عصف ذهني: تأسيس الشعر الأوربي في بداياته على الشعر العربي بنيةً وأسلوباً(4-4)

 


 

 

الشعر (الغنائي) أصل الشعر وجوهره، والملحمي والمسرحي وظيفي:
قسّم قدماء اليونان الشعر إلى أنواع ثلاثة وهي كما ورد بالجمهورية لإفلاطون وبكتاب (فن الشعر) لأرسطو:
أولا الشعر القصصي (شعر الملاحم: الأوديسا والإلياذة)، وثانياً الشعر التمثيلي المسرحي (المأساة والكوميديا)، وأخيراً الشعر الغنائي Lyric (شعر القصائد).
وهذا التقسيم تقسيم تفضيلي تراتبي، في قمته يقف الشعر القصصي الملحمي ثم الشعر التمثيلي أو المسرحي وأخيرا الشعر الغنائي. ولكن أرسطو في (فن الشعر) يميل إلى تفضيل الشعر المسرحي بخاصة (التراجيديا) على الشعر القصصي (الملحمة).
وتقف وراء هذا التقسيم وهذا التفضيل جملة من الاعتبارات التاريخية والاجتماعية والمدنية التي لا بد أن يأخذها الباحث في الحسبان حتى لا يظن مخطئاً أن هذا التقسيم نهائي وينطبق على كل أشعار الأمم وفي جميع الأعصر.
ونحن نرى أن العامل الحاسم الذي حدا باليونان إلى تفضيل الشعر المسرحي والشعر القصصي على الشعر الغنائي، هو مفهومهم لوظيفة الشعر في عصرهم. فقد كان للشعر عند اليونان وظيفة اجتماعية وأخلاقية محددة وهي التعليم، تعليم الفضيلة والقيم الأخلاقية النبيلة. لذلك كان مقام الشاعر في المجتمع عندهم هو مقام المعلم.
وكان ابن سينا في شرحه لكتاب أرسطو (فن الشعر) قد فطن إلى الوظيفة التعليمية والأخلاقية للشعر عند اليونان حينما قال: "والشعر قد يقال للتعجب وحده. وقد يقال للأغراض المدنية، وعلى ذلك كانت الأشعار اليونانية"(1).
قوله: "والشعر قد يقال للتعجب وحده". يشير به إلى (الشعر الغنائي) كما هو الشعر العربي.
وأما قوله: "وقد يقال للأغراض المدنية" فيشرحه بقوله إن اليونان: "يقصدون أن يحثوا بالقول على فعل أو يردعوا بالقول عن فعل. وتارة يفعلون ذلك عن طريق الخطابة وتارة على سبيل الشعر"(2).
وهو يشير بذلك إلى الوظيفة التعليمية والأخلاقية التي يؤديها الشعر القصصي والمسرحي عند اليونان، وهي الحض على فعل الخير ونشر الفضيلة.
وهذه الغاية التعليمية والأخلاقية التي يوليها اليونان للشعر هي التي قادت إفلاطون، إلى طرد الشعراء من "جموريته الفاضلة" إن هم لم يتقيدوا بلعب الدور التعليمي للشعر في غرس قيم الخير ونشر الفضيلة في المجتمع واحترام الآلهة والالتزام بشرائعهم.
إن مشكلة الشعراء، كما يراها إفلاطون، إنهم لا يطيقون الاعتدال وضبط النفس لما فيهما من مشقة وجهد، ولذلك يسئوون للفضيلة والآلهة. "فهم كاذبون وشريرون" على حد عبارته.
ويخلص إفلاطون في نظريته إلى ضرورة التزام الشعراء بالقواعد التي يجب اتباعها حتى يسمح لهم بنشر أشعارهم بين الرجال وتعليمها للأطفال لكي يشبوا على تقديس الآلهة واحترام الأباء وحب الخير للناس (3).
وأما أرسطو تلميذ إفلاطون فيبقي على الوظيفة التعليمية للشعر ولكنه يرى أن الشعر المسرحي وبخاصة التراجيديا/المأساة يؤدي هذه الوظيفة على نحو غير مباشر وهو ما أسماه بالتطهير.
على أننا نرى أن التأثير الأعمق الذي تركه إفلاطون في نظرية أرسطو في الشعر هو استبعاد الأخير الشعر الغنائي وجعله في المرتبة الدنيا من فنون الشعر وتفضيل الشعر المسرحي والشعر القصصي عليه. لذلك حصر أرسطو حديثه عن الشعر في نوعين وصفهما بأنهما أعلى وأرفع أنواع الشعر: الأول الشعر التمثيلي المسرحي، والثاني الشعر القصصي الملحمي.
