عفــو الخـاطــر: ســمير الاســـكندراني تحـت ظـلال الـزيزفــون
كانت ليالينا بلون الثلج كنا نرقص الشاشا ويفضحنا النهار
"محمد المكي إبراهيم"
"وجهك مألوف، بل أعرفك، أمضينا معاً أوقاتاً طيبة. كيف حالك؟ أين كنت مختبئاً طيلة هذه الفترة؟ وماذا تفعل في دمشق؟ زائر مثلي؟ ومن أين أتيت والى أين أنت ذاهب؟ سنتحدث عن ذلك طويلاً فيما بعد." هكذا انهمرت أسئلة سمير الاسكندراني حينما التقى بي صدفة أمام مدخل كازينو دمشق الدولي المطل على نهر بردى وعلى ساحات معرض دمشق الدولي في الطريق إلى جامعة دمشق. تحدث اليّ باللغة الإيطالية التي يطوّع مفرداتها كما لا يفعل أحد من أساطين هذه اللغة الموسيقية الشاعرية. أدركت انه عرفني، بل تذكر لقاءاتنا في برلين معاً حينما بادرني بتلك اللغة الأجنبية المحببة الى قلبه. ثم انتقل الى المحكية المصرية لينسج غزلاً في دمشق والفنون في سورية. قلت له دمشق هي حيث يمتزج ابداع بلاد الشام وشوارد العرب من كل فج عميق، يأتون اليها ليصقلوا جواهرهم ويجلون معادنهم الثمينة فتبرق أول ما تلمع هنا. يأتون من بيروت وطرابلس وأرزها، وبغداد وبساتين نخيلها وأغوارها، والقدس ونواحيها، واليمن الى غير ذلك، رواة وحواة وشعراء ومغنين وملحنين ووراقين ولاجئين ينشدون الآمن والأمان فتفسح لهم الطرق وتنير لهم الدروب؛ منهم من يمكث طويلاً، لا يغادر الا الى مثواه الأخير، وبعضهم يشد الرحال الى دياره أو بلاد قصية بعد أن اشتد ساعده فيها وحملته جناحاه الى مبتغاه، الا أنت جئتها مكللاً بالغار. من هذا المكان الذي تقف على مدخله بزغت نجوم، ثم انطلقت منه الى رحاب واسعة، منهم "سلطان الطرب" جورج وسوف، وفيه اختتم صاحب دار الصياد، سعيد فريحه، إطلاق آخر طُرفه ودعاباته وروى آخر حكايته قبل أن يغادره عند الفجر الى النُزل فيسلم الروح. جال سمير بعينيه أرجاء المكان وأنا أحدثه ليثقب بنظراته ما وراء مدخل النادي الليلي الذي سيغني فيه، ويرسل بصره الى الجزء الآخر من هذا المجمع الفسيح، الى المطعم المكتظ بالرواد في تلك الأمسية من آماسي أواخر صيف دمشق حينما يغلق المعرض أبوابه فتُعتصر الكروم.
غنى سمير في ذلك النادي الاندلسيات وأغاني التراث وقليلاً من أغانيه ثنائية اللغة وبعض الأغاني الوطنية، فرواد الكازينو من الطبقة المخملية الدمشقية العريقة المتشربة بالنغم الشرقي، وضيوفه من أهل الطرب والتطريب لبنانيين وعرب آخرين يتسلطنون على عزف آلة القانون ونواح المزمار. هم لا يرغبون في موسيقى الغرب، إذ لها أماكنها، فقد كان يغني في ذات الوقت بنادي المعرض التجاري عبر النهر، المطرب اللبناني، سامي كلارك، الذي يذكره الصغار وكثير من الكبار بفاتحة مسلسل الأطفال (غريندايزر Grendizer). كان يغني الالحان والاغاني الغربية بالفرنسية والانجليزية.
نشدت سمير أن يعرّج على الشهباء، قبل مغادرته جلق الشام. إلى هناك ذهب من قبله سيد درويش بحثاً عن الألحان، فحلب هي مرتع الطرب، شوارعها وأزقتها وأروقتها مرصوفة بالطقاطيق التي تركها خلفه محمد عثمان فاستودعها المدينة ومن ثم أهل مدن المشرق قاطبة، شرفاتها تتدفق منها الأدوار، دوراً بعد دور، وباحات بيوتها تورق فيها الأنغام ما قبل عمر بطش وبعده، وتعًرش على حيطانها القديمة واسواقها العتيقة المقامات الشرقية فتتسلق الجدران ثم تتدلى حتى تبلغ القلعة. ضحكنا كثيراً، ثم دلف الى الكواليس وأخذت طريقي الى المطعم.
