عفوا ولكن القانون مع وزير المالية!

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم


كنا وعدناكم بحديث حول بن لادن له بقية بإذن الله، ولكننا سننحرف  لنقاش  حادثة  وزير المالية مع (السوداني)، فالصحيفة في يومي 17 و18 مايو انتابتها الدهشة بوجه السيد (علي محمود) وزير المالية لأنه فعل بالضبط ما هو متوقع منه. واندهش معها قطاع عريض من الصحافيين!
الصحفي الأستاذ أبو القاسم إبراهيم من القسم الاقتصادي بصحيفة (السوداني)، تهوّل مما سمعه قبل أسابيع من عظم الراتب "الذي يتقاضاة مسؤول كبير يعمل في مؤسسة تلي وزارة المالية وبنك السودان" وهو السيد عثمان حمد المدير العام بسوق الخرطوم للأوراق المالية.. ثم سعى ومعه الصحيفة حتى تحصلوا على نسخة من  العقد الذي بموجبه تولى وظيفته وفي العقد نص على راتب يبلغ 18 ألف جنيه شهريا ومخصصات إذا جمعت مع الراتب تجعله ينال 808 ألف جنيه سنويا أي ما يقارب المليار بالقديم. وفي تلك المخصصات مثلا أن بدل الكسوة يساوي 72 ألف جنيه سنويا وبدل العيدين 90 ألفا وعلاج وتذاكر سفر له وللأسرة، وما إليه. وبرأينا هذه الأرقام فلكية بأي مقياس عالمي سليم، ولكنها ليست مستغربة في دولة يصرف وكيل التعليم فيها مجرد حوافز لمهمة واحدة مقدارها  165 ألفا، ويصرف مسئول آخر مليونين (مليارين بالقديم) على تجديد مكتبه، وتسير بأقاصيص السفه الحكومي فيها الركبان، وحار الاقتصاديون في وصف مفارقاتها ومن ذلك ما ورد من أنه في عام 2005م صرف على كهرباء الفلل الرئاسية)1300 مليون دينار)  بينما صرف على تنمية المراعي في سودان المليون ميل مربع 100 مليون فقط! وعلى ذلك قس! دولة يعيش مسئولوها في قصور تحاكي بل تبز المظهر الخليجي المترف بينما شعبهم أحياؤه العشوائية بل بعض المخطط منها لا ترقى لإيواء البشر ولا حتى الأنعام في الدول المتقدمة. ولكن أبا القاسم رفع حاجب الدهشة وتعاظم عنده الأمر حينما سمع أن راتب رئيس الجمهورية هو 9 آلاف جنيه فقط، وراتب نائبه 7 آلاف فقط حتى "كاد الأمر أن يعصف بذهنه". مسكين أبو القاسم كاد ذهنه يذهب (سمبلة ساكت)! نعم المبالغ المعطاة لمدير سوق الخرطوم المالية غريبة وعجيبة ولا تتناسب مع حال مواطننا ولا دولتنا، ولكنها تتناسب جدا مع حال رؤسائه الذين قارنهم به ومع مخصصاتهم وصرفهم الظاهر (ولا نود الخوض فيما تتداوله أجهزة الإعلام من المال الباطن) والأغرب أن كل هذا يتم باسم الدين الذي ضرب راشدوه أمثلة بالغة في التعفف عن المال العام، دين  سمى الاعتداء على المال العام بالغلول، ومعلوم أن الاعتداء على المال العام لا يكون عبر الاختلاسات وحسب، بل المحسوبية وهدايا الناس للحكام والترخص في الأخذ من حق العوام لجيوب الخواص حتى ولو كانت رواتب مقررة وممهورة لها العقود، فطالما هو حق المواطنين كيف يوزع بدون علمهم ولا موافقتهم بهذا السفه، وكان سيدنا أبو ذر قال لمعاوية لا تقل مال الله بل هو مال المسلمين. ولكن دولة المشروع الحضاري توزع مال السودانيين ليس فقط بدون علمهم وتمنع متابعة الإعلام، بل حتى بدون علم مجلس إدارة السوق الذي بحسب السوداني لم تعرض عليه المخصصات! إنها أمور سرية إذن!