وقد فصّل أرسطو في (فن الشعر) الحديث في خواص وقواعد كل من الملحمة والمأساة، وأضرب عن التفصيل في قواعد الملهاة. كما اضرب عن الحديث عن الشعر الغنائي (شعر القصائد) وفضّل عليه الشعر المسرحي والملحمي.
ويرجع سبب ذلك في رأينا إلى أن أرسطو لم يتخلص تماماً من سطوة أستاذه إفلاطون ومن حصره وظيفة الشعر في تعليم الفضيلة والاعتدال وكبح جماح النفس. فالملحمة تمجد البطولة وفضيلة الدفاع عن الوطن والموت في سبيله، والمأساة تمجد "أفعال الناس الأفاضل والنبلاء" وذلك طبقا لتعريف أرسطو نفسه للمأساة.
وأما الشعر الغنائي في نظر أفلاطون، فتتحكم فيه العواطف ويطلق فيه الشاعر العنان لأهواء النفس ونزواتها الفردية التي ربما تقود إلى التحريض ضد الآلهة وتحض على الخروج عن قيم الفضيلة والخير، وتشجع على التراخي وإضعاف إرادة الفرد وهمة الرجال(4).
هذه هي جملة الأسباب التي تقف، في رأينا، وراء تفضيل اليونان كل من الشعر المسرحي والشعر القصصي الملحمي على الشعر الغنائي. وقد أخذت أوربا بهذا التقسيم وهذا الترتيب فصار مثالاً أعلى يحتذى منذ عصر النهضة في القرن الرابع عشر ولا يزال هذا التقسيم سارياً في أوربا ولو على المستوى النظري.
ولما أرادت الأمم الأخرى أن تحذو حذو الأوربيين في الأخذ بأسباب تقدمهم الحضاري والثقافي أخذوا فيما أخذوا عنهم هذا التقسيم اليوناني للشعر.
ولكن إذا نظرنا إلى حال الشعر في العالم اليوم سوف لن نجد أثراً لذلك التقسيم التفضيلي والنوعي الذي أقامه اليونان للشعر والذي يضع الشعر الغنائي (شعر القصائد) في المرتبة الثالثة والأخيرة بعد الشعر المسرحي والشعر القصصي.
فقد انقرض النمطان اللذان فضلهما اليونان على الشعر الغنائي. فالملاحم بالمفهوم الذي عرفه اليونان انقرضت في آداب الشعوب منذ مئات السنين إلا القليل الذي جاء بدافع المحاكاة لا أكثر.
كذلك اختفت المسرحية الشعرية (المأساة) وذلك لارتباطها بصراع الأبطال مع الآلهة والأقدار، وحلت محلها (الدراما) بأنواعها، بعد أن طوت البشرية عهود السادة النبلاء والرعية والعبيد، وساد عصر الجماهير والفرد العادي فصار أبطال المسرح وشخوصه من عامة الناس، يتحدثون اللغة الواقعية التي يتخاطبون بها في الحياة اليومية، لغة الكلام والنثر.
وأما في عهد اليونان فكان لا بد أن تنطق الآلهة والأبطال النبلاء بلغة أرفع من لغة عامة الناس، وهي لغة الشعر المقدسة في عرفهم، فالشاعر الملحمي والقصصي توحى له ربات الشعر وينطق بلسان الآلهة.
ولكن اليوم تغير كل ذلك، ولم يتبق من الشعر في كل العالم سوى الشعر الغنائي. والحقيقة لو أردنا الدقة لقلنا إنه لم يكن هناك منذ البدء غير الشعر الغنائي. فما أطلقوا عليه شعر قصصي وشعر مسرحي لم يكن في حقيقته سوى الشعر الغنائي.
وكل ما هناك أن اليونان وظفوا الشعر لكتابة الملاحم والمسرحيات، وهذا التقسيم الذي أقاموه للشعر الى أنواع، تقسيم وظيفي يتعلق بالدور الذي يجب أن يؤديه الشعر في نظرهم، وليس تقسيماً يتعلق بماهية الشعر وجوهره، فليس للشعر في زعمنا، أنواع، سوى نوع واحد هو الشعر الغنائي.
ومثلما كان ابن سينا قد تنبّه إلى الوظيفية التعليمية والأخلاقية للشعر عند اليونان على النحو السابق بيانه، فقد تنبّه أيضاً إلى أن تقسيم اليونان الشعر إلى أنواع، تقسيم وظيفي وحسب، وألمح إلى أن أصل الشعر، الشعر الغنائي الذاتي، وإن لم يستعمل مصطلح "غنائي" ولكنه أشار إليه بكلمة "الذات".