سألني صحبي عمن كنت أقف معه، فقلت لهم هذا سمير الاسكندراني، ولم أزد. لم يكن بحاجة الى تعريف. عرف الجميع البطل الاسطورة المقدام. قال أحدهم، عجبنا لاكتظاظ المكان برجال الامن الذين يرتدون الملابس المدنية. نعرف أن جميع النوادي الليلية والمرابع ودور اللهو والفنادق فيها رجال أمن نعرفهم ويعرفوننا، لكن ليس بهذه الكثرة. ولفت نظرنا وجود هشام شباط بالقرب منكم. هو لا يتزحزح من (الكاف دروا Les Caves du Roy) قيد أنملة. فعندما يريد رجل الامن الوسيم الانيق هذا معرفة رواد (الايجلون L’Aiglon) الذي يواجه معقله ويبعد عنه امتاراً تعد على أصابع اليد، لا يتجاوز عتبة كهوف الملك البتة، بل يدقق النظر في السيارات وأرقامها فيعرف من ملأوا الطاولات. كيف ترك عرينه وجاء الى هنا؟ كانت تلك أحجية لهم! لكن زال العجب بعد أن عرف السبب.
سألني سمير إن زرت برلين بعد ذلك. أجبته بأن صوته ما زال يتردد صداه في أرجاء قلب المدينة حتى عندما جاء الألمان الغربيون بفرقة (الرولينغ استونز The Rolling Stones) للغناء من أعلى مبنى بالقرب من الجدار الفاصل الذي يقسم المدينة الى غربية وشرقية، ونصبوا مكبرات الصوت المدوية على تماس مع البوابة العظيمة، يرومون اثارة الارتباك والاضطراب بين الشبيبة القادمين للمشاركة في المهرجان العاشر للشبيبة والطلبة العالمي في العام 1973، كنت اسمع شدوك لا غناءهم.
عرفت سمير الاسكندراني في برلين. فقد علمت بوجوده في فندق (اونتر دن لِندن Unter den Linden) – تحت ظلال الزيزفون – القريب من بوابة براندنبورغ عند السياج الفاصل بين الشطرين، فذهبت صحبة الناقد السينمائي وكاتب السيناريو المصري، رءوف توفيق، وصحافيين مصريين آخرين لتحيته والترحيب به. عرفنا انه سيغني في النادي الليلي الذي يحمل الاسم ذاته. لم يكن لدينا ترف الاستماع اليه في كل ليلة، فنحن نسكن في أطراف المدينة بينما يتوقف القطار الذي يقلنا من محطة فريدريش اشتراسه - وهو الشارع الذي يتقاطع مع شارع اونتر دن لندن الذي تزين جنباته أشجار الزيزفون - في منتصف الليل. كان سمير يقف على خشبة مسرح النادي قبيل منتصف الليل بقليل، إذ كان زبدة الحفل التي ينتظرها الرواد الساهرون بشوق وترقب. كان يغني فرانكو آراب وأنجلو آراب فتعلو أصوات الحاضرين طلباً لأغنية "يا مصطفى". كانت تلك الاغنية، التي لحنها محمد فوزي، وغناها المطربان بوب عزام وبرونو موري شقيق المطربة داليدا، الحمى التي سرت في أرجاء العالم منذ مطلع الستينيات وانتشرت بلغات عددا. كان غناء سمير لتلك الاغنية هو الاجمل، رغم أدائه لها بناء على طلب الجمهور وليس برضاه هو. غنى لهم "ديلايلا"، رائعة توم جونز، فرقصوا معها، وغنى لهم "غرباء في الليل"، تحفة فرانك سيناترا، فتمايلوا على جرس كلماتها، وغنى .. وغنى .. وغنى فأسكرهم طرباً وولهاً. كان حظنا أن نستمع اليه في عطلة نهاية الأسبوع فيفوتنا اللحاق بآخر قطار الى فريدريشهاقن، لنأخذ أول قطارات ايركنر، ضاحية برلين البعيدة، عند السادسة صباحاً. خلال الساعتين اللتين تفصلان بين نهاية الحفل وبدء سير القطارات، كنا نتسكع تحت أشجار الزيزفون قبل أن تنشر ظلالها. كان هنالك