة في أمريكا شيكا بيكا ؟ طيب ما عندنا مزيكا وكاريكا وملايين الأنتيكا !
منفيون في كل بقاع العالم ومن خيرة أبناء الوطن الملازم عزاؤهم الوحيد حفظ ماء الوجه وما تبقى من كرامة شخصية فهم على الأقل يعيشون حياة خالية من الخوف مثلي تماماّ ولكنها حياة خير منها الموت ... يا لعجبي !!!!!
اليوم المثقف السوداني أو الشاعر أو الكاتب أو المفكر أو المخرج المسرحي أو المخرج السينمائي أو الصحفي يأتي اسمه في ذيل القائمة حتى لو كان عضواّ في حزب المؤتمر الوطني الحاكم ، وكما يقولون وكما تردنا الأنباء فهو إما خائف أو نصف جائع أو منافق ...... وكما قال وكما كتب أكثر من مناضل يحب السودان ويعشقه أن السودان لم يعد فيه من مجال لكي يؤدي المثقف دوره الوظيفي في المجتمع كحامل رؤية أو أداة تجديد وتطوير وتعليم وتثقيف وتغيير ونقد .
المثقف في السودان أو الفنان - وأرجو أن تنتبهوا لهذا - قد يسمح له بأن يشتغل في الطين ولكن - كما قال أحد المفكرين - ليس لكي يصنع تمثالاّ بل لكي يوسخ أصابعه وملابسه ... وقد يسمح له بإخراج فيلم سينمائي فيخرج شيئاّ من قفاه ، وهذا ليس لأنه غير مبدع .. لا ثم لا ، لأنه يريد أن يطعم أطفاله ، وهذه مجاهدة لا يفهمها إلا الفقراء ، !!!!!
أنظر إلى سياسيينا فأتذكر نهرو ومانديلا ونكروما وديجول ولا أتذكر من قادة وطني إلا من مات مقتولاّ أو شهيدا قبل أن يكمل رسالته ، أنظر إلى وطني بعد 1956 فلا أرى سوى عبود وهو عسكري ونميري وهو عسكري والبشير وهو عسكري ،والميرغني والفته الحمتني النطه ، والصادق الغاليلو وحليب النيدو والترابي أبو بسمة وضحكه ضباني ، فيرجع بصري إلى الزمن الفلاني !! .
أصبحت لا أفكر في العودة إلى الوطن ، ولماذا
أعود ؟ بربكم قولوا لي لماذا أعود ؟ حسنا إعتبروني مخرفا وخائنا وضعيفا ، لماذا لا يعود أقوى الرجال وأكثرهم ذكاء وقوة وعنفوانا ؟ ودائما ما أتساءل أيهما أفضل : السودان أم كندا ؟؟ الآن أنا آمن وآكل وأشرب وأرقص وأضحك وأغني وأتعالج وأتمسرح أيضا ، بينما أبناء وطني لا يحس معظمهم بالأمان ويعاني معظمهم من الجوع والعطش والمرض ، " مطره واحدة تكفي " وهنا المطر يغسل الشوارع ، ينهمر بدون صلوات إستسقاء ، رعد وبرق يجعلك تصلي لله وللوطن رغم صلاتي صبح مساء لهما معا !! لا أحد في هذا المنفى " المقرف " البعيد يرغب في العيش فيه ، لا نرغب يا أهل بلدي أن نقف طوال شتاء أريزونا وتورنتو في محطات البنزين أو نشق ليالي المدن لتوصيل أطباق البيتزا !!!! نريد أن نعود إلى الوطن لتوصيل أطباق الكسرة واللقيمات لكل النساء السودانيات ، نريد أن نعود للوطن لكي" نغرف " الماء مثلكم من البيت إلى الشارع طالما فشلت الحكومة وصارت " تهضرب " مثل هضربتي هذه !!!!لا نريد أن " نغرف " أموال المكلومين اليتامى والفقراء والحزانى ، لعنة الله عليكم يا نشامى يا نمورا من ورق " فلا أقسمن بالشفق * والليل وما وسق * والقمر إذا إتسق * لتركبن طبقا عن طبق " .
badreldin ali [badreldinali@hotmail.com]