يقول ابن سينا في شرحه لكتاب أرسطو (فن الشعر): "الشعر اليوناني إنما كان يقصد به في أكثر الأحوال محاكاة الأفعال والأحوال لا غير، وأما الذوات فلم يكونوا يشتغلون بمحاكاتها أصلاً كاشتغال العرب"(5).
قوله: "وأما الذوات فلم يكونوا يشتغلون بها أصلاً كاشتغال العرب"، إشارة إلى طبيعة الشعر الذاتية والغنائية عند العرب وإلى طبيعته الموضوعية عند اليونان. وهو تقسيم الشعر عينه عند النقاد الأوربيين المعاصرين حيث يقسمون الشعر إلى: شعر موضوعي objective ويعنون به الشعر القصصي والمسرحي ، وشعر ذاتي غنائي subjective .
ويفصِّل ابن سينا أكثر في الطبيعة الذاتية أو الغنائية للشعر بالقول: "وأما العرب فتقول الشعر لوجهين: أحدهما ليؤثر في النفس أمراً من الأمور تعد به نحو فعل أو انفعال، والثاني للتعجب فقط، فقد كانت تشبه كل شىء لتعجب بحسن التشبيه"(6).
وهذا الفارق الذي ألمح إليه بكل ألمعية، ابن سينا، بين الشعر العربي وشعر اليونان، فارق جوهري، وهو المعيار الذي تقاس به شعرية الشعر في عالم اليوم.
وحديثه بأن الشعر قد يقال "للتعجب فقط" لم يهتدِ إليه الغرب إلا بعد ظهور تيارات الحداثة الشعرية مثل الدعوة إلى ـ"الشعر الخالص" pure poetry ودعوة "الفن للفن" التي راجت في النصف الأول من القرن العشرين وغيرها.
ولكن ما يعنينا هنا بصفة خاصة التركيز على أن العلماء العرب والمسلمين الذين تناولوا كتاب أرسطو (فن الشعر) بالشرح والتعليق، قد حرصوا على إبراز خصوصية الشعر العربي الغنائية التي تميزه عن الشعر اليوناني من حيث الوظيفة ولذلك لم يقيسوا الشعر العربي بالشعر اليوناني ولم يجعلوه مثالاً للشعر لكي يقتدي به العرب في أشعارهم أو أن يتبع في كل ملة وأن يحتذى في كل عصر.
ومن دلائل ذلك نجد ابن سينا في بداية تعليقه على كتاب (فن الشعر) يحرص على تمييز شعر اليونان عن الشعر العربي بقوله عن كتاب أرسطو:
"كانت لهم أنواع معدودة للشعر في أغراض محدودة ويخص كل غرض وزن. وكانت لهم عادات في كل نوع خاصة بهم كما للعرب من عادة ذكر الديار والغزل وذكر الفيافي وغير ذلك، فيجب أن يكون ذلك معلوما مفروضاً"(7).
وبذات المنظور، نظر ابن رشد إلى كتاب (فن الشعر) حيث يقول في مفتتح شرحه: "كثير مما فيه هي قوانين خاصة بأشعارهم وعاداتهم"(8). يقصد اليونان.
وتأكيداً لإبراز إدراكهم مفهوم الشعر عند اليونان يعمد ابن سينا قبل أن يشرع في شرح كتاب أرسطو في الشعر بالقول: "ونقول نحن أولاً إن الشعر هو كلام مخيّل مؤلف من أقوال موزونة متساوية، وعند العرب مقفاة"(9).
قوله وعند العرب مقفاة، تمييزاً لها عن شعر اليونان والرومان والسريان والعبرانيين والذي هو شعر مرسل blank verse لا قافية له. وبسبب هذا الوعي بالخصوصية الثقافية والأدبية والتاريخية، تمسك العرب القدماء بمذهبهم في قول الشعر بكل اعتزاز، ولم يهجروه تقليداً لليونان.
وهذا الموقف نقيض لموقف أبناء العربية المعاصرين الذين ما أن تعرفوا على أشعار الأمم الأوربية ووجدوها بلا قافية وتقوم على نظام السطر، سرعان ما نبذوا مذهب أسلافهم العرب في قرض الشعر، وتنكروا لنظام البيت والقافية تقليدا وليس ضرورة.