صحيفة السوداني، وشبكة الصحفيين السودانيين في بيانها بتاريخ 18/5، وصحفيون لحقوق الإنسان (جهر ) ببيان مماثل، وغيرهم أدانوا سلوك وزير المالية.. ومرد ذلك أن السيد الوزير تلقى أبا القاسم بوجه متحجر حينما رأى وثيقة التعيين بيديه، وأمر حراسه باقتياده وألا يدعوه حتى (يقر) بمصدر الوثيقة. ثم إن الوزير حمله معه في سيارة حراسه من  مكان التقاه إلى مباني الوزارة، وجعله الحراس بينهم مثل طازج الساندويتش، وكان العروبيون ترجموه: شاطر ومشطور وما بينهما طازج! وعن للوزير في الطريق أن يمر بمستشفى فضيل، ورجح الطازج المحبوس بين الشاطر والمشطور والمتسائل على غرار أنشودة (خواطر فيل: ظلموني ليه حبسوني ليه) أن الوزير إنما يعود مريضا! بدون أن يذكر أحد لأبي القاسم وجهة هم قاصديها ولا يفسر له ولا يعتذر (ما صحفي ساكت!).
أما رئيس القسم الاقتصادي بالصحيفة د. أنور شمبال فقد ذهب في إثر زميله يسأل فقوبل بنفس الطريقة الجلمودية حينما علم السيد الوزير أنه جاء خلف أبي القاسم، ورد على تساؤله عنه: "ما مصير زول يسرق مستندات من مكتبي؟!..لا تسألني منه واسأل الجهات التي (شالته)"، وقال له: (انت ذاتك دخلت هنا كيف؟، خارج نفسك قبل أن آمر باعتقالك، وتاني ما نشوفك في الوزارة!)
هذه  تصرفات  غير منظورة في دولة قانون ويحق وصفها بالبربرية، ولكن للأسف دولتنا هي كذلك. الأستاذ ضياء الدين بلال رئيس تحرير السوداني قال:"إن ما يقوم به وزير المالية يعد انتهاكاً لحرية العمل الصحفي، وبربرية لا تليق بوزير مركزي من المفترض أن يكون مؤتمن على المال العام ولكن يبدو أن الرجل فاجأته المستندات فأراد أن يغطي بتشنج ضوء الشمس بأصبعه." لكن حرية العمل الصحفي في سودان "الإنقاذ" تعني بالضبط ما قام به السيد وزير المالية. أما الأستاذ الطاهر ساتي، فكتب في السوداني ذاتها بالثلاثاء في عموده (إليكم) بعنوان: (عندما يجهل المسؤول قانون بلده.. وزير المالية نموذجا!!)  واستشهد ساتي بالنص الدستوري، وبقانون الصحافة، ليؤكد أن الصحفي يحق له البحث عن المعلومة، وقال (هذا معلوم لكل من يفك الحرف، ليس في طول البلاد وعرضها فحسب، بل في كل أرجاء الكرة الأرضية، ولكن يبدو أن وزير مالية السودان وحده يجهل تلك المعلومة)  وسنؤكد هنا أن ساتي ربما أشكل عليه المعلوم في كل الكرة الأرضية، فلم ينتبه كثيرا لقوانين بلادنا نحن: بقعة الظلمة والقيود التي صنفتها منظمة مراسلون بلا حدود بين الدول شديدة التقييد لحرية الإعلام للعام 2010م، فمن بين 178 دولة في العالم كنا في الخانة 172 بقيود نسبتها 85.33%، فنحن لسنا في أمر (حرية الصحافة) على خارطة الكرة الأرضية التي يذكرها ساتي: دول سيادة القانون التي تنص دساتيرها وقوانينها على حرية الإعلام ومن أولوياته حرية الوصول إلى المعلومات.