عشاق يسيرون خلفنا عند الفجر أينما اتجهنا، لكنهم لا يتابعون السير معنا لما يلج سمير الفندق. نراهم من بعيد واقفين هناك يتبادلون العناق، أو هكذا يبدو. لم يكونوا عشاقاً، بل كانوا من جهاز الاستخبارات الألماني الشرقي (اشتاسي) كلفوا بحراسة أحد أقرانهم من الأجهزة المصرية الذي يغني بصوت مترع بالانغام ذاخر بموسيقى العالم شرقاً وغرباً. قلت للمسرحي السوداني القدير والبحاثة، عثمان جعفر النصيري، لما بارحنا مسرح "برلينر انسامبل" بعد حضور مسرحية لبرتولت بريشت كانت بطلتها هيلنا فايغل، رفيقة المسرحي والشاعر الألماني الباذخ، دعنا نذهب الي حيث للزيزفون ظلال حتى في عتمة الليل، فقد نسمع صدى لسمير الاسكندراني؛ وددت لو كانت زيارتك أثناء وجوده. لكن لا بأس فلنمض بقية الليل هناك ونجول في هذه الانحاء حتى الفجر. كان لقائي بالنصيري صدفة اثناء استراحة بين فصلين. وحدثته عن المغني المجدد. طبع بريشت المسرح طيلة القرن العشرين وما تلاه. لم يتوان الناقد الأميركي الذي لا يبارى، ايريك بنتلي، على وضع بريشت على رأس القائمة ومسرح برودواي بنيويورك في أسفلها. وقلماً ما يعترف الأميركان بغير ابداعهم، حتى لشكسبير.
لم يتجاوز سمير الاسكندراني مرحلة المراهقة حينما ذهب مبتعثاً الى إيطاليا لدراسة الفنون الجميلة في مدينة بيروجيا، شمالي إيطاليا، وهي مدينة دور العلم والتلمذة تعج بمعاهد الدراسة. هناك التقطته استخبارات الكيان الصهيوني "الموساد" وعملت على تجنيده على يدي فتى يهودي مصري ثم رؤسائه فعلموه الكتابة بالحبر السري وفنون التجسس وما يريدون منه تزويدهم به. طلبوا منه الالتحاق بالجيش المصري ووعدوه بالمن والسلوى. أبت نفس الفتى اليافع أن تسري الخيانة في عروقه، فعاد الى مصر، وسعى الى مقابلة الرئيس عبد الناصر الذي كان متيماً به وبما يمثله من عنفوان وسؤدد وأنفة وكبرياء وجرأة وإقدام وحرية. أبى أن يبوح بسره لاحد غير الزعيم. لم تكن مقابلة عبد الناصر سهلة يسيرة، لكن سعيه أثمر في النهاية فحظي بالمقابلة ليرتمي في أحضان جمال قبل أن يروي له الحكاية. كان صلاح نصر حاضراً معهما. أشار عبد الناصر الى رئيس جهاز استخباراته وقال للفتى هذا الرجل يمثلني، تستطيع أن تمده بكل شيء، وهو سيقول لك ما نريده وما عليك أن تفعله. دربته الاستخبارات المصرية على فنون تجسس أخرى وعلموه كيف يستطيع أن يكون عميلاً مزدوجاً ناجحاً، وكيف يستطيع خداع من جندوه أول مرة. برع الفتى اللمّاح في حماية مصر وأمنها لتسقط على يديه ست شبكات تجسس صهيونية عاتية كانت تعبث بأمن مصر وأهلها وأمن العرب. أدى كشف هذه الشبكات على يدي يافع لم يتجاوز العشرين الى استقالة رئيس جهاز الموساد وزعزعة أركانهم. كان سمير يغني ويرسم في إيطاليا هاوياً، ثم احترف الغناء بعد أن كشف شبكات التجسس وظهر الى العلن، فانتهى دوره في هذا المضمار. لكنه بقي يغني لمصر حتى آخر يوم من حياته، إذ ملك حبه لها شغاف قلبه. وبقيت أشجار الزيزفون في برلين وظلالها تتذكر ذلك الصوت الجميل المليء المترف يتردد في أرجائها. رحل كما أراد حينما شدى لمصر:
وإن مت، يجعلني طوبة يعلّو بيها الجدار!
elsouri1@yahoo.com