هذا، ولا تثريب على شرّاح أرسطو العرب إن هم شبهوا المأساة بشعر المديح، والملهاة بشعر الهجاء. فهذه المقاربة لها سند في كتاب أرسطو، فقد ورد عنده ما يؤيدها. فالوصف الذي أورده أرسطو للمأساة يتطابق مع المديح في الشعر العربي، كما يتطابق وصفه للملهاة مع الهجاء عندهم. وقد وردت الإشارة صريحة عند أرسطو، إلى أن التراجيديا (المأساة) تطورت عن شعر المديح كما تطورت الملهاة عن شعر الأهاجي(10).
لمّا كان ذلك، فلا نرى مسوغاً لتأسف الدكتور عبد الرحمن بدوي على شروح الكتاب العرب لكتاب أرسطو في الشعر بحسب زعمه.
يقول بدوي في المقدمة التي كتبها لترجمته كتاب (فن الشعر) لأرسطو عن اليونانية: "ولهذا لا يخرج المرء من قراءاته لهذه التلخيصات التي وضعها الفارابي وابن سينا وابن رشد إلا بشعور أليم بخيبة الأمل في أن يكون العرب قد أفادوا منه كما أفادت أوربا في عصر النهضة"(11).
فهو يؤسس فرضيته بعدم فهمهم لأرسطو كونهم لم يحذو حذو اليونان في الشعر ولم يقلدوهم في كتابة الملاحم والمآسي الشعرية. يقول: "فلو قدر لهذا الكتاب، كتاب (فن الشعر) لأرسطو أن يفهم على حقيقته وأن يستثمر ما فيه من موضوعات وآراء ومبادىء، لعني الأدب العربي بإدخال الفنون الشعرية العليا، وهي المأساة والملهاة، ولتغيّر وجه الأدب العربي كله"(12).
هكذا يرى العلّامة الدكتور عبد الرحمن بدوي، وكثيرون غيره من طلائع الكتاب والمفكرين العرب أن الأدب العربي ناقص كونه خلا من الشعر القصصي والمسرحي. وذلك لأنهم فهموا "عالمية" الأدب فهماً خاطئا ظانين أنها تعني احتذاء النماذج الغربية في الأدب. فالعالمية لا تعني أن هناك نموذجا عالميا ينبغي على كل شعراء العالم قرض الشعر على منواله وإنما تعني إبراز الخصوصية الإبداعية التي تكشف عن الأصالة والتميز الأدبي لأمة من الأمم.
وكان رائد الرومانتيكية الألمانية شيلغل (1767-1845م) قد صك مصطلح (الأدب العالمي) فنشره جوته وروج له بعد أن طبقه على نفسه. وهو لا يعني بالأدب العالمي "الاهتمام بالأجنبي أو الغريب عنا لغرابته، ولا يستتبع بالضرورة إنكار الطابع القومي وطمسه في "عالمية" وهمية شاحبة مجردة"(13).
الأدب العالمي بهذا المفهوم، ثمرة من ثمرات النزعة الإنسانوية humanism التي برزت في عصر النهضة الأوربية وتوجت بعصر التنوير فهي تؤمن بوحدة التراث الإنساني والحضارات، وكان جوته وشيلر وهرْدر وأصحابهم يطمحون من وراء الترويج لمصطلح (عالمية الأدب) إلى "إرساء مبادىء الاحترام المتبادل والمتسامح بين الشعوب والأمم وليس صب آداب جميع الشعوب في قالب واحد".
فليس "المراد من فكرة الأدب العالمي أن تتماثل كل الأمم في التفكير، لأن مثل هذا التماثل غير مطلوب وغير مرغوب فيه أصلاً وإنما المراد به هو الدعوة إلى الاختلاف والتنوع في آداب الشعوب الذي ويحق لها ان تسعد به"(14).
الأمر المهم إن خلو الأدب العربي من الشعر الملحمي والقصصي لا يعني خلوه من فن الملاحم والقصص بأنواعه، غير أنهم رأوا أن النثر أليق به من الشعر، وهو ما استقر عليه فن القصة في العالم في العصر الحديث.
فالتراث العربي يزخر بالقصص والحكايات والأخبار والأحاجي والملاحم منذ "أيام العرب" وحرب داحس والغبراء، وحرب البسوس، وحتى ظهور "كليلة ودمنة" و"ألف ليلة وليلة"، وفن "المقامات"، إلى عهد الملاحم الشعبية مثل السيرة الهلالية والزير سالم وغيرها.
والحقيقة إن القصص الأوربي تأثر بالقصص العربي أكثر من تأثره بالشعر القصصي اليوناني. وفي ذلك جِبّ: "ومها يكن مقدار ما للشعر العربي من فضل في إثارة العبقرية الشعرية في الشعوب الرومانية الجنوبية، فإن ما تدين به أوربا في العصور الوسطى للنثر العربي لا يكاد يكون موضع جدل"(15).