نحن في بلاد الوزراء فيها لديهم حصانة تمنع مقاضاتهم، وبالتالي فإن مطالبات شبكة الصحفيين بالتحقيق ستصل لطريق مسدود لأن الآمر  باحتجاز أبي القاسم كان الوزير. لقد   سبق لي وأن شاركت بورقة نقبت فيها بين التشريعات السودانية حول حق الوصول إلى المعلومات، وكانت النتيجة مفزعة. دعك من الدستور فذلك أمر قد بُلَّ وشُرِبَ ماؤهُ أو دُلِق، سيان! ولكن طالع معنا المادة  55 من القانون الجنائي حول إفشاء واستلام المعلومات والمستندات الرسمية: (من يحصل بأية طريقة على أية أمور سرية من معلومات أو مستندات تتعلق بشئون الدولة دون إذن ومن يفضي  أو يشرع في الإفضاء بتلك المعلومات أو  المستندات لأي شخص دون إذن أو عذر مشروع يعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز سنتين أو بالغرامة أو بالعقوبتين معا، وتكون العقوبة مدة لا تتجاوز خمسة سنوات إذا كان الجاني موظفا عاما). لهذا بالضبط قال الوزير الذي يعرف قانونه: "ما مصير زول يسرق مستندات من مكتبي؟". والجواب هنا: السجن لسنتين أو الغرامة أو العقوبتين معا! كان الوزير مضيافا مع السيد أبي القاسم حينما حوله لحراسه ليأخذوه لأمن الوزارة، ولا بد أنهم قد قدروا أن الفضيحة التي تعود عليهم جراء التعنيف على الصحفي أو محاكمته أكبر من تركه يمر، لكنهم لو أرادوا (حكها) حتى تدمي لما خذلهم القانون وكان لهم يدا ساندة وحجة دامغة. إن الإفشاء بالمستندات الرسمية السرية جريمة نكراء في عرف القانون السوداني، يمكن فيها قبض المجرم بدون أمر قبض. ارجعوا  فقط لقانون الاجراءات الجنائية للعام  1991 (المادة 68-2- أ)، حيث الجدول (ب) يذكر الجرائم المعاقب عليها بموجب القانون الجنائي لسنة 1991م التي يجوز فيها القبض بدون أمر من وكالة النيابة أو المحكمة، ومنها: (أ) الباب الخامس،  المادتان 55 و57.  ولنتذكر أن المادة 55 هي المتعلقة بإفشاء واستلام المعلومات والمستندات الرسمية!! وواضح جدا أن وثيقة العقد وتفاصيله تعد أمورا سرية ولم تعرض حتى لمجلس إدارة السوق الذي نفى علمه بالمخصصات.
احتج بعض الكتاب لحق الصحفي في الوصول للمعلومات بقانون الصحافة، ونحن نعلم أن قانون الصحافة لسنة 2004م كان ينص في المادة ـ(22) الفقرة (2) أنه (على كل موظف عام وكل شخص أو جهة ممن في حيازته معلومات عامة تتعلق بالدولة والمجتمع إتاحة تلك المعلومات للصحافيين خاصة والجمهور عامة ما لم تكن قد سبق تصنيفها بموجب قانون أو لائحة أو قرار على أنها معلومات لا يجوز نشرها) وهو نص ناقص لأنه يستثني المعلومات المصنفة، والتصنيف سبق وعمم السرية للمستندات الرسمية بالقانون الجنائي، ولكن حتى هذا النص الناقص الذي كان يحتاج للتطوير تم القضاء عليه نهائيا في التعديل الأخير للقانون عام 2009م، ذلك أن المادة 27-2 من القانون الحالي تقول: "يجوز لأي موظف عام أو شخص أو جهة ممن في حيازته معلومات عامة بالدولة والمجتمع إتاحة تلك المعلومات للصحافيين ما لم يكن قد سبق تصنيفها". أي صار الأصل هو حجب المعلومة ويجوز لأي موظف إتاحتها وبالطبع يمكنه حجبها بل يجب عليه الحجب إذا قرر أنها سرية.
وما احتجت به شبكة الصحفيين من أن الوزير لا يمكنه حجب المعلومة ما لم تكن  صنفت سرية عبر  قانون فليس دقيقا لأن القانون لسنة 2009 يقول إن التصنيف يمكن أن يكون (بموجب قانون أو بقرار من أي جهة مختصة على أنها معلومات لا يجوز نشرها) أي  يمكن عبر  قرار من الوزير (أو أي موظف) تصنيف عقد مدير عام السوق كوثيقة سرية حتى على مجلس الإدارة! أما ما احتجوا به من أن القانون يمنع مساءلة الصحفي والقبض عليه إلا بعد إخطار رئيس الاتحاد العام للصحافيين، فإن الفقرة ذاتها تقول (فيما عدا حالات التلبس) ويبدو أن السيد الوزير اعتبر أنه وجد الصحفي متلبسا بسرقة وثائقه كما يشي عنفه البالغ مع الحادثة، هذا فضلا عن أن للوزراء حصانات تحميهم. كذلك فإن الإدارات الأمنية الملحقة بالوزارات لها صلاحياتها ونحن نعلم أن اسم الأمن بنظر النظام يعني القدرة الهائلة واليد الطايلة: أي البطش العظيم وبحساب قانوني سليم!