ويعدد جِبّ الكثير من القصص الفرنسية والأسبانية والألمانية والدنماركية والإنجليزية باسمائها وهي قصص مركزية في تراث أممها، ويقول هذه القصص إما أنها من أصل عربي أو ظهرت نتيجة للتأثيرات العربية.
وأما عن تأثير قصص ألف ليلة وليلة فيقول جِبّ: "لسنا مبالغين إن قلنا إن قصص ألف ليلة وليلة قد هدت كُتّاب الشعب إلى الباب الذي كانوا يبحثون عنه، أو قلنا إنه لولاها لما عرف الناس قصة روبنسن كروزو أو ربما لم يعرفوا كذلك قصة رحلات جولفر"(16).
بل حتى القصة الحديثة أو الرواية novel في أوربا فنجد بدايتها كما يقول جِبّ متأثرة بالتراث العربي الأندلسي. "فسرفانتيس Servantes نفسه كان مديناً للثقافة الأندلسية وقصته دون كيخوته Don Quixoto كما صرح بريسكوت أندلسية بحتة فيما يظهر فيها من لباقة وفطنة. وقد تأثر بالثقافة الأندلسية غير سرفانتيس عدد من رجال الأدب الأسباني لا يكادون يقلون عنه أهمية"(17).
وإذا كان أبناء العربية في غمرة انبهارهم بالنموذج الأوربي قد رأوا خلو الشعر العربي من الشعر القصصي والمسرحي، منقصة، فلا أحد من كبار الأدباء والشعراء الغربيين وجهابذة الاستشراق، عاب على الشعر العربي القديم خلوه من الملامحم والمآسي الشعرية بل هناك من عدّ ذلك فضيلة تحسب للعرب وللشعر العربي.
ومن هؤلاء الفيلسوف واللغوي والمؤرخ والمستشرق الألماني الكبير "هِرْدَر" صديق جوته والذي لفت نظر جوته إلى قيمة الأدب العربي. وكان هردر قد نشر بحثاً سنة 1778 (حول أثر الأدب في عادات الشعوب القديمة والحديثة) تحدث فيه عن مكانة الشعر العربي وتميزه جاء فيه:
"ألا ما أروع أشعار العرب إنها حقاً مرآة لطريقتهم في التفكير والحياة.، وعندما أخذوا من الإغريق ما أخذوا، لم يقبلوا أساطيرهم ولا روح الصنعة الشعرية عندهم، وإنما ظلوا أوفياء لأشاعرهم مثلما ظلوا أوفياء لدينهم وعاداتهم بل الشعر هو الذي مكنهم من المحافظة عليهما"(18).
بل أن هردر يرى في كتابه ideen (أفكار) أن منزلة الشعر العربي لا تدانيها منزلة، يقول: "فلا يوجد شعب شجع الشعر وارتقى به إلى تلك المنزلة التي ارتقى إليها العرب في عصورهم الزاهية"(19).
ويمضي إلى القول: "يرى العرب في لغتهم أعز ما يملكونه، وفي هذه اللغة الثرة الجميلة تكونت علوم وفنون شعرية وفلسفة وكان الفن الشعري ميراثهم القديم إنه وليد الحرية.. فكان (عبقرهم) الملهم يتجسد في صور رائعة خلابة وفي كبرياء ومشاعر جياشة وعبارات تنم عن فكر ثاقب إلى جانب شيء من الإسراف في المديح والهجاء"(20).
كذلك يرى المستشرق الإنجليزي السير شارلس ليال Charles James Lyall (1845-1920) مترجم كتاب "المفضّليات"، في المقدمة التي كتبها لترجمته لمختارات من الشعر العربي القديم The translations of :
Ancient Arabian Poetry, London 1885,
أنه من الخطأ قياس الشعر العربي على الشعر اليوناني وإنما يجب أن ننظر إليه في خصوصيته التي يستمدها من تميزه وتفرده. يقول:
"إن شكل الشعر العربي القديم وروحه أمرٌ متميز واضح غير أنه ليس من السهل أن نجعله في حيز أحد هذه الأضرب التي يعرفها النقد الأوربي. إنه ليس بملحمي ولا بقصصي إلا حيث يكون وصف الحادث معيناً على إبراز صورة الشخصية، وأبعد من ذلك أن يقال مسرحي لأن الشخص الوحيد والمقياس الوحيد المعروفين للمتكلم هما نفسه ومثله الأعلى الذي يعتقده".