ونحن في النهاية لا نريد أن نبرر لوزير المالية ما قام به أو ما يقوم به، فالعدل قبل القانون، ومن العدل أن يعرف السودانيون فيم تصرف أموالهم، ولكننا نحب أن نثبت ما كررناه من أن لدينا طاقم قوانين بالغة في التعنت والتقييد، وأن اللوائح أضل سبيلا وهذا ليس كلاما يطلق على عواهنه، بل بعد بحث دقيق عرض على قانونيين فأمنوا عليه..  إن الوصول للمعلومات في بلادنا هو شيء إجرامي في عرف قوانيننا أقرب لتعاطي الأفيون وتدخين الحشيش، بل حتى الحشيش قد برأه السيد وزير الداخلية، فصار التلويح بوثيقة عقد وقع عليها وزير المالية أمامه هو شيء أشبه بشهر سلاح في وجهه، فكيف لا يتدخل الحراس؟!
إن قوانيننا تجرم إفشاء الوثائق السرية، وتعرف السرية بترخص فيمكن أن يقرر فيها أي مسئول وفق هواه، وحتى حينما تحدثوا عن قانون للوصول للمعلومات عوملت مسودته بسرية فلم يفش هو ذاته للناس للتداول حوله! وحصلت عليه منظمة المادة (19): الحملة الدولية لحرية التعبير، وقالت إنه يفيد التكتم على المعلومات وليس إتاحتها! (ورقتها: تعليقات على مسودات قوانين للإعلام والوصول للمعلومات في السودان).
إلى الأساتذة الأجلاء أبو القاسم إبراهيم، وأنور شمبال، وضياء الدين بلال، والطاهر ساتي، والآخرين في (جهر) وشبكة الصحافيين.. لا تتعجبوا من تصرفات كهذه تتسق مع هذا النظام الذي لم يبعنا يوما حرية ولم يشتر منا يوما رأيا.. ولا تظنوا أننا في دولة تحكم بأعراف الكرة الأرضية المعلومة.. وادرسوا قوانينكم تعرفوا أن السيد الوزير تعنت، وتجاوز، وظلم، وتبربر وطغى وتجبر بعرفنا، ولكن القانون ليس في صفنا ولا في صف "حرية العمل الصحفي" بل في صفه! صحيح يمكن للصدمة الحالية بعد كشف تلك (النتفة) الصغيرة بنسبة  الصورة الكبيرة أن تستدعي التفاتا تحدث جرائه مساءلة في البرلمان كما جاء بالصحف في 19/5، وربما تقليص لمخصصات المدير، ولكن هذه ليست القضية، إنها منظومة اقتصادية شاملة تحول مال الشعب للجيوب الخصوصية (الاقتصاد الخصوصي كما  سماه الإمام الصادق المهدي) ومنظومة قانونية شاملة تجعل المسئولين فوق القانون وتفرط في حقوق المواطنين (قانون قراقوشي).
إننا قبل أن ندين وزير المالية علينا أن نقف وقفة صلدة أمام الاقتصاد الخصوصي ونطالب بإعادة توزيع الموارد على شكل عادل يعطي  الخدمات ما لا يقل عن 40% ويقلل من الصرف على السياديين والقطاعات الأمنية وكبار الموظفين. ووقفة صلدة كذلك أمام منظومة القوانين القاراقوشية التي تسبل الحصانات على المسئولين وتجعل تصرفات بربرية كتلك التي جرت ظهيرة الاثنين 16 مايو أمورا قانونية! وتجعل تصرفات أخرى محتملة مثل إعدام الناس لرأيهم أوخلافهم الديني، وجلد مرتديات البنطال، وتخفيف العقوبة على مغتصبي النساء والأطفال، وتجاهل التحرش، وسلب النساء حرية اختيار أزواجهن، ومنعهن السفر دون محرم، أو منعهن مزاولة بعض الأعمال قبل دخول العقد الرابع، واعتقال المعارضين لمدد قابلة للتجديد بدون مساءلة، وغيرها من المحن الموزعة في قوانين كالجنائي والأحوال الشخصية والأمن الوطني والنظام العام؛ هو عين القانون!
ولكن كل هذا الذي   قلناه لا يمنع من انحناءة  تحية للأقلام التي إذا لم تجد النور حولها أشعت، وفضحت الباطل حتى ثقبت ثقبا في جدار التعتيم..
وليبق ما بيننا
Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]

 

آراء