وانطلاقاً من ذلك يصف "ليال" القصيدة العربية بأنها "تضع أمامنا سلسلة من صور الحياة التي يحياها صاحبها، مصورة بمهارة مقتدرة واثقة من نفسها وبمعرفة صادرة عن مشاهدة وممارسة..، وكل هذه الصور مع ما يبدو من هلهلة الربط بينها، تخضع خضوعاً لفكرة واحدة، هذه الفكرة هي فض الشاعر مكنون صفحات قلبه تباعاً، من ضروب إعجاب وضروب بغضاء، ومن قوة نفسه وحرية روحه"(20). انتهى.
ويذهب شاعر ألمانيا الأكبر جوته أبعد من ذلك ويرى أن "الطابع الأسمى للشعر الشرقي هو ما نسميه نحن الألمان Geist أي الروح. إن هؤلاء الشعراء تحضرهم كل الأشياء ويربطون ببساطة بين أشد الأشياء بعداً وتبايناً، ولذلك يقتربون مما نسميهم بالذكاء أو روح الدعابة witz. ومع ذلك فإن هذه المزايا ليست مقصورة على الشعراء وحدهم، فالأمة كلها تتميز بالفطنة والدعابة، كما يستنتج من الحكايات والنوادر التي لا حصر لها"(21).
وفي سياق الحديث عن هذه "الخصائص الجوهرية للشعر العربي"، يضيف جوته: "النظرة الشاملة إلى عالم الأشياء، والسهولة في النظم، ثم نوع من التلذذ، وميل فطري في الأمة إلى الألغاز والتورية"(22).
ويذهب إلى مثل هذا أكثر المستشرقين الألمان من أمثال بروكلمان ونولدكه وغيرهم. وفي مقدمة ترجمته للقصائد المعلقات العربية إلى اللاتينية والإنجليزية يصف المستشرق البريطاني وعالم اللغات الفذ والقاضي، السير وليم جونز (1746-1794) كل قصيدة بقوله:
"إن معلقة امرئ القيس لينة، مرحة، ناصعة، أنيقة، متنوعة الأغراض رشيقة. أما معلقة طرفة، فجرئية، جياشة بالعاطفة، متوثبة، ومع ذلك يشع فيها شيء من البهجة. ومعلقة لبيد، خفيفة، غرامية، أنيقة، رقيقة، وهي تذكرنا بالرعوية الثانية لفرجيل، لأنه يشكو من كبرياء الحبيبة وتكبرها ويتخذ من ذلك فرصة لتعداد فضائله والتفاخر بقبيلته. ومعلقة عنترة تبدو متكبرة، متوعدة رصينة فخمة، وإن كانت لا تخلو من جمال الأوصاف والصور. وعمرو (ابن كلثوم) عنيف سام، ميال إلى الفخر، أما الحارث (ابن حلزة) فهو على العكس غني بالحكمة والذكاء والكرامة"(23)
وكان جِبّ قد وضع يده على هذه الحقيقة البعيدة المغزى والعميقة الدلالات، في تمييزه بين الأدب الكلاسيكي (اليوناني والروماني) والأدب العربي.
فهو يرى أنه "إذا كان الأدب الكلاسيكي (اليوناني والروماني) قد حقق عظمته بالبساطة في التعبير والإيجاز وكبح جماح القلم. فإن الأدب الشرقي، نسيج محبوك باتقان من لغة بديعة ومن صور وأخيلة بعيدة المنال. وإذا كان الأدب الإغريقي يستميل العقول بجماله، فإن الأدب العربي والفارسي يروع الحواس بأخليته الغنية بظلالها وألوانها البلاغية الفاتنة"(24).
باختصار أراد جِبّ أن يقول إن الشعر العربي غني من حيث الصور الشعرية والأخيلة مقابل فقر شعر اليونان والرومان في هذه الناحية. ولكن المسألة في رأينا لا علاقة لها بـ"استمالة العقول" على حد تعبير جِبّ، بقدر ما لها علاقة بالفرق بين الذاتية والموضوعية في الأدب.
فالشعر العربي شعر ذاتي غنائي subjective من هنا كان تفوقه في التصوير البلاغي والأخيلة. وشعر اليونان والرومان شعر موضوعي objective (بحسب تصنيف الغربيين أنفسهم) لأن معالجة الأحداث والوقائع في الملحمة القصصية أو المسرحية الشعرية يتطلب النظرة الموضوعية واستخدام اللغة التقريرية والميل إلى المباشرة في التعبير.
هذا الفرق الذي أشار إليه جب هو في الحقيقة كان الدافع وراء إحداث الانقلاب في المزاج الأوربي في العصور الوسطى لصالح روح الأدب العربي. وكان هذا الإنقلاب كما يقول جب "مظهراً من مظاهر حركة فكرية عامة شملت تلك العصور".
فقد ضاق الناس، كما يقول، بالعقلية الدينية الضيقة التي فرضها عليهم رجال الكنيسة، "ولما لم يجدوا متسعاً فيما لديهم من الآداب اللاتينية لضيقها وجدبها وافتقارها إلى قوة الإبداع، كان لا بد لهم من أن يولوا وجوههم شطر جهة أخرى لعلهم أن يظفروا بما كانوا يرغبون فيه. ولقد كانوا إلى ذلك الحين يعترفون على مضض بتفوق العالم الإسلامي في الناحية الحربية فقط، ولكنهم ما لبثوا يومئذ أن لاحظوا في شيء من الخجل أنه يبزهم في الحياة العقلية أيضاً، بعد أن غمرهم فيض العلوم العربية مصحوبة بفيض الآثار الأدبية التي تغلغلت في جميع الآداب الأوربية الناهضة، فتمهد بذلك طريق الانقلاب الفكري الذي تمثل في عصر النهضة"(25).
واستمر هذا التغلغل حتى انبثاق الرومانتيكية التي انتظمت أوربا في أواخر القرن الثامن عشر. ولم تكن هذه الرومانتيكة الأوربية سوى استلهام وإحياء لروح الأدب العربي الغنائية الذاتية، وانقلاب وتمرد على الآداب الكلاسيكية (اليونانية والرومانية) والتي كان قد جرى إحياؤها في عصر النهضة الأوربية في القرن الرابع عشر كما سبقت الإشارة.
هكذا كانت نظرة الأدباء والشعراء والمؤرخين الأوربيين أصحاب النزعة الإنسانوية، قبل أن تسود النظرة الاستعمارية الاستعلائية الاقصائية المهيمنة في القرنيين التاسع عشر والقرن العشرين، ويكتمل الاستلاب الثقافي والتبعية الأدبية. ولا شك هؤلاء العلماء والأدباء الإنسانيون قد وجدوا في الشعر العربي ما افتقدوه في الآداب الكلاسيكية (اليونانية والرومانية).
وما افتقدوه فيها هذه الروح الغنائية الذاتية الفردية التي امتاز بها الشعر العربي، فاستلهموها في أشعارهم منذ نهايات القرن الحادي عشر مرورا بعصر النهضة الأوربية وحتى انبثاق النزعة الروماتيكية ولا تزال أثارها باقية إلى اليوم في الشعر الأوربي الحداثي.
ولكن مثل هذه الأراء لكبار العلماء والأدباء والمؤرخين والباحثين في الدراسات الشرقية عن قيمة الشعر العربي وحقيقته، مغيبة عن القارىء بل وعن جلّ الباحثين والدارسين في الغرب والشرق العربي على السواء. فالدارسون العرب في الغالب لا يقرأون ولا يبحثون إلا فيما يشير به عليهم أستاذتهم في جامعات أوربا وأمريكا. نقول في الغالب حتى لا نظلم أحداً.
وكان جوته قد وضع يديه عن الأسباب والمعوقات التي تحول دون تقدير الأدب العربي حق قدره في سياق حديثه عن الدور العظيم الذي قام به العالم الإنجليزي السير وليم جونز في ترجمة المعلقات العربية والتي يصفها جوته بـ"الكنوز الرائعة".
ويعرب جوته عن شعوره بأن جونز كان يحس بالألم الشديد من الانتقاص من قيمة الشعر الشرقي، ويلاقي شتى ضروب "المتاعب والمضايقات"(26).
ويرى جوته أن المعوقات والصعوبات التي تحول دون أن ينال الشعر العربي التقدير الذي يستحقه في الغرب هي: المعوق الأول "هيمنة المعيار الكلاسيكي المطلق القائم على الأسس الجمالية السائدة في الأدبين اليوناني واللاتيني".
والمعوق الثاني: الميل للإنتقاص من قيمة فن الشعر الشرقي، ليس بسبب المعوق الأول وحسب، بل لأسباب تتصل بالناحية القومية"(27).
والمفارقة التي تدعو للتأمل هي أن هذه الموانع التي حددتها جوته والتي تحول دون التقدير المستحق للأدب العربي في الغرب، هي نفسها التي حجبت عن الباحثين والقراء في العالم علاقة جوته بالأدب العربي وتقييمه له وتأثره العميق به في كافة أعماله الإبداعية المختلفة.
ففي كتابها (جوته والعالم العربي) والذي صدرت طبعته الأولى بالألمانية سنة 1988، تقول كاترينا مومزن Katharina Mommsen أستاذة الأدب الألماني بالجامعات الأمريكية:
"كان جوته يكن لقدماء العرب وآدابهم وآثارهم الدينية والثقافية حباً متميزاً يقوم على أواصر قربى باطنية. ففي كل مراحل حياته وإنتاجه يجد المرء آيات الشكر والامتنان لبلاد العرب". ولكنها تقول إن "الغريب في الأمر أن الدراسات لم تعر هذا الموضوع أهمية تذكر"(28).
وتضرب مثالاً على ذلك بكتاب الألماني فرتس شترش (جوته والأدب العالمي) الذي وصفته بالقيّم لكن "لا يعثر فيه المرء على أي ذكر لموقف جوته من الأدب العربي".
وكذلك كتاب الألماني "هانس بيرس" عن سيرة حياة جوته والذي لم يشر إلا إلى بحث وحيد عن علاقة جوته بالثقافة العربية كتب في أربع صفحات. وهذا النص للآسف مع قصره تقول مومزن قد "اشتمل على العديد من المزاعم غير الصحيحة وأنه في مجمله مضلل"(29).
وذلك في الوقت الذي "تتوافر فيه مؤلفات قيمة توضح لنا علاقات جوته بالثقافات الفارسية والهندية والصينية" غير أننا كما تقول مومزن "نفتقد بحوثا مشابهة توضح لنا علاقته بالثقافة العربية".
وحتى أشهر أعمال جوته في هذا المجال وهو (الديوان الشرقي للشاعر الغربي) ينصب اهتمام الدارسين على علاقة جوته، كما تقول مومزن، بحافظ الشيرازي وبلاد فارس، "ولا تحظى أجزاء الديوان المتصلة بالتراث العربي والإسلامي إلا باهتمام ضيئل"(30).

انتهى.
ا يونيو 2022

الهوامش والمصادر:

1- أرسطو، فن الشعر، نقله عن اليونانية: عبد الرحمن بدوي، مع شروح الفارابي وابن سينا وابن رشد، ص 162
2- المصدر السابق ، ص،169، 170
3- Plato, Republic, Book 2, Para. 364-379, Wordsworth Classic of World Literature, 1997
4- Plato, Republic, Book 3, Para. 380
5- أرسطو، فن الشعر، نقله عن اليونانية: عبد الرحمن بدوي، ص،162
6- المصدر السابق، ص، 169،170
7- المصدر السابق، ص 167
8- المصدر السابق، ص 201
9- المصدر السابق، ص8، 9،13، 18،
10- المصدر السابق، ص
11- المصدر السابق، مقدمة المترجم، ص، 56
12- المصدر السابق، مقدمة المترجم، ص 56
13- جوته، الديوان الشرقي للشاعر الغربي، ترجمه عن الألمانية مع مقدمة وشروح د. عبد الغفار مكاوي، ص62
14- كاتارينا مومزن، جوته والعالم العربي، ترجمة عن الألمانية، عدنان عباس علي، مراجعة د. عبد الغفار مكاوي، عالم المعرفة 194، الكويت، 1995،ص 13
15- جِبّ، الأدب، من كتاب: تراث الإسلام، الجزء الأول، مركز الترجمة القومي، القاهرة 2007، ص176
16- المصدر السابق، ص 202
17- المصدر السابق، ص 194،195
18- كاتارينا مومزن، جوته والعالم العربي، سبق ذكره، ص39
19- المصدر السابق، ص42
20- المصدر السابق، ص 41
21- عبد الطيب الطيب، المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، الجزء الرابع، ص3، 4
22- كاتارينا مومزن، جوته والعالم العربي، سبق ذكره، ص 43
23- جوته، النور والفراشة: الديوان الشرقي للشاعر الغربي، ترجمه عن الألمانية مع مقدمة وشروح د. عبد الغفار مكاوي، ص70،71
24- جِبّ، الأدب، من كتاب: تراث الإسلام، الجزء الأول، مركز الترجمة القومي، القاهرة 2007، ص182
25- المصدر السابق، ص 189،190
26- كاتارينا مومزن، جوته والعالم العربي، سبق ذكره، 35،36
27- المصدر السابق، ص 36
28- كاتارينا مومزن، جوته والعالم العربي، سبق ذكره، ص13
29- المصدر السابق، ص 23
30- المصدر السابق، ص13

abusara21@gmail.com
//////////////////////

 

آراء